}

في قلب باريس : حدائق الشرق‬

ناصر الرباط ناصر الرباط 3 مايو 2016
عمارة في قلب باريس : حدائق الشرق‬
معرض حدائق الشرق (Getty)
كنت واحداً ممن استشارتهم المشرفة على معرض "حدائق الشرق، من الحمراء إلى تاج محل"، سيلفي دوبون وزملاؤها خلال التحضير الذي استمر أكثر من سنة ونصف، وكنت مستريباً من الفكرة ومن ضخامة التاريخ الذي يحاول معرض واحد اختزاله في ثلاثة طوابق وباحة معهد العالم العربي العتيد. لكني الآن وبعد زيارتي للمعرض أجدني مأخوذاً بما أُنجز وداعياً كل من له علاقة بتاريخنا وثقافتنا ويقيم في باريس أو سيزورها، خلال هذا الصيف، أن يمنح نفسه لذة تذوق ما حرمناه في الفترة الأخيرة: روعة وجمال ثقافتنا العربية والإسلامية. فالمعرض ليس غنياً فقط بمعروضاته المتنوعة وشروحاته وإحاطته بكل جوانب الحدائق في تاريخنا من معمارية وهندسية ومائية وفنية وصوتية ورمزية وأدبية، لكنه أيضاً جميل جمالاً أخاذاً مباشراً يمس مشاعر المتلقي من حيث لا يتوقع، ويرتقي بها إلى مستويات من المتعة الحسية والفكرية قليلًا ما تبلغها معارض عامة كهذا المعرض من دون أن تفقد شيئاً من جديتها وسعة إحاطتها. 

في الاسم، "حدائق الشرق"، إحالات إلى عوالم تشويقية وغرائبية تصدم الفرد الناقد عند مطالعته للوهلة الأولى. ولكن له مبرراته الاعتبارية والتسويقية التي تسمح بتقبله رغماً عن تاريخ مصطلح "الشرق" الذي أمسى ممجوجاً في الأوساط البحثية كدلالة على عالم استشراقي معاكس للعالم الغربي ومكمل له خلال رحلته الاستكشافية التي قادته للسيطرة على العالم خلال فترة الاستعمار. لا خلاف على أن هذه الدلالات الدونية ما زالت تفعل فعلها في العقل الغربي الذي ما زال ينظر للعالم الأسمر، جنوبه وشرقه، على أنه عالم مغاير وربما متأخر وغارق في تاريخية غرائبية ما. ولكن للاسم أيضاً سحره الذي يناسب تاريخ الحدائق بشكل عام، وهي التي نبعت من الشرق والجنوب كاستجابة إنسانية خلاقة لحاجات بيئية في الظروف المناخية الحارة التي يعيش فيها الناس في هذه البلاد على عكس الشروط المناخية الباردة التي منحت أوروبا بيئة خضراء طبيعية لا تحتاج لرعاية، جعلت تطوير الحدائق فيها يتأخر عدة ألفيات من الزمن عن تطويرها في الشرق القديم من بلاد ما بين النهرين ومصر إلى فارس والهند. وللاسم أيضاً دلالة جيوسياسية محايدة بالنسبة لمعهد العالم العربي عندما يتجاوز في عروضه إطار العالم العربي، كما يحصل هنا في معرض حاضرتيه الاثنتين؛ الحمراء وتاج محل، خارج حدود العالم العربي السياسية، وعندما يتقصد عدم التركيز على الدين كمؤطّر للمعرض.



ولكن الاسم ما زال خدّاعاً، وإن بطريقة مرحب بها. فالمعرض لا يغطي فقط المسافة الزمنية بين قطبيه المعماريين المثيرين للخيال؛ الحمراء وتاج محل، فهي لا تتجاوز حقيقة الثلاثمائة عام. ولكنه شامل تاريخياً منذ حضارات بلاد الرافدين الأولى إلى اليوم. فهو يبدأ من البداية: تدجين النباتات، وبشكل خاص النخلة، والحيوانات‪،‬ وابتكار أنظمة الري على أحواض الأنهر الكبرى؛ النيل والفرات ودجلة. ثم ينتقل إلى الحدائق الأولى: جنات عدن، التي يميل الأركيولوجيون أو الآثاريون إلى موقعتها في شط العرب مع أنهارها الأربعة، وحدائق بابل المعلقة من الألفية الأولى قبل الميلاد، ثم الحدائق الأخمينية التي نعرف عنها بعض الشيء والتي أعطتنا الكلمة العالمية "الفردوس" Paradis، باريديزيا من اللغة البهلوية القديمة التي عنت الحديقة المسوّرة أو المحمية بالجدران، والتي أضحت أساساً لتصميم الحدائق في العالم القديم وبعده في العالم الإسلامي بالإضافة إلى مدلولاتها التصعدية كاسم للجنة الموعودة الغناء، حيث سيقيم المؤمنون والمؤمنات أبداً.


