}

دراسة عن المجموعات الناطقة بكلام زناكة (1- 2)

من الراجح أنه مع بدايات القرن الماضي، عندما بدأت فرنسا سيطرتها على الفضاء الذي سيصبح لاحقاً موريتانيا، كانت اللهجة الأمازيغية التي يطلق عليها المتحدثون بها "آوَجْ انْ يُزْنَگن"، ويسميها الناطقون بالعربية من حولها كْلامْ آزْناگة ما تزال مستخدمة على نطاق واسع، نوعا ما، في المربع الجنوبي الغربي لموريتانيا الحالية. ولكنها لم تعد متحدثة الآن إلا من طرف بضع مئات من ثنائيي اللغة في أغلب الأحيان (الحسانية/ كْلامْ آزْناگة)، ينحدرون حصريا، فيما يبدو، من ثلاث مجموعات قبيلة هي: إدابلحسن، وتندغة، وبقدر أقل من ذلك كثيراً أولاد ديمان. وتسعى هذه الورقة إلى إعطاء لمحة اجتماعية ديموغرافية موجزة عن هذه المجموعات، وإلى تقديم بعض الأسباب التوضيحية لانحسار استخدامهما اللغة الأمازيغية.

 

لمحة عن الظروف الاجتماعية الديمغرافية

تتركز هذه المجموعات في حيز جغرافي رباعي الأضلاع، يحده من الشمال والغرب طريقا نواكشوط - بتلميت، ونواكشوط - روصو، ومن الشرق والجنوب خط يربط بتلميت باركيز، ويواصل في الاتجاه الجنوبي الغربي إلى الكلم ثلاثين على طريق روصو - نواكشوط.

ومن دون أن يكون بإمكاننا تقديم تقديرات دقيقة لأعداد هذه المجموعات (ففضلاً عن أن الإحصائيات الموريتانية لا توفر هذه الدرجة من الدقة على المستوى المحلي، فإنها لم تهتم أبدا بموضوع إحصاء الناطقين بالأمازيغية)، يمكننا القول إن العدد الأكبر من الناطقين بهذه اللهجة ينتمون إلى قبيلة إدابلحسن.

وتُظهر تقسيماتُ إدابلحسن البطونَ الآتية:

 

أولاد أعمر آگداش

 

أهل أبوبك ولد أشفغ محم، أهل الفاك، أهل أوبك ولد المختار، أولادآش (أهل أحمد الرايس، أهل أشفغ الحبيب، أهل عبد الله الولي، أهل محمذن الضعيف – وإلى أولاد آش يُلحق أهل يعقوب).

- وبأولاد أعمر آگداش تُلحق بعض الأسر ذات الأصول التندغية (أهل باب حاونا).

.أولاد بولمختار

أهل الحاج عبد اللَّ؛ أهل محمدا؛ أهل خيري؛ أهل عمر الأمين؛ أهل الحاج ولد الفاظل.

. أولاد اخطيرة

أهل محم؛ أهل حبيب اللَّ؛ أهل الفالل؛ أهل أبوبك؛ أهل أحمد؛ أهل الديناني (أهل أَلَفْظل)؛ أهل حموتة؛ أهل أبوبك.

. أولاد أحمد بن يوسف

أهل المزدف؛ أهل ابن أجوادي؛ أهل أبابك؛ أهل عبد اللَ بن يوسف؛ أهل أشفغ الغازي (من أصول قلقمية)؛ بعض أسر من أهل باب هاونا (من أصول تندغية).

. أولاد بو الفاللِّ

أهل شيخ الشيوخ؛ أهل المختار؛ أهل عالي.

. أولاد بنعمر

أهل أشفغ اعمر؛ أهل أشفغ أحمد؛ أهل المختار؛ أهل أبوبك؛ أهل محمد؛ أهل حبيب؛ أهل أحمد شللَّ؛ إداغْبرَتْ (من أصول مدلشية).

 إدوگتشللَّ.

أهل يندبوه؛ أهل باب ولد محمذن؛ أهل أحمد ولد ياغي شللَّ (أهل كنتَ، أهل حبيب ولد أحمد، أهل أشفغ أوبك، أهل اخطيرة ولد المختار).

