}

الهندسة المعمارية ومستقبلها: التكنولوجيا والاستدامة

ياسر صاروط 4 أكتوبر 2016
عمارة الهندسة المعمارية ومستقبلها: التكنولوجيا والاستدامة
مركز جورج بومبيدو في باريس (Getty)
"ليس هناك شك، على الإطلاق، في تأثير الهندسة المعمارية وفن البناء على شخصية الإنسان وعلى نشاطاته. نحن نصنع أبنيتنا، ومن ثمّ هي ما يصنعنا". ونستون تشرشل، في كلمة إلى جمعية المعماريين الإنكليز، 1924.


في بواكير القرن العشرين بدأ أسلوب جديد في فن البناء بالتَبَلْور، هو ما أُطلق عليه في ما بعد اسم عمارة الحداثة. قام عدد من المعماريين الأوروبيين والأميركيين (لويس سوليفان، فرانك لويد رايت، أنطوني غاودي، أوتو فاغنر وغيرهم) بتطوير حلول جديدة في العمارة، في سياق الحداثة الفكرية التي بدأت في تثبيت أقدامها، وفي أعقاب ثورات وحركات اجتماعية وسياسية نادت بتغييرات كثيرة في مختلف مناحي الحياة. رفض معماريو الحداثة الزخرفة والفخفخة النافلة التي كانت سائدة في عصرهم، وانطلقوا من قواعد نظرية جديدة في التصميم، أهمها قاعدة "الشكل يتبع الوظيفة". كما توخوا "الصدق" في التعبير البصري، فحاولوا إظهار الهيكل الإنشائي كما هو، وكشفوا مواد البناء "على حقيقتها"، فلم يحجبوها بمواد أخرى. وكانت حجوم أبنيتهم وخطوطها واضحة، مستقيمة ومتعامدة غالباً. واستعملوا بحماس المواد والتقنيات الجديدة التي أصبحت متوفرة في عصرهم. من ناحية أخرى، فإن معظم معماريي الحداثة كانوا يدركون الدور الاجتماعي والسياسي الذي يمكن أن تلعبه العمارة والتخطيط المديني، فشاركوا مثلاً في تصميم أحياء وضواحٍ جديدة في المدن، وانخرطوا في مشاريع الإسكان الشعبي التي كانت قد انطلقت في أعقاب الحرب العالمية الأولى.

ترسخت عمارة الحداثة في العقود الأولى للقرن العشرين، وشهد العقد الثالث، من القرن الماضي، بروز ممثلين كبار لهذه العمارة، أمثال لوكوربوزييه، والتر غروبيوس، وميس فان دير روِّه. كما تمّ تأسيس كلّية اﻟ"باوهاوس" في ألمانيا على يد غروبيوس. تلك المدرسة التي سرعان ما أصبحت بوتقة الحداثة ومختبرها، وامتد إشعاعها، حتى يومنا هذا، ليس في العمارة فحسب، بل في كل فنون التصميم.
وفي أواخر العشرينيات تم تأسيس "المؤتمر العالمي للعمارة الحديثة" على يد لوكوربوزييه وعدد من المعماريين الأوروبيين. تبنّى هذا المؤتمر، إضافة إلى نشر مبادئ الحداثة، قضية "العمارة كفن اجتماعي"، بمعنى وجوب استعمال العمارة كأداة لتحسين حياة الناس. واستمرّ المؤتمر بالانعقاد كل سنتين حتى عام 1958 (مع انقطاع خلال الحرب العالمية الثانية).

الحداثة وما بعدها

انتشرت عمارة الحداثة، التي سوف يحمل جانبها الشكلي ابتداءً من الثلاثينيات اسم "الأسلوب العالمي"، في أوروبا وأميركا. وتابعت انتشارها في عواصم ومدن بقية القارات، التي كانت بغالبيتها ترزح تحت نير استعمار هذا البلد الأوروبي أو ذاك. وكان أن استُنسِخت أشكال العمارة الأوروبية في البلدان الأخرى، من دون مراعاة الظروف والحاجات المحلية، مناخية كانت أم اجتماعية أم اقتصادية. ولم يَسْلم هذا الأسلوب من النقد منذ بداياته. بالإضافة إلى ما سبق، فإن منتقديه أعطوه أوصافاً مثل "قبيح"، "صارم"، "عقيم" و"نخبوي". اكتسبت انتقادات كهذه زخماً في النصف الثاني من القرن العشرين، وكانت حافزاً لتجريب أساليب جديدة في العمارة، كردّة فعل على الأسلوب العالمي. كان أبرز هذه الأساليب: "الحداثة العضوية" (أشكال وسطوح منحنية بدلاً من الخطوط المستقيمة)؛ و"الشكلانية الجديدة"(دمج عناصر كلاسيكية بالتصاميم العصرية)؛ و"الوحشية" (عمارة "ثقيلة"، ذات طابع صرحي). إلى أن تشكّل تيار قوي، مُعارض للحداثة، واشتد عوده في الثمانينيات، وهو ما سوف يُعرَف بحركة "ما بعد الحداثة".