فالحديقة الشرقية أساساً هي فراغ مفتوح، ولكنه محمي من عوامل الطبيعة القاسية بجدران تعزل عالم الداخل عن الخارج لكي تخلق مجالاً ممتعاً ومريحاً بيئياً. والحديقة هي مكان ترويض الماء وترشيد استخدامها، وهذا هو العنصر الهندسي الأهم فيها كما يبين المعرض، مع انتزاع مميزاتها كلها وجعلها تخدم الغرض الأساس من الحديقة، أي خلق بيئة خضراء ممتعة ترقرق فيها المياه وتغرد الطيور وتتناثر الزهور وتتدلى الفواكه على أشجارها، ويتطارح المحبون الغرام في جنباتها، ويقرض الشعراء قصائدهم في أرجائها، ويجتمع الأدباء والأمراء فيها للنقاش وتبادل الآراء، ويقصدها الناس للمتعة والترويح عن النفس والاستفادة من كل ما تمنحه من طراوة في الجو وظلّ ونسيم رفيف وألوان زاهية وروائح نفاذة. كل هذا الإمتاع الحسي مبني على علم دقيق وهندسة متطوّرة لجرّ المياه وتوزيعها وتهيئة التربة واختيار النباتات والأشجار الأكثر ملائمة لكل مناخ، التي يمكن الاستفادة منها على أوجه متعددة.

وهو قد تطور على مدى خمسة عشر قرناً من علم الحدائق الإسلامي الذي أنتج عدة مدارس مهمّة من حدائق الأندلس إلى حدائق فارس والهند وتركيا والحدائق المصغرة التي تزين باحات بيوت المدن العتيقة من دمشق وحلب وبغداد والقاهرة وتونس والجزائر وفاس وغيرها كثير.
لكن المعرض لا يتوقف عند هندسة وعمارة وسقاية وزراعة الحدائق، بل يتطرق إلى الأبعاد الفنية والحسية الرقيقة للحدائق كما تطورت في مختلف أرجاء الشرق الإسلامي، من طيور مغردة إلى ملابس زاهية ومورقة إلى كتابات أدبية تتغزل بالجنائن وإلى لوحات تنقل بعضاً من حبور ألوانها وروعة العيش فيها، بعضها لفنانين من العالم العربي المعاصر. والمعرض أيضاً لا يتوقف عند التاريخ الكلاسيكي للحدائق الإسلامية، بل يمتد للحاضر ليغطي بعضاً من أهم مشاريع إعادة إحياء هندسة الحدائق العامة في العالم العربي اليوم مثل حديقة الأزهر في القاهرة، وحديقة ماجوريل في مراكش وحديقة العزايبة في مسقط في عمان. بل هو يتجاوز تغطية الحاضر لكي يقدم للزائر حديقة كاملة متكاملة بممراتها ونباتاتها ومناظرها وحتى بمثمنها التقليدي في باحة المعهد العربي مستقاة من التراث الحدائقي العربي- الإسلامي مع تأثيرات حداثية واضحة. هذه هي ذروة المعرض التشكيلية حيث يمكن للزائر تذوّق نزرٍ من المتعة التي عاشها روّاد الحدائق التاريخية في حدائقهم في الماضي. ومع عدم رغبتي باستعمال الصور النمطية المعتادة، إلا أنني أجدني مدفوعاً لأن أسمّ الحديقة التي صممها الحدائقي الفرنسي ميشيل بينا والمنظوري ‪(‬Anamorphist‪)‬ فرانسوا أبيلانيت، كما يسمي نفسه، بالواحة الحداثية في قلب باريس التي تمنح زائرها بعضاً من لذة العيش البيئي القديمة من دون أن تنسيه أنه هنا اليوم.

(أستاذ الآغا خان للعمارة الإسلامية
M.I.T. معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا)

مقالات اخرى للكاتب

آراء
4 أكتوبر 2016
آثار
19 أبريل 2016
عمارة
5 أبريل 2016

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.