وكانت ترتبط بمجموع هذه الأفخاذ والبطون المتفرعة عنها قبيلة إداشغرة، والتي تنزع حاليا نحو التمايز القبلي عن إدابلحسن.

ويضم الجدول التالي التجمعات الرئيسية للمجموعات المكوِّنة لإدابلحسن، والأعداد التقريبية للأسر التي تشكل هذه التجمعات البشرية، مع العلم أن العاصمة الموريتانية نواكشوط تضم حاليا نسبة معتبرة من المنتمين لهذه القبيلة. كذلك أظهرنا في هذا الجدول تقديرات إجمالية لنسبة الأسر التي ما تزال تتحدث كْلامْ آزْناگة، بحسب المعطيات التي قدمها من زودونا بالمعلومات؛ ولا تطمح هذه التقديرات إلا إلى تقريب الصورة. وبما أن هناك إجماعاً لدى من تحدثنا إليهم أن من دون الأربعين لا يهتمون إطلاقاً بالحديث بهذه اللغة، فإن نسبة الناطقين بكْلامْ آزْناگة، المشار إليها في الجدول تقتصر على من هم فوق الأربعين. ويمثل من تقل أعمارهم عن أربعين سنة نسبة سبعين في المائة من السكان، حسب الإحصائيات الموريتانية، ويبلغ متوسط أعداد أسرة البيظان خمسة أفراد. وتعتمد النتائج المقدمة أدناه على هذه المعطيات، ويمثل العمود الأخير العدد المفترض للناطقين بكْلامْ آزْناگة (عدد الأسر الناطقة بكْلامْ آزْناگة 1.5 بدلا من 5، لأن من تتجاوز أعمارهم أربعين سنة لا يمثلون سوى 30% من مجموع أعضاء هذه الأسر).

 

البطن

 

المكان

 

تعداد الأسر

نسبة الناطقين باكلام ازناكة

الأسر الناطقة باكلام ازناكة

تعداد الناطقين باكلام ازناكة

 

 

 

1-أولاد أعمر آگداش

تنچغماچك

150

100%

150

 

المسومية

100

100%

100

 

شبك

50

50%

25

 

تنديچمار

50

50%

25

 

بلغربان

200

100%

200

 

بير الفتح

100

50%

50

 

أجار

50

25%

12.5

 

مجموع أولاد أعمر آگداشْ

 

700

 

562.5

 

مجموع الناطقين منهم بكْلامْ آزْناگة

 

 

 

 

843.25

 

 

 

 

2-إدوگتشللَّ

بولنوار

100

50%

50

 

بوسدرة

100

50%

50

 

بير الددة

250

50%

125

 

لمبيديع

50

50%

25

 

الميمون

50

50%

25

 

سدرةُ

50

50%

25

 

الطيب

50

75%

37.5

 

العايدية

50

50%

37.5

 

مجموع إدوگتشلل

 

700

 

375

 

مجموع الناطقين منهم بكْلامْ آزْناگة

 

 

 

 

562.5

3-أولاد اخطيرة

الربينة

150

50%

75

 

 

اركيز

؟

؟

 

 

مجموع أولاد اخطيرة

 

150

 

75

 

مجموع الناطقين منهم بكْلامْ آزْناگة

 

 

 

 

112.5

4-أولاد أحمد بن يوسف

النبيطية

50

75%

37.5

 

 

الميمون

150

75%

112.5

 

 

سند

200

75%

150

 

 

بومية

50

75%

37.5

 

 

اركيز

50

50%

25

 

مجموع أولاد أحمد بن يوسف

 

500

 

362.5

 

مجموع الناطقين منهم بكْلامْ آزْناگة

 

 

 

 

543.75

5-أولاد بو الفاللي

أغرنچيت

100

50%

50

 

 

أغمنجنجرت

100

75%

75

 

 

الميمون

150

75%

112.5

 

 

بوحجرة

100

50%

50

 

مجموع أولاد بو الفاللي

 

450

 

287.5

 

مجموع الناطقين منهم بكْلامْ آزْناگة

 

 

 

 

431.25

6-أولاد بان أعمر

اندومري

200

50%

100

 

 

نواكشوط

؟

؟

 

 

مجموع أولاد بان أعمر

 

200

 

100

 

