}
قراءات

"لكنّك ستفعل".. رواية الروح الإيطالية

محمود عبد الغني

20 فبراير 2020
إيطاليا.. كل أذن مغربية سليمة ستحبّ هذه الكلمة (وردت كلمة "مغاربة" في الصفحات الأولى من الرواية).

أدبٌ إيطاليٌّ.. لطالما بهرنا هذا التركيب، فروح الكلمتين هي ذاتها، رغم أن الإحاطة والإلمام بهذا الأرخبيل يتطلّب منّا وقتاً وجهداً كبيرين. إذا قرّرنا البدء من نقطة أدبية قريبة في القرن الماضي، فإننا سنتوقّف عند ألبرتو مورافيا، ثم ننتقل إلى أنطونيو تابوكي، ثم أخيراً اكتشاف الروائية إيلينا فيرّانتي في روايتها "صديقتي المذهلة". وهي كاتبة مجهولة شغلت إيطاليا في السنوات الأخيرة، بعد أن صنّفتها صحيفة "التايمز"، في 2016، واحدة من مائة شخصية المؤثرة في العالم. وإذا كان المترجم معاوية عبد المجيد قد قدّم خدمة كبيرة للقرّاء العرب حين ترجم هذه الرواية إلى العربية، فإن خالد سليمان الناصري ويوسف وقّاص قد قدّما نفس الخدمة حين أقدما على ترجمة رواية "لكنك ستفعل" للروائي الإيطالي جوزِبِّه كاتوتسيلا، ونشرتها "دار المتوسط" هذه السنة. تروي إ. فيرانتي طفولة فتاتين، وتفاصيل عن حي فقير في مدينة نابولي. ويحكي ج. كاتوتسيلا طفولة الراوي وأخته نينا، محاولاً كشف سيكولوجية الشيخوخة كنقيض لسيكولوجية الطفولة.

 ذخيرة الذكريات والتأملات في الروح الإيطالية التي تملأ هذه الرواية هي ما على كل قارئ معالجته

















ذكرت هذه الأسماء الروائية لأن هناك ما يجمع بينها: إن إيطاليا هي ما قاله هؤلاء، وغيرهم طبعاً، عنها. وهذا القول الأكيد، المتين، تصبح له سيادة تنفي وتُبعد أيّ قول مغلوط عن الروح الإيطالية. روح تملك مزاجاً ثقافياً يضيّق الخناق على الفكر الكولونيالي. فمنذ أنطونيو غرامشي وهذه الروح لا تزداد سوى رسوخاً. ويعرف المهاجرون إلى إيطاليا أن روح الإيطاليين تميل إلى التذكّر، وإلى ترجيح كفّة الاسترجاع. وذلك لا يمكن أن يتمّ دون تأمّل. فلفظة "تأمل" هي شقيقة دلالية للفظة "تذكّر". وأظن أن وضع هذا المرتكز النظري نصب أعين كل قارئ هو حتمية إن أراد فهم رواية "لكنّك ستفعل" فهماً شمولياً.

كما أن ذخيرة الذكريات والتأملات في الروح الإيطالية التي تملأ هذه الرواية هي ما على كل قارئ معالجته. والسؤال الذي ينبغي طرحه ونحن أمام هذا النوع من الأدب سيكون بدون شكّ: كيف نقرأ كاتباً يقلّب أوجه كل ما احتفظت به ذاكرته الفردية والجمعية؟ لكنه وهو يقوم بهذه العملية المركّبة، يترك الذكريات المتاحة، السهلة، ويركض وراء الذكريات الشاردة التي يغلّفها ضباب اللايقين. لنقرأ: "... ثم ناداه إنتسوتشو بلقبه، "سانابورتشي" ("مخصي الخنازير")، لأن عائلة ريفِهْ كانت تجول البلدة دائماً لخَصي ذُكور الخنازير، وتعقيم إناثها للمربّين الآخرين. لم تعد تلك العملية تُنَفّذُ باليد الآن، ولكن اللّقب التصق بهم...". يظهر من الطابع اللغوي الذي كُتبت به هذه الجمل أن السارد يتذكّر شيئاً وقع ويقدّمه بأكثر الأساليب تشويقاً. إنه يقدّم شيئاً بسيطاً بطريقة مميّزة، وهذا ميسمٌ يطبع كاتوتسيلا (علمت من سيرته أنه صحافيٌ، لكن خالد سليمان الناصري دقّق الأمر أكثر وقال إنه متخصص في الريبورتاج الصحافي ومؤلّف لـ"روايات استقصائية"). لقد بدأ النثر هذه الأيام يميل نحو إبراز القوّة الفلسفية الكامنة في الأشياء البسيطة. عاد كُتاب النثر العظام والموهوبون في تخليص النثر من الفخامة التي أغرقه فيها الأكاديميون، إلى نبعٍ مجهول. وإن تحرير النثر بهذه الطريقة سيكون في صالح الرواية. لنقرأ: "ثمّ بحثتُ عن ريفِهْ، هو وماريولينو، وكانا لا يزالان يجلسان على الأرض، تحت مظلّة المقهى، ورأساهما بين أيديهما. حدّقتُ جيّداً، وبدا لي أن عيني ريفِهْ تلتمعان أيضاً، لكنّي لا أستطيع أن أؤكِّد ذلك". تعكس هذه الجمل حدّة في القول. إن روح السارد لطيبة ومرتابة. يقع لنا ذلك، رّبما، ونحن نقرأ لكٌتّاب الجنوب. الجنوب منطقةٌ مرتابةٌ. الجنوبي لا يجد فكاكاً من الارتياب. لكن هناك قدرة غريبة على حماية هذه الروح المرتابة من أيّ سوء. فتبقى سليمة حتى آخر سطر في الرواية. هكذا كان ويليام فولكنر يحمي هذه الروح من أول سطر في الرواية إلى أخر كلمة. لنقرأ ج. كاتوتسيلا: "واصلنا نحن أبناء البلدة اللقاء لشؤوننا الخاصّة، نينا مع التوأم وباسكوينا. بعد فترة من إقامتنا في أريليانا، كلّ صيف، بدأنا أنا ونينا نعتبر أنفسنا من البلدة أكثر وأكثر. غيّرنا من لهجتنا، وأصبحنا، تقريباً جنوبيّين". لا تحيد عين الكاتب عن الجنوب. وظلّ هذه اللفظة هو الشمال. إذاً، بعد الانتهاء من قراءتها باعتبارها رواية جنوب، يمكن قراءتها باعتبارها رواية شمال أيضاً. هذه جدليّة قائمة. كل شمال متجذّرٌ في كل جنوب. وكلّ جنوب هو مرجعية لكل شمال.

