}

سكن المورسكي (1- 2):عمران ينطق بمآثر جماليّة وجوديّة

أثير محمد علي 31 مارس 2017
اجتماع سكن المورسكي (1- 2):عمران ينطق بمآثر جماليّة وجوديّة
اطلالة على قصر الحمراء، غرناطة

اعتادت معظم الأبحاث حول المُنجز الفني والمعماري الأندلسي أن تؤسّس تناولها على التملي والتفكر العلمي والنقدي في الصروح الحضاريّة الأندلسيّة البائنة، المهولة بفنيتها الشكليّة وبعمق مفهوم "الجميل" في محتواها، والتي تشفّ عن روحانيّة الرؤية الإسلاميّة وعن فلسفة جمال رسالة الإسلام السماوية. هذه الدراسة لا تفارق الاهتمام بمقاربة "الجميل" الأندلسي بل تسير في ذات الاتجاه، إلا أن مساربها تبتعد عن اتخاذ الآثار الشامخة موضوعًا لها، وتحاول أن تقتفي أثر ما خلفه الإنسان المورسكي الذي ألقَتْ به المحن التاريخيّة على قارعة الهامش، خارج حاشية المتن المجتمعي، في أزمنة الأفول الحضاري العربي، واشتداد وطأة ظروف الحياة على المسلم وخلفه في شبه الجزيرة الأيبيرية. كما تحاول تلمس ما بقي من عمران أُسقط من اعتبارات التأريخ عمومًا، أو لم يمنح الانتباه الكافي، برغم أنه عمران، بل "تركة" تبوح بتعبير فني ثقافي مفرد، وتنطق بمآثر جماليّة ذات معنى وجودي بليغ.
هنا حلقة أولى:


1- حاشية تاريخية

يتعالق الفن أو المنجز الثقافي الأندلسي عامة، والمورسكي على نحو الخصوص، مع التاريخ وحوليات الأيام بكثافة ملفتة للانتباه، حتى أن الباحث الذي يحاول أن يجتلي معالم الأثر المورسكي وخصوصيته الفنيّة وتعابيره الثقافيّة، يجد نفسه مستغرقًا في تفاصيل الأحداث التي أثرت على سيرة هذه الجماعة البشريّة، وما خلفته من ملامح تدلّ عليها بلا لبس في شبه الجزيرة الأيبيريّة.

كما هو معروف سقطت غرناطة عام 1492 بيد الملكَيْن إيسابيلا وفيرناندو، وهو نفس العام الذي وصل فيه كولومبوس إلى العالم الجديد بتمويل من السلطة المتحدة لتاجَي قشتالة وأرغون. بمعنى أنه عامٌ بالغ الدلالة في التاريخ العالمي، فسقوط مملكة بني نصر وضع الحدّ لوجود السلطة الإسلامية واستمراريتها في شبه الجزيرة الأيبيرية، وهو يشير أيضًا إلى دخول إسبانيا إلى تخوم أوروبا بتطلعها نحو الشمال، كقوة تاريخيّة مهيمنة بفعل تدفق الثروات إليها من ذهب وفضة العالم الجديد. وكل ذلك مقابل خروج العرب كقوة فاعلة ومؤثرة في التاريخ.

وكلما زاد اقتراب حكم العاهلين فرناندو وإيسابيلا من الفضاء السياسي الأوروبي كلما ابتعدت شبه الجزيرة الأيبيريّة عن أندلس الأديان الثلاثة، نحو إسبانيا محاكم التفتيش والتنصير القهري وأحادية العقيدة، والتعتيم على معنى الزمن الأندلسي بالكامل وتجنب أية ذكرى خصبة تتأتى منه (1).

وتُنهي كثير من المراجع الوجود الإسلامي ومؤثراته في شبه الجزيرة الأيبيرية مع تسليم غرناطة من قِبل الملك أبو عبد الله الصغير (1460-1527)، متناسية أن زوال السلطة لا يعني زوال المُكوّن البشري لمجتمع الدولة، بكل حمولته الثقافيّة والدينيّة والاجتماعيّة والإثنيّة المؤثرة في الفلك الذي يدور معيشها اليومي على مداراته.

وهنا أود أن أسلط الضوء على الوجود المجتمعي المورسكي في شبه الجزيرة الأيبيريّة، والذي استمر بشكل مباشر ومادي حتى بدايات القرن السابع عشر، وتحديدًا إلى حين الطرد الإقصائي الذي امتد رسميًا من سبتمبر 1609 حتى فبراير 1614، دون أن يفوتني التنويه إلى أن مؤثر ما هو إسلامي (وما هو يهودي كذلك) ما برح وجوده يناور بخفاء على طريقته الخاصة، مبتعدًا عن المباشرة والإعلان، حتى إمكان القول إنه يحايث البنية العميقة للهوية الثقافيّة الإسبانية إلى جانب المصادر الثقافية التي تشكل المسيحيّة الكاثوليكيّة واحدة من محتوياتها، الأمر الذي أكدت عليه وتناولته سلسلة من الدراسات الهامة، الحرة باستقلاليتها الفكرية. وأذكر منها دراسات المؤرخ أميريكو كاسترو (1885–1972) في كتابه المرموق "إسبانيا في تاريخها: المسيحيون والمسلمون واليهود" (1948)، وأبحاث المستعربَيْن بدرو مارتينث مونتابث (1933-) وكارمن رويث برافو (1947-) في مؤلفهما المشترك "أوروبا الإسلامية"، ومؤلفات الباحثة لوثي لوبث- بارالت (1950-) في كتابها "أثر الإسلام في الأدب الإسباني"، وصولاً إلى دراسات خوان غويتسولو (1931-) كـ"حوليات إسلامية" (1982)، وغيرها من الأبحاث العلمية الأكاديمية المرموقة التي قدمها، وما زال يقدمها، أساتذة في المراكز البحثية المختلفة.

إلى كل ذلك وفي الجانب المتطرف، لم يعترف الخطاب الأحادي البعد بأي تجاذب أو جدل مؤثر بين العناصر البشرية في إسبانيا المسلمة، لذلك يمكن تشبيهه بــ"خطاب الفصل العنصري"، فهو خطاب يضم السرديات الكبرى الملفقة للماضي الإسلامي وثقافته، والتي اُختلقت اعتباراً من القرن السادس عشر للقول بتواشج التاريخ الإسباني مع ما هو ما قبل إسلامي (روماني أو قوطي)، أو ما بعد إسلامي (الماضي الإمبراطوري لحكم كارلوس الأول وفيليب الثاني) (2) بغية تشديد القول على "نقاء الدم المسيحي" في هذه البقعة من الدنيا من الشوائب الثقافية والدينية، يهودية كانت أم إسلامية، وعليه لا يستغرب أنه مع بدء التنصير الجماعي القهري سنة 1502، تمّ صكّ مصطلحَي "المسيحي القديم" و"المسيحي الجديد"، وهذا الأخير هو المعمّد حديثاً سواء كان اليهودي أو المسلم.

