}

إدوارد سعيد والمغرب... صرامة أكاديمية ومجاملة فكرية

يحيى بن الوليد 5 أكتوبر 2016
اجتماع إدوارد سعيد والمغرب...
صرامة أكاديمية ومجاملة فكرية
المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد (Getty)

بدا لنا، في هذا المقال، وبحيّزه المضغوط، وضمن محور "إدوارد سعيد وأفق المغرب"، وعلى نحو ما يمكن تأطيره ضمن محور أعم وأعرض وهو محور "إدوارد سعيد وحال العرب"، أن نبحث في "موقف" مفجـِّر "نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي" (Postcolonialism) من المغرب. وثمة أكثر من اعتبار، معرفي ابتداءً، يحفّز على هذا النوع من المقاربة التي من المفروض فيها أن تنأى عن أشكال من الاستعراض الأكاديمي والسياحة الفكرية. ويهمنا، هنا، أن نشدّد على اعتبارين لا أكثر: أولهما يرتبط بإدوارد سعيد (1935 ــ 2003) ذاته وبخاصّة من ناحية تكوينه الأكاديمي والفكري والإنساني. ومن هذه الناحية فإن الرجل "مثقف موسوعي"، وبشهادة الجميع وبما فيهم من أعدائه وعددهم كثير. ومن ناحية ثانية، وموازية، فإن أهمّ ما ميـَّز صاحب "خارج المكان" أنه ظلَّ يحلـِّق ما بين الثقافات واللغات... بالرغم من تكوينه الأكاديمي الأميركي الغالب (والمحكم للمناسبة). ولذلك لا يبدو غريباً أن نظفر بإشارات، ومواقف له، بخصوص المغرب. وهذه الإشارات والمواقف قابلة لأن تناقش، وقابلة لأن تكون نواة قراءات ودراسات.

والبلد الأخير، وفي دلالة على الاعتبار الثاني، خضع بدوره للاستعمار على مدار الفترة الممتدة ما بين 1912 ــ 1956... أي أنه عرف الاستعمار في تلك الفترة التي كانت شاهدة على بدايات "المرحلة البرزخية" التي تصل ما بين أوج الاستعمار وبدايات تصفية الاستعمار في العالم ككل. وهذا بالإضافة إلى أن المغرب، وكباقي البلدان التي خضعت للاستعمار المباشر، ما يزال يعيش مخلفات الاستعمار وعلى صعيد "الثقافة" خاصة التي كانت في أساس تشكّـل "نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي" التي بدت، ولا تزال تبدو، الأقرب والأنسب للتعاطي لـ"الأرشيف الكبير" للعالم الثالث و"العالم الثالث الجديد". وأمّا أن نكون قد بلغنا "مرحلة ما بعد الاستعمار" أو أننا نعيش "سياق ما بعد الاستعمار"... فهذا موضوع أو بالأحرى هذا "مأزق" آخر.

ولا يبدو غريباً أن يكون أوّل من يستوقفنا، بصدد موضوع "إدوارد سعيد والمغرب"، هو المؤرخ المفكّر المغربي الألمعي عبدالله العروي (1933). وقد كتب عبدالله العروي، وبطريقة تحليلية صارمة وشاقـّة ومستحدثة، في مجالات متعددة أهمها "مجال التاريخ" (تاريخ المغرب، تعيينا) الذي برز فيه أكثر وبعد أن أسهم فيه بمصنفات قوية لا تزال مراجع أساسية في موضوعها، علاوة على ما تنطوي عليه هذه المصنفات من أهمية أكاديمية (وتنظيرية، أيضاً) بالغة. ويحيل إدوارد سعيد على العروي في كتابيه الإشكاليين والمنتظمين ضمن جبهة "نقد الاستشراق" التي برز فيها (إدوارد سعيد) أكثر وعلى النحو الذي جعله في الواجهة الأكاديمية والإعلامية في الجهات الأربع للعالم. والمقصود، هنا، كتابه "الاستشراق" (1978) الذي توخّى فيه تحليل مقولات الخطاب الاستشراقي وتفكيك استراتيجياته القائمة على سياسات الهيمنة وعلاقات القوة العارية، والذي بموجبه صار الاستشراق على حال لم يكن عليها قبل نشر الكتاب، صار كلمة "سيئة" كما أوجز المؤرخ ألبير حوراني، ثم كتابه الإشكالي والمهم أيضاً، "الثقافة والإمبريالية" (1993) الذي واصل فيه تشريح أنساق "التمثيل" من منظور تشابك الثقافي والإمبريالي ومن منظور "الردّ الكتابي" (Writing Back) الذي هو قرين المقاومة الثقافية والسرديات المضادة. وما تجدر ملاحظته أن صاحب "الاستشراق" نادراً ما يحيل على مفكر عربي وبما في ذلك من الذين انتقدوه أو من الذين من المفترض أن يحاورهم أو أن يحاوروه.