كل شيء بدأ حزيناً، السرد، الأحداث، التورية، الأسماء والكلمات. فهل ما بدأ حزيناً سينتهي سعيداً؟ هذا هو الصراع الداخلي الذي يسيل مع حبر كاتوتسيلا 


















"لنكن صريحين من البداية، نحن قومٌ غُزاة في أرض غنيّة بالثروات والنفائس، غزوناها سرّاً لنعمل، هذا أخبرتنا به الراهبة في الروضة، وجرّاء علاقتها الخاصّة بالرَّبّ، فما كان لها أن تُخطئ"
(لكنّك ستفعل، ترجمة: يوسف وقاص وخالد سليمان الناصري، ص: 13).
هذه فقرة قوية لبداية رواية لكاتبٍ إيطاليّ في سنّ يريد فيه الروائيون قول كلّ شيء في كتاب واحد (جوزِبِّه كاتوتسيلا من مواليد 1972). حين نتابع القراءة بوعي أنّ كلّ شيء في الرواية، الـ273 صفحة القادمة، هو امتدادٌ لهذه الفقرة المدهشة. كل شيء بدأ حزيناً، السرد، الأحداث، التورية، الأسماء والكلمات. فهل ما بدأ حزيناً سينتهي سعيداً؟ هذا هو الصراع الداخلي الذي يسيل مع حبر كاتوستيلا. إن أفضل شيء في العالم، وفي السرد أيضاً، هو أن يختلّ نظام الأشياء وِفق منطق التحوّلات الممكنة. والروائي يريد الوصول إلى هذه المنطقة كي ينحت أثره عليها. إن التحوّلات تقع في كل لحظة، وبسرعة يتمّ التسليم بها لأن الله يفعل كلّ شيء. إن المقارنة بين روح إيطاليا كما كانت بالأمس وبين ما أصبحت عليه اليوم، هو عمل من صميم رواية "لكنّك ستفعل".

حتى الأسماء والألقاب تتغيّر حسب مظهر الحياة الكائنة والممكنة. مثلاً، كانت عائلة السارد موسومة بلقب "بوسّيدِنتْ" (المُلّاك). لكن، وبعد أن ساءت أحوالها، بدا جدّه يتوعّد كلّ من يستمرّ بمناداته بهذا اللّقب، إلى أن تلاشى في نهاية الأمر. هنا يمكن القول إن خطّة الرواية الفكرية هي مناقشة قضية "التحوّل (لات)"، وتلقين الإنسان كيف يتعلّم "فنّ التحوّلات"، وكسب المال، والاحتفاظ بما يرثه عن الأجداد وامتلاكه إلى الأبد، كما كان يفعل الأب والجدّ سابقا، بما في ذلك الأشياء اللامادّية مثل الأعياد.
لا شيء ثابتاً، بدءاً من الزمن الذي يصبح أزمنة متنافسة على تغيير كل شيء على الأرض، وانتهاء بالأسماء والأمكنة. لكن هناك شيء ثابت هو الطبائع، طبائع الإيطاليين الصامدة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.