هكذا يتم التعتيم على القرون التي تواشجت فيها جدليًا وتفاعلت وتعشّقت كافة المكونات البشرية في شبه الحزيرة الأيبيرية ما بين أخذ وردّ، توافقات وصراعات، سلام وحروب، سجالات وتحالفات، تعايش وتوتر، هدنة وتقاتل، مقايضة وتمثّل، تبادل وتكافل، تقارب وتسامح، علوم وخرافات، معرفة وعرفان، عقل وإيمان، وزواج مختلط وهجنة إثنية وثقافية وفنية... إلخ.

 

2- نحو اقتفاء الأثر المورسكي

اعتادت الأبحاث أن تؤسّس تناولها للمنجز الفني والمعماري الأندلسي على التملي والتفكر العلمي والنقدي في الصروح الحضاريّة الأندلسيّة البائنة، المهولة بفنيتها الشكليّة وبعمق مفهوم "الجميل" في محتواها، والتي تشفّ منها روحانيّة الرؤية الإسلاميّة وتنعكس عبرها فلسفة جمال رسالة الإسلام السماوية؛ فتعددت المواضيع الخصبة في المكتبة العربيّة حول قصر الحمراء، ومسجد قرطبة، ومدينة الزهراء، وقصر إشبيلية، وقصر الجعفرية، ومئذنة الخيرالدا، وعموم روائع العمارة الدينيّة في الأندلس، أو العمارة المرابطيّة، أو الموحديّة... الخ؛ أو تم التدقيق في تفاصيل من البنية المعماريّة والتصاميم التشكيلية والفنية المختلفة، من مثل فن المقرنصات، أو الزخرفة، أو الزليج ... إلخ.

دراستي هذه لا تفارق الاهتمام بمقاربة "الجميل" الأندلسي، بل تسير في ذات الاتجاه الذي سارت عليه معظم البحوث العربيّة، إلا أن مساربها تبتعد عن اتخاذ الآثار الشامخة، والمركزية العمرانيّة المبهرة للأدوار التاريخيّة الأندلسيّة المختلفة، موضوعًا لها، وتحاول أن تقتفي أثر ما خلفه ذلك الإنسان المورسكي الذي ألقَتْ به المحن التاريخيّة على قارعة الهامش، خارج حاشية المتن المجتمعي، في أزمنة الأفول الحضاري العربي، حينما ثقلت ظروف الحياة على المسلم، وعلى خلفه من أبناء وأحفاد في شبه الجزيرة الأيبيرية.

دراستي هذه تحاول تلمُّسَ ما بقي من عمران أُسقط من اعتبارات التأريخ عمومًا، أو لم يمنح الانتباه الكافي، ربما لمفارقته القياس المُكرّس، ومعيارية العظمة التي وجهت عنايتها لعمارة العهود الأندلسيّة المجيدة؛ برغم أنه عمران، بل "تركة" تبوح بتعبير فني ثقافي مفرد، وتنطق بمآثر جماليّة ذات معنى وجودي بليغ.

ومثالها الذي سأتناوله في هذه الدراسة، انطلاقًا من المشاهدة العيانية المتكئة على منجز البحث العلمي في هذا المجال، هو:

- البيت المورسكي في غرناطة.

- الكهوف السكنيّة المورسكيّة وراء المنعطفات في الأعالي الجبليّة في وادي- آش.

- الأطلال السكنية في الضياع المورسكيّة المهجورة في "وادي القلعة" في بلنسية.

وهي عمارة تلخص على التوالي ضراوة المراحل التي مرت على سيرة المورسكي:

- التعدّي الثقافي.

- الملاحقة الثقافية.

- الطرد الإقصائي الثقافي، أو "التطهير العرقي" بالمفهوم المعاصر.

3- توضيح لا بد منه: تحولات المسلم

إلى المدجّن فالمورسكي

قبل أن أتابع موضوع دراستي، أودّ أن أوضح معاني بعض الأسماء- المفاهيم التي أتداولها في دراستي، مثل المسلم المورو، والمدجن، والمورسكي.

 

1-3: المسلم الأندلسي.. المورو

عُرف المسلم في النصوص القروسطية المكتوبة، أو المتناقلة بالتواتر الشفاهي، باسم "المورو". وبدون الدخول في الجذور اللغوية والتاريخ الاجتماعي- اللساني للمصطلح، أشير باختصار إلى أن "المورو" كلمة تعود فيما يبدو إلى اللغة اللاتينية، وقُصد بها سكان الشمال الأفريقي عمومًا. ومع السياقات التاريخية المختلفة للوجود الإسلامي في شبه الجزيرة الأيبيرية (منذ 711م) تم تداول المصطلح كمرادف لـ"المسلم" بغض النظر عن الانتماء العرقي أو الإثني أو الثقافي، سواء كان توصيفًا للأمازيغي أو العربي أو حتى لتلك العناصر البشرية التي تعود أصولها البعيدة إلى "السكان الأصليين" على تنوعهم هو الآخر، ممن اعتنق الإسلام وذاب تمامًا في الثقافة الأندلسيّة.



وفي معرض الحديث هنا، أدل على أن العناصر البشرية المسلمة المتحدرة من زواج مختلط لأمهات مسيحيات، أو من أصول مسيحية، عُرفت باسم "المولدين". أما تعبير "المستعربين" فتم تداوله للإشارة إلى المسيحيين الذين عاشوا في ظل الحكم الأندلسي، وغالباً ما كانت ميولهم نحو الثقافة الأندلسية شديدة الوصال، من خلال عاداتهم وأسلوب حياتهم وإتقانهم للغة البيان، إلى جانب اللغة الرومانثيّة الأندلسيّة (وهي لغة تنحدر من اللاتينية الممتزجة بكلمات عربية).

 

2-3: المدجّن

في العصور الوسطى في شبه الجزيرة الأيبيرية، كانت التغيرات مستمرة في الخريطة الجيوسياسية بفعل الحروب بين الممالك المسيحية من جهة والقوى السياسيّة الإسلاميّة من جهة أخرى، مما كان له الأثر في بقاء طائفة من المسلمين في الأراضي التابعة للحكم المسيحي والمنتزعة من السيطرة الإسلاميّة، ودُعيت هذه الأقلية بـ"المدجنين".