مجموع الناطقين منهم بكْلامْ آزْناگة

 

 

 

 

150

7-أولاد بو المختار

انكرمدي

200

25%

50

 

 

الجباي

50

25%

12.5

 

مجموع أولاد بو المختار

 

250

 

62.5

 

مجموع الناطقين منهم بكْلامْ آزْناگة

 

 

 

 

193.75

المجموع العام

 

2950

 

1825

 

المجموع العام للناطقين بكْلامْ آزْناگة

 

 

 

 

2737

 

ويتضح من هذه المؤشرات أن عدد الناطقين حاليا بالأمازيغية من إدابلحسن المقيمين في المناطق الريفية يبلغ2737. وإذا أضفنا إليهم الناطقين المستقرين بالمدن (بتلميت، وروصو، ونواكشوط خاصة)، والذين يمكننا أن نفترض أن أعدادهم ليست بالكبيرة جدا (الشباب هم من تستقطبهم أكثر الهجرة إلى المدن، ولهذا فهم من غير الناطقين بالأمازيغية، والتحدث بكْلامْ آزْناگة أمر لا تساعد عليه المدينة، بسبب طغيان الحسانية فيها). وإذا ما أضفنا بضع عشرات من الناطقين المنتمين إلى إداشغرة (حيث التحدث بكْلامْ آزْناگة أقل رسوخا بكثير مما هو لدى بقية إدابلحسن)، فإنه يمكننا أن نصل بالعدد إلى قرابة 3500.

 

أما المجموعة القبلية المهمة الأخرى، والتي ما زال الاستخدام اليومي لكْلامْ آزْناگة موجوداً فيها، فهي تندغة. وعلى ما يبدو، فإن المنحدرين من البطن المسمى بالمثلوثة، والمكون من إچَواچْ وانديجگُرار وإدگْبالَّة، هم وحدهم الذين ما يزالون يحافظون على استخدام ذي بال لكْلامْ آزْناگة، من بين كل المجموعة التندغية. وحسب المعلومات التي جمعنا، فإن عدد أسرإچَواچْ (أهل محينيين وأهل أحي الأبوبك،...) تبلغ نحو 250 أسرة، وانديجگُرار (أهل جمال وأهل ابوه وأهل الكوري وأهل امرابط اتلاميد وأهل بايي وأهل ميتور) مئتان وخمسون أسرة كذلك. أما إدگْبالَّة (أهل أحمدو باب وأهل إميجن، ...)، فأعدادهم أقل من ذلك بكثير، وتقدر بنحو مائة وخمسين أسرة. ويتركز وجود أغلب هذه المجموعة في بضع قرى هي: بَجال ودبي والصواب ووادي الذهب واحسي الگردان وجدة واحسي الجدعة والصفاء والهناء وبومبري وآمورات. وتقع هذه القرى على طول الطريق الرابط بين نواكشوط وروصو، ما بين الكيلومتر ثمانين ومائة وثمانين جنوب العاصمة. ويؤكد من زودونا بالمعلومات أن كل الأفراد الذين تجاوزوا الأربعين من العمر ما يزالون يتحدثون كْلامْ آزْناگة. وإذا ما طبقنا نفس المعايير الديمغرافية التي استخدمنا آنفا مع إدابلحسن (يبلغ عدد أفراد الأسرة البيظانية خمسة أشخاص في المتوسط، ويمثل من تقل أعمارهم عن الأربعين 70%)، فإننا سنحصل على النتيجة الآتية:

البطن

عدد الأسر

عدد الأفراد

عدد الأفراد فوق 40 سنة

عدد الناطقين بكْلامْ آزْناگة

إچَواچْ

250

1250

375

375

انديجگُرار

250

1250

375

375

إدگْبالَّة

150

750

225

225

المجموع

650

2725

975

975

 

هكذا إذن، يكون مجموع الناطقين بكْلامْ آزْناگة من تندغة، حسب هذا التعداد، 975 شخصاً.

