}

ملامح طوكيو التي لم تفسدها الحداثة

جنى الحسن 25 ديسمبر 2016

يكتشف تاكيتوري نو أوكينا وهو حطّاب يقطع شجر البامبو أميرة صغيرة اسمها كاغويا داخل نبتة بامبو صغيرة ومشعّة ويصطحبها إلى منزله. هذه الأميرة آتية من كوكب مختلف هو القمر وليست من سكان الأرض. يضمّها لرعايته وتكبر تحت جناحه وجناح زوجته لتصبح شابةً جمالها لا يضاهى. ويجذب جمالها خمسة رجال من النبلاء يتقدّمون لها للزواج، لكنها تصرف كل واحد منهم عبر إعطائه مهمة شاقة وتقريبا يستحيل تنفيذها لكي تقبل الزواج منه. يقع في غرامها كذلك إمبراطور اليابان، لكن على الأميرة العودة إلى القمر. وتقدّم له قبل رحيلها هدية هي عبارة عن إكسير يحميه ضد الموت وضد التقدّم بالسن. يكتشف الإمبراطور أن العيش مدى الحياة من دون الأميرة غير مجدٍ فيعطي الإكسير لخادمه ليحرقه على قمة جبل فوجي. وفوجي تعني الخلود أو عدم الموت. وحتى يومنا هذا، حين ينبثق الدخان من قمة جبل فوجي، يقال إنّ مصدره هذا الإكسير.

هذه حكاية تناقلتها ومازالت الأجيال اليابانية على مدى أكثر من عشرة عقود. وعلى سطح المبنى الذي يحتوي متحف موري في طوكيو، وحيث القصة موجودة، يقف الكثير من الناس عند وقت المغيب، ينتظرون أن يروا جبل فوجي المقدّس وإن كان سينطلق منه الدخان. في الأسفل من المبنى الشاهق في تلال روبونغي، تمتد أبنية طوكيو المتلاصقة ويتحوّل لون السماء شيئاً فشيئاً من الأزرق إلى البرتقالي استعداداً للمغيب. الشمس حين تنام تنعكس ظلالها على الأفق ويصبح جبل فوجي ظاهراً بدقة أكبر. والناس ينتظرون ويلتقطون الصور للمنظر الخلاب. 

في اليابان، هناك أشياء كثيرة على الرغم من وتيرة الحياة المتسارعة، التي تنمّ عن الصبر. فأنت تشعر أن الحداثة ما زالت فيها الكثير من العراقة وتشعر أحياناً فعلاً أنّك في كوكبٍ آخر. في المدينة، قلة من يتكلمون اللغة الإنجليزية وهو ما يجعل التخاطب صعباً كون اليابانية ليست لغة شائعة للأجانب. وحتى عند محاولة شراء الكثير من الأشياء، المنتجات مكتوب وصفها باليابانية فحسب. هناك أيضاً، لم تغزُ البلاد المتقدمة كثيراً تكنولوجيياً ثقافة "الفيزا كارد" أو "الكريديت كارد" (بطاقات الائتمان). في أسواقٍ مفتوحة ومتلاصقة المحال فيها والبضائع معروضة في الخارج كأنّك في سوق عربي، ما زال التعامل بالأوراق النقدية.

والصبر أيضاً أو ربما كذلك الأناقة تظهر في التعامل المالي. عندما تدفع ثمن ما اشتريت، لا تعطي المال إلى البائع باليد، بل تضعه في طبق صغير مخصص لذلك ومن هناك تسترجع الفكة وما تبقى من الحساب كذلك.

في حيّ صغير من أحياء طوكيو، تمشي لتجد أن المحلات تفتح أبوابها عند الساعة العاشرة صباحاً وفيما يلي ذلك. الأمكنة هادئة، ونادراً ما تمر فيها السيارات، فالغالبية هنا يستعملون إما الدراجات الهوائية أو المشي أو وسائل النقل العامة. والطرقات الصغيرة والضيقة بعض الشيء مع الكتابة اليابانية على واجهة المحلات تشعرك أحياناً كما لو أنّك داخل لعبة فيديو وخارج العالم التقليدي. هناك تجد الصناعة الحرفية اليابانية وأطباق الخزف على جوانب الطرقات، فالمدينة لم تفقد رونقها. القطة المبتسمة التي تلوّح بيدها والتي يعتبرها اليابانيون جيدة للحظ وللترحيب بالضيوف موجودة في كل مكانٍ كأنّها وجه من أوجه المدينة.

تكمل الطريق حتى كيشيجوجي، وهي منطقة تجارية يابانية في طوكيو. ترى أحياء داخلية وبضائع معروضة في الخارج وروائح الطعام والناس ينتظرون في صفٍّ طويل خارج المحل. الوجوه مبتسمة، لكنها متشابهة. لا وجود للغرباء هنا. قلة فقط من الأجانب قد تراهم في اليابان.