ومع الأخذ بعين الاعتبار التفوق الحضاري الإسلامي في ذلك الوقت، فإن السلطة المسيحيّة قلّدت النموذج الإسلامي على نحو ما، إضافة لدوافعها الاقتصادية، فترك المسلم المدجّن بسلام في موطنه، وتمتع بنظام خاص يسمح له بممارسة معتقده والحفاظ على قيمه الاجتماعية والثقافية. ولهؤلاء المدجنين المسلمين يعود الفضل الكبير في حقن الثقافة التي عاشوا وسطها بتلك الخلاسية الأجمل والتي تميز الثقافة الإسبانية اليوم.

ولهم يدين تاريخ الفن والعمارة بما يُعرف بـ"الطراز المدجن" El estilo mudéjar، سواء في العمارة المدنية أو الدينية، المسيحية أو اليهودية، من بيوت وقصور وأديرة وكنائس ومعابد وحصون وتصميمات داخليّة (جصية محملة بزخرف هندسي وتوريق تزييني Ataurique، أو تصاميم خشبية كالأسقف alfarjes)، وصولاً لفن الترصيع  Taracea الخاص بالأثاث والصناعات اليدوية والأغراض ذات الاستعمال الشخصي (كالأسلحة البيضاء، والحلي، والزجاجيات، والموزييك الخشبي أو الصدفي، والصناديق العاجية أو المعدنية أو من الخشب الملون...). وتحققت كلها بعد أن خططت ونقشت ونفذت على أكتاف المهندسين والبنائين وأيدي الصناع والمهرة المسلمين المدجنين (alarifes, albañiles, alfareros, alamines) وفق مرجعيات معمارية وفنية تعود للحضارة العربية الإسلامية المتفوقة حينئذ، والتي اعتبرت ذائقتها الجمالية المعيار السليم والأرفع والأسمى للاحتذاء في تلك الأزمنة (3).

وتدل السجلات التوثيقية على أن حرفة النجارة وما يتبعها من ديكورات فنية كانت حصريًا بيد الحرفيين المدجنين حتى القرن السادس عشر، ومن بين المدن التي اشتهرت بحرفة النجارة المدجنة تأتي طليطلة في الطليعة (على قدم المساواة مع شهرة غرناطة بني نصر لاحقاً).

وعرفت العمارة المدجنة أوجها في القرن الثالث عشر (في كل من إسبانيا والبرتغال). وتصنف ضمن مدارس لها ميول معمارية وذائقة مميزة. من بينها أذكر مدرسة أرغون التي تختص بنزعة تلونية تحضر في الجدران المعمارية الخارجية، بفعل إدراج الزُليج الملون مع الآجر كمادة بناء وتعبير جمالي يعتمد التصميم الهندسي والنباتي.

في معرض الحديث هنا، أشير إلى أن الفضل يعود لمسلمي الأندلس في إدخال صناعة الآجر والزُليج Azulejos (السيراميك أو القيشاني) إلى شبه الجزيرة الأيبيرية، وازدهارها ومنحها هوية مفردة، وابتكارات ووصفات ومعالجات جديدة للحصول على مروحة لونية واسعة وبريق متنوع أثناء معالجة الطين المشوي مع أكاسيد معادن (4).

وكل من يزور المتاحف المخصصة للزليج في شبه الجزيرة الأيبيرية (كإشبيلية ولشبونة) لا بد من أن يبدأ رحلته مع أول أقسام صناعة الزليج، وهي القاعات التوضيحية المخصصة لهذه الصناعة في المرحلة الأندلسية، وسيرورة تطوراتها ومهاراتها ونقوشها وقوالب صبّها وأدواتها المختلفة، قبل أن ينتقل لورثتها في الأقسام التالية. ومن المثير للانتباه أن تاريخ صناعة الزليج يشير للتاريخ الثقافي الهوياتي بشكل من الأشكال، سواء في البرتغال أم في إسبانيا، تاريخ يشتبك بالصلصال المشوي كما لو أنه تاريخ تبلور هوية.

ولا يفوتني هنا التنويه إلى أنه، وعلى شاكلة الأساليب والطرز الأخرى المكرسة في تاريخ الفن الغربي مثل القوطي، والرومانسكي، والكلاسيكي، والباروكي، عرف الطراز المدجن في القرن التاسع عشر والعشرين تجديدات حداثية، وإعادة إحياء لجمالياته ومميزاته الفارقة، وعليه أدرج تاريخ الفن إلى جوار القوطية الجديدة، والرومانسكية الجديدة، والكلاسيكية الجديدة، والباروكية الجديدة ... المدجن الجديد Neomudéjar (5)، وما ذلك إلا لقوة المدجن التاريخية والثقافية والفنية والتي لم يستطع أي مقصد سلطوي يقوم على إلغاء "الآخر" إزالة آثارها الوجودية. ففي الواقع الإسباني الذي أتناوله هنا، إلغاء "الآخر" يعني إلغاء لـ"الأنا"، ولوجودية "الأنا" في التاريخ، ولأهم العوامل التي شاركت في نسج هويتها الثقافية والفنية وذاكرتها الجمعية؛ فإسبانيا الإسلامية برهنت على أنها من القوة بمكان لا يمكن شطبه وتجاهله؛ وحتى أولئك الذين كرسوا جهدهم وفعلهم في هذا السبيل، هم في المعنى العميق لنكرانهم، أو التخفيف من مؤثر "إسبانيا المسلمة"، واختلاقهم لهوية "الأنا" مقابل "الآخر/ العدو"، يشيرون في حقيقة الأمر إلى أنهم لا يستطيعون الخلاص من هذه الـ"إسبانيا المسلمة"، وما ذلك إلا لأن "الأندلس التاريخيّة" هي واقع جدلي وفعل حدث في التاريخ لا في المنامات والاستيهامات والخرافات.

3-3: المورسكي

بعد سقوط غرناطة بدأت قضية المورسكيين في التاريخ. وهي قضية لم تحسم أخلاقيًا حتى اللحظة الراهنة.

فمن هو المورسكي؟!

حفظت معاهدة تسليم مملكة غرناطة حق المسلمين فيها بممارسة شعائرهم الدينية، وتعهدت بعدم المس بعاداتهم وحرية تحدثهم بلغتهم. وكان من التبعات الأولى لتغير السلطة تحوّل المسلم القاطن في مملكة غرناطة إلى "المدجن" لخضوعه للحكم المسيحي الجديد.