تجمع قبلي آخر يبدو أنه حافظ على استخدام كْلامْ آزْناگة حتى خمسينيات القرن المنصرم هو أولاد ديمان، خاصة ضمن مجموعتي أولاد يُقْبَنللَّ (أولاد بابحْمد، أولاد باركللَّ، أولاد بوميجة) - وهي المجموعة التي ينتمي إليها المختار ولد حامدن - وإدَابْهُم (ولكن بمستوى أقل). ولم يبق اليوم من الناطقين بهذه اللغة من بين أبناء المجموعتين سوى أفراد قلائل، طاعنين (جدا) في السن.

وإذا قدرنا أن أعدادهم لا تتجاوز المائة، فإن ذلك سيعطي الحصيلة الإجمالية الآتية:

المجموعة

عدد الناطقين بكْلامْ آزْناگة

إدابلحسن

3500

تندغة (المثلوثة)

975

أولاد ديمان

100

المجموع العام

4575

 

وجدير بالذكر أن رقم 4575 للناطقين بكْلامْ آزْناگة الذين يمكن إحصاؤهم في موريتانيا لا يعدو كونه توضيحياً. والغرض منه إعطاء فكرة عامة عن عدد الناطقين بهذه اللغة، في ظل غياب تعداد دقيق، لا يتوفر له ذكر في أي مصدر، حسب علمنا. وإذا ما اعتبرنا هذا الرقم معيارا مرجعيا، حتى ولو كان مبالغا فيه بعض الشيء (ربما كان يجب رفع عتبة السن بالنسبة لآخر الناطقين بهذه اللهجة من أربعين سنة إلى خمسين...)، فإنه يظهر انحسارا واضح المعالم في أعداد الناطقين بهذه اللهجة منذ منتصف القرن الماضي، إذ قدر بول ديبي [1] أعداد المتحدثين بكْلام ازناكة بـ 13.000، سنة 1940.

 

قبل التحولات التي حدثت منذ الفترة التي قام فيها ديبيي ببحثه، وهي التحولات التي اشتدت وطأتها، كما سنتطرق إلى ذلك لاحقا، بصفة خاصة ابتداء من سبعينيات القرن العشرين، كانت المجموعات الناطقة بكْلامْ آزْناگة تعيش في وسط ريفي ذي طبيعة رملية (بِيرويْتْ، وانْوَالالانْ، وإگيدي، ولِعْگِلْ، وآتْكُورْ..). وتشق الفيضانات الموسمية لنهر السنغال وروافده بعمق التخوم الجنوبية لهذه المناطق، فيما يشكل امتدادا لسهل شمامة المحاذي للنهر. وكانت معدلات التساقط المطري السنوي، قبل 1970، تراوح بين 250 و300 ملمتر سنوياً. وكان وجود غطاء شجيري كثيف (خاصة أشجار القتاد المثمرة للصمغ العربي)، تعززه مراع موسمية معتبرة في بعض الأماكن، يوفر ظروفا ملائمة لتربية الأبقار والأغنام، من دون الحاجة إلى الانتجاع البعيد. وكانت الذرة (تغلِّيتْ) والدخن (بِشْنَة) وبذور البطيخ (الشِّرْكاشْ)، والتي تزرع في شمامة، تشكل أغلبية الحبوب المستخدمة في التغذية التي يحتل فيها اللبن الممزوج بعصيدة الدخن الكثيفة (العيش) مكانة مركزية. ويوفر جني الدخن البري خاصة، المسمى بـ"آزْ"، والصيد في هذه المنطقة التي تنتشر فيها الطيور المائية إضافات غذائية معتبرة. وساهم القرب من السنغال، وانتشار أشجار القتاد المنتجة للصمغ العربي، في قلب الفضاء الجغرافي الناطق بكْلامْ آزْناگة، بالإضافة إلى وجود سباخ الملح، ("انتررت" و"اتويديرمي، وغيرهما) في الأطراف الجنوبية الغربية لهذا الفضاء، في قيام ونمو تبادلات تجارية مع المراكز التجارية الفرنسية على نهر السنغال، منذ إنشاء اندرسنة 1659. وعلى الرغم من أهمية هذه التبادلات بالنسبة للمجموعات القبلية موضوع دراستنا، (المنسوجات ووسائل "الرفاهة"[2].. إلخ)، وعلى الرغم من كثافة العلاقات الاقتصادية والروحية مع الضفة الجنوبية للنهر، خاصة خلال الفترة الممتدة بين بدايات الاستعمار وحتى ثمانينيات القرن العشرين [3]، فقد نجح الفضاء الجغرافي الذي يُتحدث داخله كْلامْ آزْناگة في الحفاظ على عزلته النسبية وعلى خصوصية أنماط حياته، وساعده في ذلك الطابع الرملي لأرضه، وندرة المسالك والطرق، إن لم يكن غيابها التام.