بشّرت عمارة ما بعد الحداثة بعودة "الظُرْف، الزخرفة والمرجع" إلى العمارة، كجواب على الأشكال الجافة للأسلوب العالمي. أعاد المعماريون اكتشاف عناصر زخرفية من عصور سابقة للحداثة ودمجوها في تصاميمهم (ناطحة السحاب التي يتوّج واجهتها زُخرف من عصر "الباروك"، والمعروفة ﺑـ"بناية سوني" في نيويورك). وسعوا عمداً إلى الابتعاد عن الخطوط المستقيمة باتجاه سطوح وأشكال غير مألوفة. ولا يزال هذا الأسلوب مُعتَمداً من قِبَل بعض المعماريين حتى اليوم. ومن أبرز ممثلي هذه العمارة: الأميركي بيتر آيزنمان، الإسباني ريكاردو بوفيل، السويسري ماريو بوتّا، الأميركي فيليب جونسون، البريطاني جيمس ستيرلنغ والإيطالي ألدو روسّي.

بالتوازي مع ما بعد الحداثة، أو بعد انطلاقها بقليل، نشأت أساليب أخرى في العمارة، أغلبها لا يزال متّبَعاً حتى اليوم. من أهمّها وأوسعها انتشاراً: "عمارة التكنولوجيا الفائقة"، "العمارة التفكيكيّة" و"العمارة المستدامة". فيما يلي محاولة تعريف بكل من هذه الأساليب مع ذكرنا أبرز ممثليها.

  • عمارة التكنولوجيا الفائقة: وتُعرَف أيضاً باسم الحداثة المتأخّرة أو التعبيرية الإنشائية: ظهرت في أواخر السبعينيات واعتُبِرت نوعًا من التجديد في عمارة الحداثة. دَمجت هذه العمارة عناصر من الصناعة التكنولوجية المتقدّمة في تصميم المباني. وأظهرت عمداً الهيكل الإنشائي، الفولاذي على الغالب، في خارج المبنى كما في داخله (أنظر بناية بنك HSBC في هونغ كونغ للمعماري البريطاني نورمان فوستر). وفي مبانٍ مثل مركز بومبيدو الثقافي في باريس أخذت هذه الفكرة أبعاداً قصوى، حيث إن بعض العناصر التي تبدو إنشائية لها وظيفة شكلية - جمالية فحسب، بالإضافة إلى إظهار "أحشاء" المبنى (أنابيب التهوية والتبريد مثلاً)، واستعمالها كعناصر جمالية أيضاً. من أهم معماريي هذا الطراز: البريطانيان ريتشارد روجرز ونورمان فوستر، الإيطاليان رِنزو بيانو وجانفرانكو فرانكيني، الكولومبي بروس غراهام والبنغالي فضل الرحمن خان.
  • التفكيكيّة: تُعتبَر التفكيكيّة إحدى تجليّات عمارة ما بعد الحداثة. تأثّرت هذه العمارة بالنظرية التفكيكية في اللغة، الفلسفة والعلوم الاجتماعية. وتتميّز، كما يدل اسمها، بتفكيك أو تجزئة الحجوم والتلاعب بالسطوح بأشكال غير متوازية الخطوط، وزوايا غالباً ما تكون حادة بدلاً من الزوايا القائمة. تظهر العناصر المعمارية وكأنها مشوَّهة أو مخلخلة. ويبدو المبنى في النهاية وكأنه "فوضى منظَّمة" (أنظر مبنى مركز الإطفاء في فيترا للمعمارية زها حديد). ومن المعماريين المعروفين باتّباعهم هذا الاتجاه كل من : الأميريكي فرانك جِهري، البولوني دانييل ليبسكِند، الهولندي ريم كولهاس، الفرنسي برنار تشومي إضافة إلى العراقية - البريطانية الراحلة زها حديد.
  • العمارة المُستدامة: وتُعرف أحياناً بالعمارة الخضراء أو العمارة البيئية، تسعى إلى تخفيض الأثر البيئي السلبي للأبنية إلى الحد الأدنى. وذلك عبر استعمال المواد، الموارد والمساحات بفعّالية واعتدال. وتعني الاستدامة في حالة العمارة، كما هو معناها المتداوَل عامةً، ضمان ألّا تحدّ قراراتنا وأفعالنا اليوم من فُرَص الأجيال القادمة. ليس ثمّة خصائص عامة مشترَكة على صعيد الشكل في العمارة المستدامة. بل قد تكون القاعدة الأولى في عمارة الحداثة، أي "الشكل يتبع الوظيفة"، هي ما ينطبق على العمارة الخضراء أيضاً. ذلك أنها، وبخلاف أكثرية الأساليب المعمارية التي رأيناها سابقاً، لا تنطلق من اعتبارات شكليّة من الأساس. وسوف يأتي الحديث عليها بشئ من التفصيل في الفقرة المتعلقة بالاتجاهات المستقبلية للعمارة. ورغم العدد الكبير من المعماريين الذين اعتنقوا مبادئ العمارة المستدامة، فإن "نجومها" قلائل، نذكر منهم: الكندي بيتر بَسبي، الأميريكي إريك كوري فْريد، الماليزي كين يينغ والإيطالي رنزو بيانو. ولا نستطيع إلا أن نذكر في هذا المقام المعماري المصري الراحل حسن فتحي، الذي كان أحد الروّاد الأوائل لهذه العمارة حتى قبل أن يُتعارف على اسمها.     