بداية، عمد المطران تالابيرا إلى سياسة التبشير المتأنيّة المتكئة على الإقناع، إلا أن التعصب وانعدام التسامح دفعا بالكاردينال ثيسنيروس عام 1499 إلى تسريع عملية التنصير، والتضييق على مسلمي غرناطة. فثار أهل حي البيازين على الاضطهاد والتمييز، المبرمج والممنهج، الذي مورس عليهم وانتفضوا ضده؛ حينها استغل العاهلان الملكيان الأمر، واعتبرا ردة فعل أهل البيازين الاحتجاجية على تصرفات الكاردينال ثيسنيروس الظالمة، انتهاكاً ونقضاً لبنود معاهدة التسليم. واستثمرا الفرصة لتأييد تسريع التنصير في غرناطة، ومن ثم إصدار القرار بالتنصير الإجباري لكافة مدجني قشتالة (1502)، ولحقهم مدجنو بالنىسيّة (1520-1522)، وما لبث أن سيق مسلمو أرغون (1526) لمصير غيرهم من المناطق التي طبقت عليها سياسة الاختيار بين التنصير أو الرحيل عن شبه الجزيرة الأيبيرية (6). وهؤلاء المتنصرون قهرًا عُرفوا بـ"المورسكيين". و"المورسكي" صيغة تصغير لـ"المورو" بالإسبانية، واستخدمت لأول مرة في القوانين التي صاغها الكاردينال ثيسنيروس (1502) وخصّ بها هذه الأقليّة، وتتضمن بعدًا تحقيريًا في سياق المرحلة التاريخية التي نتحدث عنها.

أما استخدامي لنفس المصطلح في وقتنا الراهن، فهو يلتقي مع سياق التحدي والمقاومة، لا مع الإذلال والتصغير من الشأن، كما لو أنه محاولة لإعادة الاعتبار لـ"المورسكي"، أو "المورو الصغير"، وأنا أشدد على اللاغياب ... لاغياب المورسكي وحضوره في الذاكرة.

هي إذًا قصة "المسلم" الأندلسي المتحول إلى "المدجن" تحت الحكم المسيحي، فـ"المورسكي" بعد زوال الحكم العربي الإسلامي.

 

4- الظروف المحيقة بثقافة المورسكي

طوال القرن السادس عشر وحتى قرار الطرد، كانت الحكومة تعمل على القضاء على الخصوصيّة المورسكيّة بسنّ قوانين متتابعة تحدّ من حرية ممارسة المورسكي لثقافته ودين أسلافه، وكل ما يتعلق بشرائع لها ارتباط بالدين الإسلامي، فحُوّلت معظم المساجد إلى كنائس، وصُودرت الأوقاف الإسلامية، وأُحرقت الكتب الدينيّة والفكريّة، وفُرضت ضرائب حصرية مجحفة، وسُنت القوانين التي تحرم الختان والتسمية بأسماء إسلامية وتُنهي عن امتلاك العبيد والأسلحة، وقُيدت حرية التنقل. كما صَدرت تشريعات تطاول الأطعمة وذبح المواشي (حُرمت الأضاحي الشعائرية)، وتم التجسس على نوعيّة أكل المورسكي (ومراقبة من يمتنع عن أكل لحم الخنزير)، وأُخضع الزواج والولادة والتعميد والدفن لرقابة صارمة، كما أُخضع الأطفال لتربية الدين المنتصر التبشيرية وتم تشجيعهم عفويًا على التجسس على آبائهم، وأُعلنت مراسيم تحظر ارتداء الملابس والحلي والتمائم وكافة الرموز التقليدية، وأُجبر السكان على ترك أبواب البيوت مفتوحة أمام التلصص التفتيشي، ومُنعت الحمامات لارتباطها بالوضوء، وحُظر استعمال "الحناء" من قبل النساء، وتُم الترصّد على أداء القيم الموروثة وعادات الأجداد، وصولًا لنواميس تحظر اللغة العربية، تحدثًا وكتابةً، وتمنع الاحتفالات والأعياد والتعبيرات الفنية الخاصة من غناء ورقص (منعت رقصة الزّمرة La Zambra، وأغاني Las Leilas في نهاية الأمر)، بدون نسيان التهجير الجماعي بإطراد لمورسكيي غرناطة وبعثرتهم في المناطق الداخلية المختلفة، بغية تشتيت تواصلهم وإعاقة وصالهم الثقافي فيما بينهم، مما أدى لفقدان الكثير من الممتلكات والأراضي ومعها الحرف وكثير من المهن والصنائع، إلى ما هنالك من تغيرات في عمق البنية الاجتماعية بفعل تحريمات تتغيّا القضاء على المنابع الثقافية والدينية والإثنية، دون أية كفالة تسهّل الدمج، وتحقق الاندماج بمجتمع الدين الواحد الجديد، أو حتى تجنب قدر التهميش القاسي فيه (7). لكل ذلك ازدهرت الأدبيات المنمطة التي كرست الارتباط الجوهراني بين الجماعة المورسكيّة وبين المسيحي السيئ، والتقية، واللاأخلاق، والانحراف، واللصوصية، والكذب، والقرصنة، وقطاع الطرق، وسوء النية، والخسة، والشعوذة، والهرطقة، والبدع.

احد شوارع بلدة تطيلة 



وكما هو متوقع، مع سياسة الإقصاء ورفض "الآخر"، أو بالأصح في الحال الإسبانية رفض تنويعات "الأنا" المتعددة، فقد كثير من المورسكيين مصدر رزقهم، وحياتهم المألوفة تاريخيًا، وتحول معظمهم قسريًا إلى فئة خارج الهامش المجتمعي، فئة تعرف اجتماعيًا بالحضيض، واقتصاديًا بما تحت البروليتارية، فئة مقتلعة الجذور الدينية والاجتماعية وملاحقة في صميم وجودها الديني والثقافي، الأمر الذي يمكن أن يفهم منه دوافع انتفاضات الأقلية المورسكية بين الحين والآخر، وقياماتها الثورية في أماكن متعددة مع استفحال الأمر عليها وتدهور بيئتها وطرق حياتها وتعبيراتها الفنية والثقافية (8).

5- البيت المورسكي في غرناطة

من الملفت للانتباه أن الكثير من المصطلحات المعمارية والتسميات الخاصة بأقسام البيت التقليدي المتداولة في اللغة الإسبانية تعود بجذورها إلى اللغة العربية، وهذا إن دلّ على شيء فإنه يدل على أن من كان يمسك بحرفة البناء والنجارة والرقش والفخار والتبليط وصناعة الأبواب ذات الصفائح البرونزية والتوريق والنقش الكتابي كانوا من المهرة المسلمين، المدجنين والمورسكيين، قبل أن تورث هذه المهن إلى الأجيال اللاحقة.

يعتبر البيت المورسكي في غرناطة امتدادًا لمعمار الدار الذي عُرف خلال حكم بني نصر، وعليه فإن هندسته تستجيب للمنطق الإسلامي ولكيفية التنظيم الاجتماعي لمعيش المسلم الأندلسي في الفضاء المديني. وهو عمارة سكنيّة بالغة الأهمية في مجمل عمران مدينة غرناطة (9).