وعلى الرغم من التمييز، الواضح والصريح، الذي يقيمه العروي بين "الغرب التاريخي" و"الغرب الاستعماري" ("الإداري"، كما يصطلح عليه إدوارد سعيد أحياناً)، وعلى النحو الذي جعله يلفت الانتباه إلى عدم أخذ إدوارد سعيد بهذا التمييز، فإن ذلك لم يمنع إدوارد سعيد من أن يحيل على منجز العروي الفكري والتاريخي. والعروي من أهمّ المفكرين العرب المعاصرين من الذين قدّموا نقداً "حداثياً" قويّاً للفكر العربي، في تياراته الأيديولوجية المركزية، وبطريقة تحليلية صارمة لا مجال فيها، وسواء على مستوى التضمّن أو اللزوم، للزوائد البلاغية والثرثرة الفكرية. وكما قدّم العروي، وعلى مستوى "نقد الاستشراق"، نقداً قويّاً لمستشرقين محدّدين وقبل ذلك مكرَّسين في الثقافة العربية الحديثة والمعاصرة. وإدوارد سعيد يحيل على أعمال العروي ذات الصلة بالموضوع. والفارق بينهما أن العروي يتفادى "النظرة الموحدَّة" للموضوع... فهو يقرّ، في "الأيديولوجيا العربية المعاصرة"، أن الاستشراق، وتبعاً للفعل أو الاصطلاح الجامع الذي يعتمده، "أثـّر" في الثقافة العربية الحديثة. والمؤكد أن فكرة، في هذا الحجم، تستلزم دراسات، وقد أسهمنا بواحدة منها سعينا فيها إلى أن نعرض لموقف العروي من "نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي" ككل (والدراسة متداولة في شبكة الاتصال الدولي وتحت عنوان: "عبدالله العروي ونظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي").

ومن خارج دائرة عبدالله العروي، وباستثناء إشارته إلى الطاهر بن جلون وعبد الكبير الخطيبي، وكـ"كاتبين فرانكفونيين"، وهذا مع أن الخطيبي "علامة فكرية متجدِّدة" على نقد غير مسبوق في الفكر العربي ككل وهو "النقد المزدوج"، فإننا لا نجد، وعلى مستوى ما يمكن نعته بـ"الخلفية العربية" لإدوارد سعيد، أي إشارة للمفكّرين والكتّـاب المغاربة من غير إشارة عابرة ــ و"كريمة" ــ إلى الشاعر والباحث محمد بنيس وفي سياق عربي أوسع ــ بعض الشيء ــ هو سياق الإشارة إلى نقاد الأدب العربي من جماعتي مجلة "فصول" (المصرية) ومجلة "مواقف" (اللبنانية). وفي هذا الصدد تجدر الإشارة إلى "النقد الوجيه"، و"المنسجم"، الذي وجـِّه لإدوارد سعيد، على هامش الإحالة نفسها، وبخاصّة من ناحية "القناة" التي قدّمت له من خلالها الثقافة العربية المعاصرة.

وثمة إشارة أخرى للمغرب، وتبدو من خارج الموقف البرجماتي هذه المرّة، أو من خارج "المجاملة الفكرية" كما ننعتها، وتعكس موقف إدوارد سعيد الصريح من الثقافة المغربية. والإشارة، أو الفكرة، قد تكون كافية لكي يتراجع بعضهم عن دراسة المغرب في ضوء ما يتيحه المنجز السعيدي من أفكار ومقولات. وقد وردت الفكرة في سياق الحديث عن "المثاقفة" (Acculturation) في العالم العربي، وعلى وجه الخصوص في "شمال أفريقيا". يقول إدوارد سعيد في حوار أجرته معه مجلة "الكرمل"، (العدد: 98، شتاء 2004): "يساورني الانطباع بأننا في العالم العربي نقوم بالنسخ المباشر. ما أن يقرأ الواحد كتاباً من تأليف فوكو أو غرامشي، حتى يرغب في التحول إلى "غرامشوي" أو "فوكوي". لا توجد محاولة لتحويل تلك الأفكار إلى شيء ذي صلة بالعالم العربي. نحن لا نزال تحت تأثير الغرب، من موقع اعتبرته على الدوام دونياً وتتلمذيا. تأمل العدد الكبير من الأفراد في شمال أفريقيا، في المستعمرات الفرنسية السابقة، من يكتبون وكأنهم تلامذة فوكو أو دريدا أو تودورورف. إنها نوع من فانتازيا التكرار التي أجدها مضحكة في معظم الحالات. والقسط الأعظم منها راجع في نظري، وهذا مجرد انطباع، إلى فهم ناقص للغرب".

وربما، في إطار من هذا "الانطباع"، النابع من ثقافة إدوارد سعيد الغربية الغالبة والمتينة والموسوعية، قرأنا موقفه، الصريح، من المغرب الذي لا تعدو أن تكون فيه الإحالات على الأسماء، أسماء الواجهة، وعدا عبدالله العروي، مجرد إرضاء عابر. "فعين العقل لها كذلك نقطتها العمياء" كما يقول موريس ميرلو بونتي في كتابه "المرئي واللامرئي"؛ ولا نظن أن نقطة، في هذا الحجم المعرفي، تغيب عن إدوارد سعيد الذي خصَّ بونتي ذاته بمقال إبستيمولوجي ثاقب.

