}
عروض

"ممر المشاة".. انتصار للهوامش

وداد نبي

5 فبراير 2020
في برلين وقع الروائي السوري راهيم حساوي مؤخراً روايته "ممر المشاة" في مقهى قديم (kotti) في حي كرويزبيرغ، في دعوة ملفتة للغاية ببروشور الإعلان عن حفل توقيع روايته، مؤكداً أن "الأمور عفوية دون طقوس رسمية، فلقاء الأصدقاء ببعضهم مناسبة بحد ذاتها".

وطريقته بالإعلان عن حفل التوقيع يمكن أن تكون مدخلاً مناسباً للحديث عن روايته "ممر المشاة" الصادرة عن دار هاشيت أنطوان عام 2020. وهي الرواية الثالثة له بعد "الشاهدات رأساً على عقب"، دار العين، ورواية "الباندا" الصادرة عن دار هاشيت أنطوان أيضاً؛ حيث يمكن لقارئ الرواية أن يشعر أن أحداثها أيضاً تشبه ما دار بحفل توقيع الكتاب بين صديقين يشربان الشاي ويتحدثان عن تفاصيل الحياة الهامشية، لشخصيات هامشية في الحياة، لا تبحث عن الضوء أو المكانة، بمقدار اهتمامها باللحظة الحالية والصدق الذي يمكن أن يلف الحياة بتلك اللحظات.

الشخصية الرئيسية هي نوح القادم من النيجر، ونحن نسمع صوته فقط، يروي الأحداث على مدار صفحات الكتاب. ورغم أن الشخصية قدمت لبرلين بهدف زراعة الأسنان، إلا أن الرواية تنتهي دون أن يكون نوح قد حقق هذا الحلم، كما لم يستطع كارلو تحقيق حلمه بقتل غريمه فابيو.
إذاً نحن أمام شخصيات غير قادرة على تحقيق أحلامها، هي فقط شخصيات غير راضية عن واقعها، وتشكو أحياناً دون إلحاح. نوح الذي نسمع الأحداث من خلال صوته نجده خلال 167 صفحة لامبالياً بالكثير من الأحداث، بما فيها حلمه بزراعة أسنانه، حتى علاقته مع بيترا، المرأة التي أحبها وعاش معها لحظات من الجنون واللذة، نجده لا يتماهى معها حد التعلق، هو يحبها طالما هي معه في اللحظة الحالية، وخارج اللحظة نوح غير مبال بما يحدث حوله.
على عكس نوح نجد أن كارلو يعيش لوجود هدف محدد لديه، وهو العثور على الشخص الذي أصابه برصاصة في الظهر عام 1984 في نابولي بمطعم للسمك دون أن يكون هناك مبرر لفعلته تلك.

        يمكن لقارئ الرواية أن يشعر أن أحداثها أيضاً تشبه ما دار بحفل توقيع الكتاب


















يمكن ملاحظة أن هذه الحادثة هي الأساس الذي تقوم عليه الرواية، حيث يركز الراوي على نقطة مهمة وهامشية للغاية، ألا وهي كيف يمكن للبشر أن يقوموا بتصرفات مؤذية للآخرين بلامبالاة قاتلة، حتى دون وجود أسباب منطقية، وكيف يمكن للبشر ارتكاب الأذى وتبريره أيضاً بدرجات من المنطق، والمنطق هنا فكرة وجودية يتمسك بها حساوي طوال صفحات الرواية.
المنطق ليس بما هو متعارف عليه، إنما بما يمكن أن تفهمه شخصيات عملت وفقا لمصالحها الخاصة والآنية، فما قد يكون منطقيا بالنسبة لكارلو الذي أصيب برصاصة في الظهر ليس هو ذات المنطق الذي دفع فابيو لإطلاق الرصاصة في ظهره دون وجود داع.
الملاحظ لقارئ الرواية هو الحساسية العالية التي يفكر بها بطل الرواية نوح، وهي حساسية نفسية تصاب بالكثير من الأذى بسبب عدم قبولها لمنطق البشر، والبطل يبحث طوال الوقت عن مبررات التدمير الذي يمكن للبشر ارتكابه بأدنى أو أعلى درجات المنطق، فمن الذي يمكن أن يحاسب شخصاً على نظرة قاسية أو نظرة ازدراء تعامل بها مع شخص آخر، في ظل تسييد قوانين المنطق التي تقول بضرورة وجود أحداث مادية وشهود للقول إنه تم ارتكاب فعل الأذى بحق شخص ما.
نوح لديه تساؤلات دائماً عن ماهية المنطق البشري وتبريره للأذى حيث يقول في صفحة 21 من الرواية: "قد يموت المرء ويموت معه الأذى الذي تلقاه مثلما تلقى الحياة بحد ذاتها، وهذه بطولة مغمورة مثل صاحبها".

  راهيم حساوي بريشة عبدالرزاق شبلوط  


















يغوص حساوي عميقاً في حيوات البشر في الهامش، خاصة وأن أحداث الرواية تجري في برلين، المدينة الكبيرة الممتلئة بالهوامش وبالأشخاص الذين يعيشون على هامش الهامش.

يراقب نوح حيوات هؤلاء الهامشيين، يشاهدهم وهم يشترون الأجبان، وكيف يشترون الأشياء المستعملة... يراقب حركات أجسادهم، وتحديداً نظراتهم. إنه كمن يريد أن يعيد الاهتمام للتصرفات الثانوية والهامشية، فهو لا يركز على الحديث واللغة الدائرة بمقدار اهتمامه بتلك التفاصيل الهامشية، ببشر لديهم القدرة على قول جملة بسيطة مثل: "لديّ حل آخر". هذه الجملة التي يمكن أن تمنع حدوث الأذى والضرر وتجعل نهار الشخص المقابل أكثر منطقاً. حل آخر قد يعيد لذة الحياة الشبيهة بمحل كبير لبيع الأشياء المستعملة، بعد أن فقدت الأشياء المستعملة والحيوات المستعملة للبشر بريقها بسبب عدم البحث عن حلول أخرى قد تجعل حياة البشر الهامشيين أقل قسوة.

*كاتبة كردية سورية مقيمة في برلين

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.