وما زال حي البيازين يحتوي على حوالى 30 بيتًا مورسكيًا تعود للقرن السادس عشر، وتشكل دليلًا هامًا ليس فقط من الناحية المعمارية لمقاربة بنيتها الجماليّة ووظيفتها النفعية المنزلية، وإنما كذلك لدلالتها المعرفيّة التاريخيّة على التحولات التي مرت على مدينة غرناطة الإسلامية بعد سقوطها، وعلى حي البيازين الذي جُمّع فيه المورسكيون بعد تسليم المدينة. ومن هذه المنازل يشتهر "دار ثفرا" Casa de Zafra، و"دار أورنو دي أورو" Casa Horno de Oro، و"دار ديل شابيث" Casa del Chapiz، و"دار ياغواس" Casa Yaguas.

فيما يلي سأحاول مقاربة مميزات البيت المورسكي الأهم، وكيفية الاعتداء على بنيته المادية والمعنوية، من خلال:

1- توجه المسكن المورسكي.

2- المدخل El Zaguán.

3- الفناء.

4- الرواق.

5-1: توجه المسكن المورسكي

يتكئ البيت المورسكي على مفهوم البيت الإسلامي الأندلسي، وقوله جلّ جلاله: "والله جعل لكم من بيوتكم سكنًا" (النحل: 80). لذلك فالبيت هو المسكن المادي، وخلية معمارية اجتماعية، وفضاء تتحقق فيه سكينة المسلم، وخصوصية حياته اليومية، وحميمية معيشه المنزلي.

ينفتح المسكن الإسلامي على "الداخل" وينغلق على "الخارج". وهنا أود القول أنني أتفق مع الدراسات التي تستبين معرفة عدة حضارات لهذا النوع من التوجه، إلا أن تبنّي الإسلام للبيت المحجوب نسبيًا عن "الخارج" العمومي والمستنكر لاستعراض محتواه أمامه، والمنفتح على مركز داخلي هو عبارة عن صحن سماوي، له هويته الإسلامية وعلامته الفارقة في الإيعاز بحرمة الدار، وحق المسلم بممارسة حريته الفردية ضمن الأطر التي ترسم الشريعة هيكليتها العامة. فكما هو معروف يشكل "الخارج" الفضاء السياسي العام، وأما "الداخل" فهو الفضاء الحميمي الخاص. والهندسة المعمارية للمنزل الإسلامي تعكس كيفية تنظيم صلة "الداخل" مع "الخارج" الأوسع؛ كما تنظم العلاقة بين سكان الداخل بمختلف أفراده (من رجال ونساء) في فضاءات البيت الداخلية.

ومثال على هذا التقسيم نراه بوضوح من خلال الصالة الرئيسية التي تحمل بعدًا اجتماعيًا تمثيليًا، ففيها يستقبل رجال الأسرة زوارهم من الفضاء العام، وعليه تنفصل هذه الصالة تراتبيًا ومعنويًا عن الأقسام الداخلية الأخرى التي تدور فيها يوميات النساء رغم انفتاحها على الفناء. ومن الممكن استعمال النساء للصالة الرئيسية في البيوت المتواضعة كفضاء خاص بهن في يومياتهن، إلا إن وجود الزوار من الرجال يفرض تحولها لصالة ذكورية ويتطلب خروج النساء منها، أو وجودهن خلف ستر وحجاب فيها.

إن الاتجاه المنفتح على الداخل في التصميم المنزلي يبرر اختفاء النوافذ أو الفتحات من الجدر الخارجية عمومًا، باستثناء تلك الفتحات التي تقع في الطوابق العلوية والمزودة بمشربيات خشبية، أو خوص جصية، ذات تصميمات هندسية تؤمن التهوية ودخول الضوء ولكنها قبل أي شيء تسهل الرؤية لمن هو في الداخل (خاصة النساء) وتعيقها لمن هو في الخارج (10).

ومن المألوف أن نصادف في غرناطة بيوتًا تقع عتبات مداخلها في أزقة لا منافذ لها (زقاق سدّ) تدعى بالإسبانية adarves (جمع كلمة "الدرب") (11)، مما يعني أن المرور في هذه الأزقة للدخول للبيوت، يبقى حكرًا على سكانها أو الجيران أو أصحاب الحاجة منها، ويجعلها بمأمن من المتسكعين، كما تحدّ من عبور المشاة ممن لا حاجة فعلية لهم بدخول هذا الزقاق الخصوصي، الذي يفعل فعل برزخ انتقال من "كينونة البيت" إلى "كيان الحي" (أو الرباط Arrabal) في المدينة (La Medina) بكل ما فيها من عمران ديني (الجامع Aljama)، وسياسي (القصر Alcázar)، وتجاري (السوق El Zoco)، إضافة إلى عمران الحمامات والخانات والنزل (الفندق El Fonda، La Alhóndoiga) وأبواب المدينة ... وصولاً للمقبرة (Maqbara).

في العهود الإسلامية السابقة، تحكمت بتنظيم العلاقة بين الدور المختلفة أعرافٌ متفق عليها بين الساكنة، وأخرى تتبع قوانين حقوقية ساهم القضاء في البت والحكم فيها، مثل العرف التوافقي بين سكان الزقاق الواحد على عدم الاعتداء على حق الجار في الضوء والتهوية، وعليه كان لارتفاع الجدران الفاصلة واتجاهها قيمة في هذا الموضوع، كذلك مسؤولية التصريف الصحي للمرحاض أو لـ"بيت الماء" حسب التسمية الأندلسية، واتصاله مع شبكة الصرف الصحي التابعة للحي. أما القضاء فقد تدخل في الأمور المتنازع عليها بين الساكنة على العمران، من مثل الاعتداءات على ما يتعلق بحرمة الديار واحترام حق الجيرة وراحتها، فتدخل القضاء، مع مشاورة الفقهاء، ومراعاة المذهب المالكي الذي قلما خالفه أهل الأندلس (12)، لوضع الحد بين الحق والباطل على هدى الحديث النبوي الشريف "لا ضرر ولا ضرار" (13).

5-2: المدخل (El zaguán "إسطوان-ة البيت")

مدخل البيت المورسكي هو ردهة بشكل كوع الذراع عامةً (زاويته تصل إلى 90 درجة)، وفي حالات أخرى هو ردهة بابها الخارجي المحاذي للشارع ولا يقع على نفس الخط الذي يقع عليه الباب الداخلي المؤدي إلى الفناء. ومن البديهي أن الغاية من تصميم المدخل على هذه الشاكلة هو ستر مضمون البيت عن أعين الخارج، واستجابة لمفهوم الاستئذان في الإسلام، فهو ردهة انتظار وإذن بالمرور:

﴿ يا أيُّها الَّذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غيَر بيوتِكم حتَّى تَستأْنِسُوا وتُسلِّمُوا على أهْلِها ذَلِكُم خيرٌ لكُم لعلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَإِنْ لم تَجدُوا فيها أحداً فلا تَدْخُلُوهَا حتَّى يُؤْذَنَ لكُمْ وإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هو أَزْكَى لَكُمْ واللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ (النور: 27، 28).