 ومع ذلك، فقد كانت البُنى الاجتماعية الخاصة بهذا الفضاء الناطق بكْلامْ آزْناگة لا تكاد تتميز عن تلك الموجودة لدى جيرانهم البيظان. فقد كان الإطار الأساسي لتحديد هويات الأفراد والمجموعات هو القبيلة، وهي بصفة تقريبية مجموعة من الأفراد، تقل أو تكثر، يعتبر أعضاؤها أنهم مرتبطون بعلاقات قرابة أو تضامن أو تبعية؛ وينتمون على الأقل بالنسبة لصميم القبيلة إلى جد مشترك، يعطي للقبيلة اسمها مثل سيدي يحيى بالنسبة لإدابْلحسن، وتنتق أو تندغ بالنسة لتندغة (وابنه عَچَّة بالنسبة للمثلوثة)، ومهَنضْ امْغرْ بالنسة لأولاد ديمان.

 ومع أن القبيلة مؤسسة، في التصور المثالي لها، على مبدأ التكافؤ بين أفرادها المنتمين إلى الجد الجامع الذي تحمل القبيلة اسمه، والذين ينادون بعضهم بعضا أبناء العم، فهي كذلك ذات بنية تراتبية يرتبط داخلها التابعون (عبيد وحراطين وامعلمين) بسادتهم القبليين، والذين كانوا يحملون معهم، طوعا أو كرها، الهم القبلي، على الأقل في العلاقات الخارجية، وخاصة في ما يتعلق بالدفاع عن الأملاك العقارية المشتركة للقبيلة. ويتم الزواج في أغلب الحالات داخل إطار القبيلة. وتتجسد وحدتها في التمتع ببعض الامتيازات المشتركة، مثل الادعاء بامتلاك أو حيازة موطن محدد، ووضعِ أفراد القبيلة ميسما موحدا على قطعان أنعامهم، واشتراك الذكور البالغين منها في الواجبات الجماعية التي تتحتم على القبيلة (دفع دية من يقتله أحد أفراد القبيلة)، وحضورهم كذلك لجماعة القبيلة التي تتشاور حول القضايا ذات الأهمية. وقد سبق أن فرض أفراد - ذكور طبعا، بحسب ما يحتمه نظام الحياة التقليدي - أنفسَهم كزعماء للقبيلة، أو أن أدت تقاليد لها مكانة ما من الرسوخ إلى أن تكون المشيخة حقا امتيازيا متوارثا ضمن إحدى العائلات. ورغم ذلك، لا يبدو أن النظام القبَلي بشكل عام يستجيب للمساعي الهادفة إلى إقامة زعامة مستقرة. بل إنه يُظهر نزعة قوية نحو الانقسام وتشكيل وحدات قائمة بذاتها، تعبر في الغالب عن نزعاتها الاستقلالية بإبراز علاقات وقرابات نسَبية خاصة بها؛ ويدور ذلك عادة في إطار التنافس مع أبناء العمومة. وتستدعي الدراسات السوسيو-أنثروبولوجية، خاصة تلك التي تتكئ على إرث دوركهايم وإيفان بريتشار، في هذا الإطار، العملية المزدوجة للانقسام والاندماج، والتي تدخل بنيوياً في صيرورة المجتمعات القبلية "الانشطارية".


إدابلحسن وتندغة وأولاد ديمان

 ومهما يكن الأمر، يبدو أن المجموعات التي تهمنا هنا (إدابلحسن وتندغة وأولاد ديمان) لم تعرف أبدا زعامات عائلية مجمعا على قبولها، وقادرة على الاستمرار، إذا ما استثنينا ظروف الخطر الداهم، خاصة النزاعات الترابية. وحتى ولو أن الإدارة الاستعمارية الفرنسية (1902-1960)، وسعيا منها في المقام الأول إلى تحقيق أهدافها الخاصة (الحشد السياسي وجمع الضرائب)، استندت إلى وجهاء منحدرين من بيوتات وارثة في أغلبها لمكانة معتبرة في التراتبية القبلية، كانت تدفع لهم تعويضا، ويمكنها تبعا لذلك الاستغناء عنهم، إذا اقتضت الضرورة.