 

 مجموعتان من العوامل تؤثّران اليوم، وسوف تؤثران على الأرجح، في المستقبل المنظور في العمارة: هناك من ناحية أولى التطور الكبير في التكنولوجيا: الحاسوب، الشبكة العنكبوتية ووسائل الاتّصال والتواصل؛ كما التطّور في تكنولوجيا الطباعة ثلاثية الأبعاد والطائرات بدون طيار. ومن ناحية ثانية هناك الوعي المتزايد بالأخطار على البيئة، وبالتالي على الحياة والمجتمعات البشرية؛ والإدراك الذي يترسّخ يوماً بعد يوم بأن الموارد والمساحات على هذا الكوكب محدودة، وبضرورة الحفاظ عليها للأجيال القادمة.

نستطيع اليوم، بفضل تقنيات الرسم، التي بإمكانها إنتاج صُوَر واقعية تماماً للمشروع المعماري، مشاركة المشاريع على الشبكة العنكبوتية. ويستطيع الجمهور بالتالي الاطّلاع على المشروع وإبداء آرائه به قبل المباشرة بالبناء. هذا ما يسمح للمبنى أن يكتسب قيمة ومعنى جماعيين. المشاركة المتزايدة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تعني أن الأبنية سوف تعكس المجتمع الحديث وحاجاته بصورة أكبر. ومن ناحية أخرى، فإن إمكانية تمويل المشاريع بطريقة "تمويل الجمهور"، تُحرّر المعماري من الارتهان لزبون واحد. وهذا يعني أن معماري المستقبل، إذا ما نجح في اعتماد طريقة التمويل هذه، سوف يكون هنا أيضاً أقرب إلى ما يريده المجتمع وليس ما يريده الزبون. 

وبفضل برامج التصميم ثلاثي الأبعاد على الحاسوب، وقدرتها على محاكاة المعطيات الهندسية بدقة متناهية، سوف يمكن للأبنية في المستقبل أن تأخذ أشكالاً جديدة، مختلفة كلّياً عن المألوف. من المرجّح أن نرى أشكالاً منحنية، أقرب إلى الطبيعة، بصورة متزايدة. ذلك أن المصمِّم المعماري سوف يستطيع أن يُظهِر أفضل ما في مواد البناء، وأن يستغلّ قدراتها ومميزاتها "حتى آخر رمق".

أما الطابعة ثلاثية الأبعاد، التي بدأ استخدام خجول لها في البناء في السنوات القليلة الماضية، فإنها أيضاً يمكن أن تغيّر الطريقة التي يتم بها تصميم وبناء الأبنية. سوف تستطيع الطابعات استعمال مواد مختلفة في ذات الوقت، مما يخلق فرصاً غير محدودة لمعماريي المستقبل، وقد يغيّر كلياً جماليات العمارة. استعمال الطابعات ثلاثية الأبعاد على نطاق واسع في البناء هو مسألة وقت فحسب. التوفير في كلفة البناء الذي تنتجه الطابعة هو أحد الدوافع الأساسية: هناك اليوم طابعات تستطيع أن "تطبع" عشرة بيوت في اليوم الواحد، بكلفة لا تتجاوز 10/1 من كلفة بناء البيت نفسه بالطرق التقليدية.