وعادة ما كانت ردهة المدخل مزودة بمقعد أو بضعة مقاعد للاستراحة العابرة؛ وفي بيوت الأسر المتواضعة استخدمت ردهة المدخل كمساحة لاستقبال الزائرين من الرجال ممن لا يؤذن لهم بدخول البيت (باعة، أصحاب الحاجة...) أو كحيز تشارك فيه رجال الدار لأداء بعض النشاط المنزلي، أو الأشغال البيتية الخاصة بهم، أو تشاركوا مع أقرانهم وجيرانهم في ممارسة بعض الصناعات الحرفية اليدوية. وفي البيوت المورسكية التي تعود لعائلات مفقرة استعيض عن ردهة المدخل بممر ضيق معتم (14).

أما واجهة الباب الخارجي فجرت العادة على تصميم عقده (غالباً على شكل قوس الحدوة التقليدي) مؤطرًا بإفريز أو حيّز Alfiz مستطيل يزين داخله بالزخارف الإسلامية المألوفة، وعمومًا مالت الحلية المعمارية لواجهة البيوت نحو البساطة والتواضع والابتعاد عن استعراض مظاهر الغنى والتفاخر والبهرجة، فلم يكن خارج البيت يدل على المرتبة الاجتماعية أو الاقتصادية لأهل البيت عمومًا. وإن كان من الممكن في بعض الأحيان الاستدلال على ذلك من خلال التدقيق في العناية بنوعية ومهارة الزخرف البارز الذي يحيط في منافذ الدار الخارجية فقط (15).

5-3: فناء البيت المورسكي

يعتبر الفناء المكشوف (أو وسط الدار، أو الباحة الداخلية، أو الصحن السماوي) من أهم أقسام الدار، لكونه يعكس حوار العمارة المنزلية الإسلامية مع قيمها الروحيّة ومحتواها الفكري. وتفرّد فناء البيت الأندلسي منذ القرن العاشر بهوية إسلامية لا يمكن نكرانها ويعرف بها، وتناقلت تصميماته الأجيال الإسبانية المتعاقبة حتى راهن اليوم كأسلوب حياة داخل البيت، بسبب وظيفته النفعية وقيمته الجمالية المرهفة، وبغض النظر عن أصول مرجعياته الإسلامية.

تتميز أرضية الفناء بكونها مرصوفة بالبلاط الأجري، أو بالحجارة الملساء للبيوت الأكثر تواضعاً، في المساحات غير المخصصة للنباتات.

ومنذ مرحلة مبكرة، تعود لعصر الخلافة في قرطبة، زود الفناء برصيف جانبي مبلط يحاذي الغرف، ويرتفع عن أرضية الباحة بنحو بسيط. واستخدمت البلاطات الأجرية عمومًا في رصف أرضية الفناء (وعموم المنزل) لأهميتها في العزل الحراري، ومقاومتها لمختلف العوامل المناخية والتأكل الناجم عن الاستخدام اليومي. وتحكمت بنوعيتها وكيفية رصفها (شكل التبليط) الحالة المادية لصاحب البيت؛ فإما أن يكون الرصف بسيطًا يتشكل من بلاطات آجرية صغيرة مربعة (15 سم وسطياً)، أو مستطيلة تتموضع بشكل متداخل، أو أشكال أخرى عرفت على مرّ المراحل الأندلسيّة مثل البلاطات المتعددة الأضلاع.

غالباً ما كان الأندلسي يميل إلى قياسيات البلاطات الآجرية الصغيرة لرصف الفناء؛ وقد يدرج معها بلاطات أخرى من الخزف الملون الزليج (واستعمل أيضاً الطين المشوي مع المينا المزجج)، وقد تصل أرضية باحة الدار إلى أن تشكل حصيرة هندسية بصرية، تميل للبساطة المتناغمة الألوان والتشكيلات التزيينية، وتنسجم مع الزليج الذي يكسو جدران الغرف المشرفة على الباحة على ارتفاع متر ونصف المتر تقريبًا.

ومن المرجح أن هذه الذائقة تأتي انسجامًا مع طبيعة التفكير التزييني الإسلامي الأندلسي الذي يميل إلى العناية التكوينية التي يشترك فيها "المستوي" و"الفراغ" معًا، مضافًا لهما عامل "الزمن" مع اختلاف أوقات التلقي.

اعتنى الصانع والفنان المسلم بالتفاصيل التزيينية المتكررة والمتكاثرة، المتفرقة والمجتمعة، وبدقائق الزخرف من التشكيلات الهندسية والنباتية المجردة، التي تبدو في حالها المفرد بلا أهمية للمتلقي الذي لا يرى أن الشكل هو المضمون، وعليه لا يستبين من الشكل محتوى لفلسفة روحية يقوم عليها هذا الفن وذائقته (16).

إن العنصر الدقيق هو وحدة مستقلة بذاتها، يدخل في علاقة خفيّة توصله وتشبكه مع العنصر الجمالي الكلي الأكبر منه، وتمنحه تلك السمة بأنه عنصر قائم بذاته، إلا إنه يتجه منفتحًا نحو الكل الذي يُرى، والذي بدوره يحافظ على انفتاحه إلى لانهائية تُعرف (بالعرفان) دون أن تُرى ... وهكذا إلى لانهائية سرمدية مطلقة إلى الله تعالى. فخطوط الزخرف (النافرة أو الغائرة) المشغولة فوق لوح صلب (آجر، خشب، معدن، جلد)، تتحرك وتتشابك، وفق مقاييس رياضية هندسية محسوبة، ومن حركتها هذه تبث الحياة في الثبات وفي الكون التشكيلي المنفتح، معشقة السكون والحركة في تكامل وتناسق. كما أن التلقي البصري للتشكيلات التزيينية النباتية المجردة (من ورق، ثمر، زهر، غصن) يؤدي إلى تجاوز الإحساس بالذبول نحو الدوام والبقاء. ما يدهش حقاً هو استخدام الخزّاف والمصمم الأندلسي عامة لتدرجات لونيّة دقيقة الفوارق بغية الحصول على المؤثر البصري المطلوب، والمناسب لأذواق المستهلكين. وهذه الحصيرة المبلطة هي الأساس الأرضي الذي يحاور فيه فناء سكن المسلم سقفه السموات، كما لو أنه سجادة صلاة يَحضرُ فيها عمران البيت ويسجد أمام وجه الله تعالى.