 

وبالإضافة إلى البنية التراتبية، داخل القبائل، والتي أشرنا إليها آنفا، توجد فروق في المكانة، وتراتبية بين القبائل. فداخل مجتمع البيظان، تتقابل تقليدياً القبائل المحاربة (لِعْرب أو حسَّان) مع القبائل المشتغلة بالعلم (الزوايا أو الطُّلبة) والقبائل الغارمة (اللحمة أو آزْناگة). وكانت القبائل المحاربة، التي تعيش أساسا بالاعتماد على اقتطاعات من الأنشطة الرعوية والزراعية التي تمارسها المجموعتان الأخريان، تؤسس مكانتها الأرستقراطية، في المقام الأول، على القيم المصاحبة للتصور المثالي للفروسية، التي يعتبرون أنفسهم مجسدين لها (الشجاعة في النزال، والحسم والحزم في اتخاذ القرار، ازدراء تام للعمل المنتج، والكرم والصدق، إلخ). أما القبائل المشتغلة بالعلم فتستمد مكانتها من التمسك بتعاليم الإسلام ونشرها. ومن المفترض أن القيم الأساسية المشكلة لشيم الزوايا (اسْتَزْوِي) هي التقوى والتواضع والرزانة، ودبلوماسية لا تخلو من بعض الازدواجية [4]، بالإضافة إلى التضلع من الثقافة العربية الإسلامية. ولا شيء يتعارض داخل هذه المنظومة الأخلاقية مع السعي، عن طريق العمل، إلى تحصيل أكبر مردود مادي ممكن. وغالبا ما يكون هذا العملُ عملَ آخرين: عبيد وأتباع (اتلاميد). أما فيما يتعلق بالقبائل الغارمة، فترى المجموعتان المسيطرتان أن دورهم يقتصر على القيام بأعمال الحياة اليومية (الخاصة بهم وبسادتهم)، وهي بالأساس في هذا المجتمع الرعوي الأنشطة المرتبطة بتربية الماشية. 

 وعلى الرغم من أن تسميات هذه المجموعات مختلفة المكانة (اعْرب وازْواية، وآزْناگة) تحمل شواهد على تأثيرات لمساريْ الأسلمة والتعريب، واللذين عرفها مجتمع البيظان منذ قرون، فإنه تتحتم علينا إزالة سوء الفهم الذي يمكن أن ينتج عن هذه التسميات أو تعضدَه. فيبدو أن مصطلح لعْرب أو حسَّان، الذي يطلق على المحاربين، يدل على وجود علاقة قوية بين الارتباط النسبي إلى بني حسان والانتماء إلى الأرستقراطية المحاربة. وهكذا، فإذا كانت هذه القبائل العربية (أو المستعربة) قد بسطت تدريجيا سيطرة لا غبار عليها، على أجزاء واسعة من اتْراب البيظان ابتداء من القرن السابع عشر الميلادي، فإن مجموعات أخرى تنتمي إلى سلالات نسبية مختلفة، مثل قبيلة إدوعيش ذات الشكيمة، التي طالما أشار إليهم المؤرخون [5] باسم آزْناگة، بدلالة ليست قدحية على الإطلاق، قد اشتركت مع أقوى عائلات لعْرب، هذه، نفس المكانة والمنزلة. وفي المقابل، من المعروف أن نشر وحماية الثقافة العربية الإسلامية (المكتوبة) كانت وراءه في الأغلب الأعم مجموعات قبلية ناطقة بكْلامْ آزْناگة. أما فيما يتعلق بتسمية آزْناگة، بمفهومها التراتبي، والتي تطلق على القبائل الغارمة، فليس هناك من ارتباط (نسبي) يذكر بينها مع كْلامْ آزْناگة، ولا مع انتماء من أي نوع لأصول أمازيغية. فهذه القبائل تضم، حسب ما يقول معظم النسابين، مجموعات مصنفة على أنها عربية الأصل، وأخرى كانت تتحدث كْلامْ آزْناگة (قبل أن تتخلى عن هذا اللسان)، وأخرى ذات أصول زنجية، على حد سواء. وباختصار، فإن مصطلحات لعْرب والزوايا وآزْناگة، تحيل إلى فئات اجتماعية، وليس إلى انتماءات عرقية أو لغوية.

