}

المندائيون و"أدب التجربة"

ناصر السهلي ناصر السهلي 17 مايو 2016
إناسة المندائيون و"أدب التجربة"
عبد الإله السباهي (العربي الجديد)
الثقافة واللغة والهوية، أمور مترابطة إلى درجة الالتباس في الحدود بينها، كذا فإن المرء المقتلع من مكانه والمهجر من أرضه، يعيش أسىً وشجنًا شبه دائمين. هذا ما يظهر بصورة أنصع حين يسأل المرء مثقفًا مندائيًا يقيم في المنفى في شمال القارة العجوز (هولندا، فنلندا، الدنمارك، السويد، النرويج)، إذ يشعر محاوِرهؤلاء العارفين بتاريخ شعبهم، وكأن انتزاعًا قد حدث في الهوية. ولا يكف القائم على أمور دينهم عن الإشارة لانتزاعٍ وتهميشٍ تعرضوا له في وطنهم الأصلي، أدى إلى هجرة قسرية ازدادت وتيرتها في العقدين الأخيرين. هجرة من "عراق دجلة والفرات" صوب الشمال الأوروبي. عملية تشبه في أحد وجوهها التعمّد بالماء، ماء النهرين، من أجل التطهّر "ليس للجسد فحسب، بل للروح والعقل"، على ما يقول أحد شباب المندائيين لـ"ملحق الثقافة".

ظل المندائيون - أصحاب التاريخ الممتد إلى العهد السومري وقبله - حتى في بلدهم الأصلي، عرضة لتأويلات كثيرة يلفها كثير من الغموض، فضلًا عن إضفاء أوهام كثيرة على تقاليدهم وآدابهم وعاداتهم. وقد أثار الكاتب والمؤرخ الراحل عبد الرزاق الحسني غضب المندائيين حين كتب عنهم كتابًا بعنوان "الصابئون في حاضرهم وماضيهم" 1931، وعدّوه حاملًا لتشويهات كثيرة. وهنا تكمن المشكلة في رأي معظم المثقفين المندائيين. إذ يرون أن غياب المعرفة باللغة المندائية، خصوصًا لدى جيل الشباب، أدى إلى إضعافهم لجهة إمكان تقديم "أدب" بلغتهم، ينقل هويتهم وثقافتهم.

يقول أحد المهتمين اهتمامًا كبيرًا بالجانب الثقافي لحياة المندائيين، الكاتب عبد الإله السباهي، شقيق القائد الشيوعي العراقي عزيز السباهي، (الذي كان مغضوبا عليه بنقله من مدينة إلى أخرى)، لـ"ملحق الثقافة": "مشكلتنا الثقافية كمندائيين تكمن في غياب الثقافة بمفهومها المتعارف عليه. فالمندائيون بقوا مهمشين، رغم أنهم واكبوا العراق منذ العهد السومري. هذا التهميش امتد إلى ارتكاب مجازر بحقهم، وآخرها في شوشتر، في إيران، قبل قرن من الزمن. لقد عاش هؤلاء كمجموعات قليلة العدد وجرى تشريدهم".

لعبد الإله السباهي قراءته الخاصة في واقع وتاريخ المندائيين وما تعرضوا له: "للأسف أغلبية الشعب المندائي لا تتكلم بلغتها، ثم إن رجال الدين كوّنوا ثقافة دينية فقط، ولم يدخل المندائيون الصابئة في مواجهات عنفية مع أحد، فعقيدتهم ودينهم يقومان على المسالمة. فإذا كانوا يسالمون حتى في البيئة، فما بالك بمسالمة البشر؟".

وإن كان من الممكن تلمّس جوانب "ثقافية" لدى المندائيين بعيدًا من اللغة، فإن الحِرَف التي تتطلّب مهارات دقيقة، مثل تطويع المعادن وصنع المصوغات الذهبية والفضية، تؤدي دورًا في بلورة تلك الثقافة، ولعل ابتكارهم لقوارب رفيعة ذات مقدمة مرتفعة للتنقل بشكل يسير في الأهوار - وتسمى طرادة - يلقي الضوء أكثر على تاريخهم.
إلا أنه رغم "خيبات" التاريخ الممتدة من جمهورية أفلاطون في "اللطلاطة"، التي شيّدها على ضفاف النهر في الأهوار رجالهم ونساؤهم، استطاعوا السمو على جراحهم الكثيرة، بطريقة "خاصة". فقد محا المندائيون لغتهم بأنفسهم على ما يبدو، إذ يوضح السباهي: "لكي يتجنبوا الناس، بعد أن تم إيذاؤهم وبشدة وبشاعة في شوشتر، أخذ المندائيون يستخدمون لغة محيطهم الذي يعيشون فيه. بل حتى الأسماء تبنوها اضطرارًا، كأن يصبح اسما "علي" و"حسين" منتشرين، رغم أن المندائية ليس فيها أسماء كهذه".

يبسط السباهي، المُهاجر منذ عقدين إلى الدنمارك، في مؤلفاته المتعددة - ومنها "اللطلاطة"، وهي مجموعة قصصية عن أول قرية بناها المندائيون في العراق الحديث - أمام القارئ تفاصيل ذلك النوع من النضال لمجموعة بشرية في إبداعات البقاء والنجاة. والشخصية المندائية حاضرة أبدًا في مؤلفات السباهي، فرغم أن لطلاطة بقيت "بلا طابو بعد أن نهب أبو علوان ما جمعه بُناتها من أموال لتسجيلها"، إلا أن "حيهن" بقيت ملهمة لقوة المرأة المندائية، ليس فقط في تناول الأدب عند السباهي، بل في ما يعيشه هؤلاء في غربتهم المتوسعة أكثر مع الزمن العراقي الجديد.
القدرة على البقاء "فيها تخلٍ عن الكثير من الأمور لأجل الانغلاق والحفاظ على الدين عند المندائيين"، يشرح السباهي لـ"ملحق الثقافة"، تمامًا مثلما يسرد للقراء في كتابه "صندوق الأبنوس" قصة مندائي في الدنمارك، وطريقة تقبّله لمكانه الجديد، وتطويع النفس على البدء من جديد.

فما يحاول مندائيو المهجر عمله، لا يختلف كثيرًا عما فعله أجدادهم تقريبًا في ما يخص الحرف التقليدية، إلا أنهم يتميّزون بأمر آخر، إذ هم يكتبون أعمالاً أدبية باللغة العربية، وأطلق على هذا التيار اسم "أدب التجربة". فإلى جانب وجود كتاب "كنزاربا" (الكنز العظيم، الكتاب المقدس لدى المندائيين)، وما تمارسه البيئة المندائية من محاولات الالتزام الدقيق بتعاليمه المركزة على كثير من الإرشادات التعبّدية، والتصرفات القائمة على التطهّر والزهد والمعرفة والابتعاد عن محرّمات كثيرة، من أهمها تلويث البيئة والماء باعتباره مقدسًا، بات من الممكن للمتابع للبيئة المندائية في المهجر الأوروبي رؤية تلك الكتابات الجديدة التي يأمل السباهي أن تؤلف أدبًا وثقافة مندائيين.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.