قبل أن أنتقل إلى الفقرة التالية، أود أن أقول أنني لا أتفق مع الرأي التنميطي الشكلاني الذي يتردد على لسان عدد من المختصين الأوروبيين بتاريخ الفن، وأقصد به القول أن "الفن الإسلامي يخاف الفراغ فيمتلئ بالزخرف والتزيين" والذي يلخصه المصطلح اللاتيني Horror vacui (بالإسبانية Horror al vacío)، "الفزع من الفراغ" (17).

وعدم اتفاقي مع هذا الرأي يتأتى من أن هذا القول يصح على الفن الباروكي الإسباني، المضاد للإصلاح، المثقل بفكرة الموت والعدم (باطل الأباطيل الكل باطل وقبض الريح)، هذا إن لم نتحدث عن مثالية بخسة لمتع الحياة ومباهجها لصالح خلاصٍ تبلغ ذروته رهبنة متعالية؛ ولا ينطبق على الفن الإسلامي وروحانيته، التي لا تناقض فيها بين الاستمتاع بالدنيا وبين عبادة الله ضمن إطار الحلال. وهذه النزعة الزخرفية في جانب من جوانبها هي تجل إبداعي فني واحتفاء بهيج بثنائيات المعنى والمادة، بالروح والجسد. من جانب آخر، لا أعتقد أن "الفراغ" يخيف الفنان المسلم، لأنه (أي الفراغ نفسه) جزء مكمل للامتلاء في التزيين الفني؛ هذا إن لم نتحدث عن كونه يتمظهر بصريًا ويتحرك بتشكيلية خاصة به بالتوازي مع انسيابية الخط التزييني، مرافقاً له بكافة الاتجاهات نحو ما هو علوي إلهي.

بالعودة إلى محور الموضوع الذي أتناوله، أشير إلى أن الفناء الأندلسي زود ببئر، أو نافورة (فسقية) مستديرة أو مربعة الشكل أو متعددة الأضلاع، تحولت لتشكل بركة مستطيلة في البيت الغرناطي أثناء حكم بني نصر، إضافة لمساحات مزروعة تشدد على استحضار الطبيعة في الدار، فزرعت في الفناء الأشجار (الليمون، البرتقال، الرمان)، والنباتات الفواحة (الآس، الحبق) والأزهار العطرية (الياسمين، الورد) حسب مساحة البيت، وزرعت القرب الآجرية (الأصص) وعلقت على الجدران.

يستبين المرء من الفناء الداخلي للبيت الإسلامي الأندلسي، غير المسقوف والمنفتح بعمق على السموات في الأعالي، إشارة نسبية تذكر ساكنه بمفهوم الجنة المطلق، وعليه فإن انغلاق البيت عن الخارج، وتضيقه الظاهري حول الداخل، يتسع على رحابة مفهوم السموات الإسلامي، ويغدو البيت منفتحًا بقاطنيه ودون وسيط على مفهوم المطلق اللامتناهي المتجلي في كل زمان ومكان؛ ولعل هذا المضمون العمراني الإسلامي يلتقي مع فكرة غياب الإكليروس أو الواسطة الكهنوتيّة بين الفرد المؤمن وربه تعالى.

إضافة لكل ذلك، فإن فناء الدار المبلط مع بركته وجنينته يشكل لوحة جمالية حيوية بعدة أبعاد (الطول والعرض والارتفاع والزمان) تمتزج في تلقيها وتشارك حواس المخلوق. فمن علو الجدر البيض الخارجية التي تفصل البيت عن الشارع، مرورًا بردهة المدخل، تنفرج فسحة الفناء عن باحة من ضوع الأزهار، واهتزازات الهواء والنسمات، وتدرجات ألوان المزروعات وتبدلاتها بتبدل الفصول وحركة النور والظلال على مدار اليوم ... تنفرج عن باحة من توقيع أمواهٍ تتدفق من النافورة أو البركة، وخرير خفي واهن يصدر من الأرضية حين تزويد بعض البيوت بقنوات سطحية ضيقة تجري فيها الأمواه، مما يؤمن شبكة من التكيف والترطيب المحبب في الأشهر الحارة، ومن النافل القول أنه إلى جانب الوظيفة النفعية لهذه القنوات تتدفق جمالية رفيعة الذائقة.

وتم التلاعب على صوت المياه، وانسكابها من الحوض الرئيسي في البيت الأندلسي. ومن الملاحظ ميل الأندلسيين، خاصة أهل غرناطة، إلى دفق الماء من فوهات ضيقة نوعاً ما، مما يجعل وقع طرطشاتها خافت الصوت، ينسكب بهرمونية مهدئة للنفس، ويعمل كعنصر استرخاء وسكينة، ويحتاح للسكون وصفاء الروح للإصغاء له.

وفي الدور التي كانت تقع في مناطق تسمح لها بالتوسع والامتداد، كان من الممكن أن يكون للبيت أكثر من "صحن سماوي"، تتوالد تبعًا للإمكانية المادية لأصحاب البيت والمساحة المتاحة لذلك.

ولعب فناء الدار الإسلامي الأندلسي دورًا مؤثرًا في أجناس الأدب والفن الإسباني كافة وعلى مرّ الأزمنة، خاصة الشعر والموسيقى والفنون التشكيلية ليس لحواره مع الحواس الخمس فقط، بل لأبعاده الماورائيّة العرفانية كذلك.

5-4- الرواق

في البنية التقليدية الأولى للبيت الأندلسي كانت أبواب الغرف تنفتح مباشرة على الفناء، وحينما تم تشييد الطابق الأول أضيفت إلى بنية البيت الأندلسي، اعتباراً من القرن الثاني عشر، أروقة مقنطرة (الغاليري).

وفي المرحلة الموحدية بدأت العناية بالرواق تظهر على نحو خاص، وأثناء حكم بني الأحمر في غرناطة لم يكن الرواق مكتمل الإحاطة بالفناء المستطيل، واقتصر وجوده على جانبين متقابلين فقط (الرواق الشمالي والجنوبي)، واختلف عدد عقوده تبعًا لمساحة الفناء. وحملت الرواق دعائم آجرية عادة ذات قاعدة مربعة في الضلع الطويل، وأعمدة حجرية ذات تيجان نصريّة في الضلع القصير. وصُعد إلى الغرف في الطابق العلوي بسلالم جانبية ضيقة تكاد لا تلاحظ. وكان الطابق الأول يكاد يكرر الطابق الأرضي من حيث عدد الغرف ومساحتها.