مترو طوكيو

حتى حين تركب مترو طوكيو، لا تشعر أنّ هذه البلاد هي للتنوع، بل هو عالم مكتفٍ بذاته وبعيد لحدّ ما عن الآخرين. يقول الكثيرون ممن التقيتهم ومن ضمنهم الأكاديمية والمختصة بالأدب العربي كاورو ياماموتو إن اليابانيين يشعرون بالخجل. هم لطفاء ومهذبون إلى حد يجعلهم انطوائيين بعض الشيء. هذا الأمر يؤكّد عليه صديق ياباني آخر يتكلّم العربية بطلاقة وتحديداً اللهجة اللبنانية كونه عاش في بيروت على مدى عامين وقبلها سورية. يقول إن اليابانيين تغلب عليهم روح الجماعة، رغم أن طريقة تنظيم البلاد تنم عن نمط فردي. اليابانيون يرون أنفسهم كجزء من كل ولهذا التواضع مهم بالنسبة إليهم، وبالتالي تنتفي "الأنا" لتغلب الـ"نحن".

هذه الروحية تلمسها أيضاً في التعامل العادي اليومي. فالإكرامية (البقشيش) في اليابان معدومة مقابل أي نوع من الخدمات، سواء في المطعم أو في التاكسي أو أي مكان، وقد تعتبر نوعاً من الإهانة. الناس يشعرون أنهم يأخذون ما هو مقابل لعملهم وهي التعريفة العادية، وما زاد عن ذلك ليس مستحقاً. لكن هذا الشعور قد يكون له سلبيات كذلك، منها عدم رغبة المرء بالتميز أو خوفه أحياناً من أن يصبح مختلفاً حتى لا يخرج من شعور الانتماء للجماعة.

لكن في البلاد، غياب التنوع على الرغم من كونه يعطي اليابان طابعاً متميزاً يبقيها نوعاً ما معزولة عن العالم الخارجي والتواصل الذي قد يفتح لها آفاقاً اقتصادية. والشباب هنا بشكل ما يعانون من غياب الشعور بالحماسة تجاه الحياة أو الحافز والهدف. وقد أظهرت نتائج دراسات عدّة عزوفهم عن الجنس والعلاقات والزواج وعزوفهم عن إنشاء أعمال خاصّة بهم بدل العمل ضمن شركات.

هذه الظاهرة ليست لها إجابات كافية، لكن على حد ما تقول كاورو هناك ربما أزمة من الفراغ الفكري. المجتمع الياباني ليس متديناً وهو محكوم بالتقاليد والعادات، لكنّه يكاد يخلو من الروحانيات والعلاقة مع الدين. غياب الدين لا يظهر أي أزمة أخلاقية بل على العكس. لكن هناك بشكل ما غياب للمعنى، وهو وإن لم يكن بالضرورة هناك معنى في الحياة، فهناك غياب للسؤال عن المعنى، وهو ما قد ينتج حراكاً مختلفاً نوعاً ما.

في بلاد الساموراي، حيث تعاقبت حضارات مختلفة، يظن الكثيرون أيضاً أنّ طوكيو قد تكون أكبر بعض الشيء ممّا يجب. فهناك اكتظاظ سكاني يحوّل المنازل إلى أماكن صغيرة. فعندما قلت لصديقي الياباني شنتارو إني أتنقل بالسيارة حيث أعيش، عبّر عن امتعاضه أن يأخذ شخص واحد – أي أنا – هذه المساحة كلها من الطريق في سيارة كاملة. ضحكت وأخبرته أن المساحات أوسع.

واليابانيون المهتمون بالثقافة واللغة العربية يتكلمون العربية بطلاقة وهم على دراية بتفاصيل المشهد الأدبي في الدول العربية وحتى بصراعات منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والبنية الاجتماعية لبلدان المنطقة. وتشعر لوهلة أنّهم يعرفون عنك أكثر مما تعرف عن نفسك، وهذا أمر مثير للإعجاب.

في هذه البلاد، تشعر فعلاً أنّك في كوكب آخر. لكنّك تشعر بسلامٍ في داخلك وبأمانٍ غريب. هناك دفء في اليابان رغم الطقس البارد في الشتاء، دفء ينبع من قدرة الحفاظ على البلاد بطابع حضاري لم تفسده الحداثة.

حين تتجول قرب المعابد وحدائق البامبو والطبيعة الجميلة، وتقف من الأعلى فترى المدينة ممتدة أمامك بعمرانها العشوائي في بعض الأماكن. وحتّى إن نظرت ووجدت وجوهاً متشابهة، تتمنّى ألا يفسد هذا المكان العالم الخارجي. تتمنّى لو أن المدن تحافظ على هذه الخصوصية ولو أن العلاقة مع الخارج والعولمة لا تحول كل البلدان إلى أماكن متشابهة فتفقدها خصوصيتها. تتمنى أن تعود بعد عشر سنوات أو عشرين سنة وتجد أن التعامل لا يزال بالأوراق النقدية، وروائح الطعام لا تزال تفوح من الأحياء، وأطباق الخزف معروضة في الأسواق الخارجية. تتمنى أن يبقى الناس يؤمنون بالتعاويذ التي تقي من الشر والأساطير وحتى الخرافات. هذه العوامل تعطي للمدن هويتها، تعطيها ملامح. في اليابان، تشعر أن المكان أكثر من أبنية وأحجار. تشعر بأطياف حولك. تشعر أنّك داخل روح.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.