من الجلي أن المغرب لم يحظ إلا بإشارات معدودة، جدّاً، من قبل إدوارد سعيد. هذا بالإضافة إلى أن هذه الإشارات لم ترق إلى إشاراته، المتكرّرة، إلى بلد قريب من المغرب وهو الجزائر مع أنه ــ ومع اختلاف على مستوى تغلغل الظاهرة الكولونيالية في بلد كاتب ياسين أو "فرنسا الثالثة"ــ ثمة أكثر من قاسم مشترك يصل ما بين البلدين على الرغم من "مكر الحدود" التي ظلت تباعد ما بينهما على صعيد الجغرافيا لا الثقافة. المؤكّد، هنا، أن الاستعمار الفرنسي في الجزائر كان استيطانياً وهو أبشع أنواع الاستعمار كما قيل، مما جعل صاحب "الاستشراق" يخصُّه بإشارات عديدة، ومما جعله ينظر إلى فرانز فانون (F. Fanon) ــ "نبيّ العالم الثالث" ــ من منظور "النموذج الجزائري".

إجمالاً ظل إدوارد سعيد حريصاً على التأكيد على معرفته بالعالم العربي أو "العالم الشرق ــ أوسطي" كما نعته، وقبل ذلك فهو نشأ في هذا العالم وتدرّج فيه قبل أن يرحل إلى الغرب الأميركي من أجل الاستقرار النهائي فيه، عائشاً ومهدَّداً... ومدرّساً في إحدى أكبر جامعاته، وقبل ذلك ظل حريصاً على التأكيد على معرفته بمجال تخصّصه الأوّل والأثير الذي هو "العالم الغربي". وإدوارد سعيد، في آخر المطاف، وحتى على صعيد فهمه للصهيونية ونقده الثاقب لها، وحتى لا ننحصر في تكوينه الأكاديمي فقط، هو نتاج الغرب؛ وهذا ما لم تستوعبه، بعد، "القراءات الاستعمالية" بشقيها "القومي" و"الإسلاموي".

ولعلّ "تقديره" للعالم العربي، هو ما جعلنا نقدم، وفي سياق مثل سياقنا التاريخي والفكري العربي الضاغط، على إنجاز كتاب في موضوع "إدوارد سعيد وحال العرب". وظهر الكتاب في طبعتين في القاهرة، في العام نفسه (2010)، وتحت عنوان عريض: "الوعي المحلق". وكرسنا الكتاب لـ"تلقّي العرب لـ"النص السعيدي" ولـ"تصوّر إدوارد سعيد للعرب" و"تصوّر العرب لإدوارد سعيد" ولـ"الدرس" الذي يمكن استخلاصه من النص السعيدي، ودون التغافل عن الدراسة النظرية المطوّلة حول "نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي" التي صدّرنا بها دراسات الكتاب. ويبدو جلياً، في "الوعي المحلـق"، أننا لم نقترب، ولو من خلال إشارات مقتضبة، من موضوع التعامل مع النص السعيدي داخل المغرب الذي ننتمي إليه جغرافيا وثقافياً، وعياً منّا ــ وفي أثناء الاشتغال على الكتاب ــ بأن ذلك سيكون موضوع كتاب قادم.

والخلاصة، أن إدوارد سعيد، وفي حال العالم العربي ككل، يشكّ في وجود خطاب ما بعد كولونيالي في هذا العالم، بل يشك حتى في وجود علامات دالة عليه كما يشير إلى ذلك في حوارات "السلطة والسياسة والثقافة". والظاهر أن ما هو غائب، في العالم العربي، وعلى وجه التحديد، هو "التنظير الأكاديمي المحكم" الذي يرقى بدراسات ما بعد الاستعمار إلى مستوى "الممارسة التأويلية الدنيوية"، وعلى نحو ما يتصوّرها ويلحّ عليها ــ في الوقت ذاته ــ إدوارد سعيد، وعلى نحو ما تمثله هذه الممارسة من طريق ثالث يصل ما بين الخطاب الأيديولوجي والتخصّص الأكاديمي.

أجل لقد مارس "خطاب ما بعد الاستعمار" تأثيره داخل المغرب، وكما في كثير من البلدان العربية، غير أن امتداداته المعرفية كانت في بقاع أخرى، من خارج العالم العربي، وعلى وجه الخصوص في الهند... وحتى في إسرائيل وعلى وجه التحديد من خلال ما يعرف بـ"ظاهرة المؤرِّخين الجدد" من الذين فكّكوا "الرواية الإسرائيلية"، حول "فكرة فلسطين"، وعلى النحو الذي أزعج وأربك الآلة الأيديولوجية الصهيونية. وكان إدوارد سعيد نفسه قد احتضن بعض أعمال هؤلاء، وقدّم لها.

(ناقد وباحث مغربي)

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.