 وفي التصنيف المشار إليه آنفا، تنتمي القبائل الثلاث، والتي ما تزال تتحدث كْلامْ آزْناگة إلى فئة الزْوايا. وتضم هذه القبائل في صفوفها بعض الأسماء الأكثر اشتهاراً لدى العامة بكونهم "أولياء" [6]. وقد حظيت إسهامات أبنائها في الإنتاج المكتوب لمجتمع البيظان، خاصة التراث الشعري (الفصيح والحساني)، بمكانة معتبرة [7]. وتنتمي هذه القبائل الثلاث كلها إلى الفضاء السياسي لإمارة اترارزة [8]، وهي وحدة ترابية ذات حدود غير ثابتة، تشكلت تدريجياً كوحدة سياسية في طريقها نحو المركزة، تحت سيطرة أمراء من أولاد أحمد من دامان، ابتداء من النصف الثاني من القرن السابع عشر. وقد ظل تماسكها الداخلي مهدداً بالحزازات بين القبائل المكونة لها، وبالصراعات على توارث السلطة داخل العائلات الحاكمة (هذا إذا لم يكن ذلك التهديد راجعا إلى التدخلات الخارجية للفرنسيين والإنگليز..).


 لعْرب وزوايا وآزْناگة

وكانت هذه الإمارة تضم قبائل من فئات مختلفة (لعْرب وزوايا وآزْناگة) تعترف بسلطة "السروال لَبْيظ" [9]، بدرجات متفاوتة. وقد ربطت علاقاتٌ وطيدة في بعض الأحيان، تراوحت ما بين الحماية والولاء والمشيخة الدينية، قبيلةَ الإمارة و/ أو بعض قبائل الترارزة الحسانية الأخرى بإدابلحسن وتندغة وأولاد ديمان. ورغم ذلك، فقد كان الحرص على إبراز خصوصية النموذج المثالي للزوايا عن منظومة القيم المنسوبة إلى القبائل الحسانية أقوى لدى هذه المجموعات منه لدى أي مجموعة زاوية أخرى، داخل اتراب البيظان. فلا يوجد في أي مكان آخر تمايزٌ واستقطاب بمثل هذه القوة بين الانتماء إلى هذه الفئة وتلك داخل مجتمع البيظان التقليدي. ويربط بعض الدارسين بين هذ التقابل الواضح للعيان وحربَ شَرْ بَبًّة أو شُربُبُّة [10]، التي تواجه فيها، نحو 1673، تحالف غالبيته العظمى من بني حسان، وائتلاف ذو أغلبية ناطقة بالأمازيغية، يقوده الإمام ناصر الدين، والذي كان يؤكد سعيه لإقامة دولة تطبق الشريعة الإسلامية، في الجنوب الغربي الصحراوي. وحسب أصحاب هذا الرأي [11]، فقد كان لهزيمة طرف الزوايا أمام محاربي بني حسان بقيادة هدي ولد أحمد من دامان، وهاجسِ تحويلهم إلى أتباع خاضعين (آزْناگة في التراتبية الاجتماعية) الذي ولدته الهزيمة دور ما في ترسيخ ورسم معالم بنية قيمية تشبه حاجزاً أخلاقياً، الغرض منه حماية الزوايا المهزومين من الخضوع والامحاء في المنظومة القيمية والأيديولوجية للمنتصرين. وربما يكون لهذا مساهمة في خلق مناخ لغوي مناسب لبقاء كْلامْ آزْناگة المهدد اليوم بشدة، والذي ظل لزمن طويل لغة الحميمية والاحترام [12] داخل المجموعة الناطقة به. فكيف حدث هذا التحول لكْلامْ آزْناگة من انتشار واسع للاستخدام، وإن كان محصوراً منذ فترة طويلة في منطقة الگبلة [13]، إلى هذا التراجع الحاد لنطاق تأثيره، كما هو اليوم؟

 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.