توجه البيت الإسلامي الأندلسي نحو التوسع العمودي، كحاجة وضرورة، لازدياد عدد السكان والوافدين المسلمين إلى مملكة غرناطة، بفعل الحروب وتوسع سلطة الملكين إيسابيلا وفرناندو، على حساب الأراضي التابعة للحكم الإسلامي. وبالتالي برزت أهمية الرواق على نحو غير مسبوق وأضحى يحيط بالفناء من أضلعه الأربع في كل طابق، وزودت الطوابق العلوية بدرابزين خشبي؛ وعليه تحول الرواق ليكون أحد خصائص المسكن المورسكي (18).

* باحثة من سورية

الهوامش:

(1) منح بابا الفاتيكان الملكين الكاثوليكيين رخصة إنشاء محاكم التفتيش عام 1478. وبناء على هذه الرخصة البابوية أقيمت محاكم إسبانية دائمة في كل من إشبيلية وقرطبة (عام 1482)، وفي سرقسطة وبلنسية (1482)، وفي برشلونة (1484)، وفي طليطلة (1485)، وفي بلد الوليد ومرسية وحزيرة مايوركا (1488)، وفي كوينكا (1489)، وفي لاس بالماس في جزر الكناري (1505)، وفي لوغرونيو (1512)، وفي صقلية (1513)، وفي غرناطة (1526)، وفي ليما والمكسيك (1569)، وفي سانتياغو دي كومبوستيلا (1574)، وفي كارتاخينا دي انيدياس (1610). ولم يتم إلغاؤها نهائياً إلا عام 1834.

(2) خلال فترة ما يعرف في السرديات القشتالية بـ"حروب الاسترداد" اتكأت سلطة فرناندو وايسابيلا وسلالتهما الملكية على  التأكيد على الماضي القوطي والروماني، بينما شدد الخطاب التاريخي خلال ديكتاتورية فرانكو على الماضي الإمبراطوري لكارلوس الأول وفيليب الثاني.

(3) حتى أن الزائر للكنيس اليهودي في طليطلة أو قرطبة يحتاج لفترة للتروي قبل أن يستنتج أنه في فضاء ديني يهودي لا إسلامي، وذلك للفن المدجن الذي يخيم عليه. أما المثال الأرفع على المدجن فنجده في عمارة القصر الملكي في إشبيلية Real Alcázar de Sevilla.

(4) استعملت أكاسيد القصدير للحصول على اللون الأبيض، والكوبالت للحصول على الأزرق، والنحاس للون الأخضر، والمنغنيز للون الكستنائي والأسود، والحديد للون الأصفر. أما وصفة السيراميك الإيطالية المعروفة في راهن اليوم فتعود جذورها إلى الوصفة الأندلسية. أنظر ويلسون، إيفا: الزخارف والرسوم الإسلامية، تر. آمال مريوم، دار قابس، بيروت، د.ت.

(5) من أمثلة المدجن الجديد في العمارة أذكر: "مدارس أغري" في مدريد، و"ساحة إسبانيا" في إشبيلية، و"مسرح مانويل دي فايا" في قادس.

(6) Véase. Caro Baroja, Julio: Los moriscos del Reino de Granada, Ensayo de Historia Social, Madrid, Instituto de Estudios Políticos, 1957; Domínguez Ortiz, Antonio y Vincent, Bernar: Historia de los moriscos, Vida y tragedia de una minoría, Madrid, Alianza, 1978.

(7) Véase. Barrios Aguilera, Manuel y Sánchez Ramos, Valeriano: «Los moriscos del Reino de Granada», En Moliner Prada, Antonio (ed.), La expulsión de los moriscos, Barcelona, Nabla, 2009, pp. 65-108; Mendiola Fernández, Mª Isabel: Usos, costumbres y normas en la tradición de la minoría morisca, pagina web, pdf. http://e-spacio.uned.es/fez/eserv/bibliuned:RDUNED-2011-9-5100/Documento.pdf

(8) Véase. Barrios Aguilera, Manuel: «Granada morisca, la convivencia negada, Historia y textos», Granada, Comares, 2002.

(9) Pérez Ordóñez, Alejandro: «Arquitectura doméstica tradoandalucí y morisca, Aproximación al modo de familia y a su plasmación en arquitectura y el urbanismo de los siglos XIII al XVI», Trabajo de investigación tutelada, Codirigido por Rafael López Guzmán y Julio Navarro Palazón, Consejo superior de investigación científicas (CSIC), Escuela de estudios árabes, Granada, 2008, p.97.

(10) تظهر من الجدر الخارجية تحت القرميد في بعض البيوت الأندلسية والمورسكية منها غرف أو بلاكين بارزة مؤطرة بكسوة خشبية، تدعى ajimeces وهي اسم محرف من الكلمة العربية "الشمسية".

(11) Pérez Ordóñez… op. cit., p.27.

(12) انتشر المذهب الفقهي المالكي في الأندلس منذ التواريخ الإسلامية الأولى، وروعي في المسائل الفقهية وشؤون العمران. ولم يخرج عن تعاليم الإمام الماكي إلا في قضايا قليلة مثل السماح بزرع الشجر في الصحن السماوي في المسجد، فاتبع حينها رأي الإمام أوزاعي لتوافقه مع الحس الجمالي الأندلسي والذي لا يرى حرجاً في حضور الشجر في الصحن السماوي.

(13) خلاف، محمد عبد الوهاب (دراسة وتحقيق): وثائق في شؤون العمران في الأندلس، "المساجد والدور"، مستخرجة من مخطوطة الأحكام الكبرى للقاضي أبي الأصبغ عيسى بن سهل الأندلسي، مر. محمود علي ومصطفى كامل اسماعيل، المركز العربي الدولي للإعلام، ط1، القاهرة، 1983، ص4-5.  

(14) Pérez Ordóñez… op. cit., pp. 29-30.

(15) مارتينث مونتابث، بدرو. رويث برافو، كارمن: أوروبا الإسلامية، سحر حضارة ألفية، تر. ناديا ظافر شعبان، مؤسسة الفكر العربي، ط1، بيروت، 1991، ص82.

(16) عكاشة، ثروت: القيم الجمالية في العمارة الإسلامية، (تاريخ الفن: العين تسمع والأذن ترى)، ط1، دار الشروق، القاهرة، 1994، ص47-48.

(17) صادفت توصيف فن الزخرفة الإسلامي بأنه "يخاف الفراغ" في حديث عدد ممن يعمل دليلا سياحيا للآثار الأندلسية. كما أن ويكيبيديا (بالإسبانية والانكليزية والفرنسية والإيطالية) في تعريفها لاستخدامات تاريخ الفن لمصطلح Horror vacui تشير إلى الأرابيسك وفن التزيين الإسلامي كأحد أمثلته. وأعتقد أن هذه المقاربة شكلانية صورية لا تتعلق بالمعنى العميق للزخرفة الإسلامية.

(18) Pérez Ordóñez… op. cit., pp. 98.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.