في الوقت الحاضر، لا يزال استعمال الطائرات بدون طيار في العمارة في مراحله التجريبية. ولكننا نستطيع أن نتخيل إمكانية استعمال طائرات مسيَّرة عبر الحاسوب للمساعدة في بناء الأبنية العالية، أو في الأماكن النائية أو المرتفعة. تصل الطائرات إلى أمكنة لا يستطيع الإنسان أن يصل إليها، وتستطيع تنفيذ مهامها بدقة وسرعة كبيرتين، مما يفتح للمصمِّم المعماري مجالات جديدة.

البشرية وبيئتها

مع تزايد أعداد البشر على الكوكب (التقديرات تقول أننا سوف نصبح 10 مليارات نسمة عام 2056)، تصبح الموارد والمساحات أكثر ندرة. يعيش اليوم أكثر من نصف سكّان العالم في مُدُن، ويُقدَّر أن ترتفع هذه النسبة إلى 75% في حدود العام 2040. وسوف يحتاج حوالي 40% من سكّان العالم (3 مليارات نسمة) إلى بيوت في العشرين سنة القادمة. والقلق بشأن الانفجار السكّاني، التلوّث، ارتفاع حرارة الأرض وذوبان الجليد القطبي، بدأت بالفعل تؤثّر في التصميم المعماري. سوف نرى في المستقبل القريب انعكاس هذا القلق أكثر فأكثر في الأبنية حولنا. هذه العوامل سوف تقود، من دون شك، إلى عمارة أكثر وعياً والتزاماً اجتماعياً، وأكثر صداقة للبيئة. وسيكون إيجاد حلول مستدامة للسكن وتنظيم المدن، عاملاً حاسماً ليس في مستقبل العمارة فحسب، بل في مستقبل البشرية نفسها.

الحلول المستدامة تبدأ باستعمال مواد بناء هي بحد ذاتها مستدامة، بدلاً من الإسمنت والحديد (تصنيعهما وحدهما مسؤول عن 8% من انبعاثات غاز الدفيئة). الخشب مثلاً هو أحد المواد المستدامة. يستطيع الخشب الحلول محل الفولاذ في العناصر الإنشائية كالأعمدة والجسور بفضل تقنية الصفائح الخشبية المُلصَقة، وقد بدأت "ناطحات سحاب" خشبية بالظهور بالفعل في السنوات الأخيرة، مثل مبنى ستاد هاوس في لندن، وغيره في السويد، كندا، ألمانيا وأستراليا. الطين هو مادة بناء مستدامة أخرى، وقد أعيد اكتشافه في العقود الأخيرة من القرن الماضي. وقامت مراكز أبحاث عديدة بدراسة هذه المادة واختبارها، ونفضت الغبار عن تقنيات قديمة للبناء بالطين، وطوّرت تقنيات أخرى حديثة. ونُفِّذت مشاريع كثيرة في العديد من البلدان معتمدة على الطين كمادة بناء رئيسة. ومن المرجّح أن يستمر ويتوسع هذا الاتجاه في المستقبل، نظراً إلى المزايا البيئية، الاقتصادية والجمالية لمادة البناء هذه.

الحلول المستدامة تعني أيضاً التوفير في استهلاك الطاقة، واستغلال الطاقات المتجددة (الشمس، الرياح...). ويكاد يصبح هذا الهدف من بدهيات العمارة اليوم. لهذا فإننا سوف نشهد تزايداً لاستعمال اللاقطات الشمسية مثلاً ودمجها في واجهات وسطوح الأبنية. كما أننا سوف نشهد تزايداً للواجهات والسطوح الخضراء. سوف تدخل النباتات كجزء أساسٍ في تصميم الأبنية، نظراً إلى تأثيرها الإيجابي في المناخ المحلي وفي نفسية السكان. "الحدائق المعلّقة" سوف تصبح مشهداً مألوفاً في مدننا.

يبدو أن الهندسة المعمارية ستكون مقبلة على مرحلة من الإبداع والتجديد في المستقبل القريب. سوف تقودها التكنولوجيا بِيدّ والاستدامة باليدّ الأخرى، بعيداً من المنشآت المألوفة والتراكيب التقليدية التي اعتدنا على رؤيتها في مدننا. سوف يمكن للمباني أن تعكس حاجات وتطلعات المجتمع أكثر من أي وقت مضى. وسوف تُتاح الفرصة للناس لكي يقولوا كلمتهم في بناء مستقبلهم ومستقبل أولادهم.

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.