}
قراءات

أورهان باموق.. الروح الفردية الجديدة (2/2)

محمود عبد الغني

13 فبراير 2020
"في مكان بعيد كانت السماء تومض أحياناً إلا أنَّ السماء خلفنا كانت مفتوحة والنجوم فيها تبدو في أشدّ لمعانها. في الأفق البعيد كنت أستطيع رؤية أضواء إسطنبول تنعكس على صفحة الغيوم مثل طبقة صفراء رقيقة من الضباب" (ذات الشَّعر الأحمر، ص 17).

بدأ الروائيون في القرن التاسع عشر يرفعون أعينهم إلى السماء. ماذا يوجد في السماء من الأشياء والمرئيات التي تفيد الروائيين والشعراء؟ توجد في السماء الغيوم، الرياح، الأمطار، الشمس، القمر، الله، الأرواح... كتب الشاعر بليز ساندرار قصيدة بعد أن بُترت يده اليُمنى في الحرب العالمية الثانية. رأى نجمة صغيرة تلمع لمعاناً غريباً. تلك يده المبتورة وقد تحوّلت إلى نجمة تظهر له في السماء في الليالي الصافية. إن قراءة مقاطع أو صفحات روائية يصف فيها الروائي ما يوجد، وما لا يوجد، في السماء يتطلّب من القارئ إدراكاً دقيقاً لهذا النوع من الأسلوب. إن الروائي حين يرفع نظره للسماء، يُخضع مادّته لانتقال أسلوبي مفاجئ. ولقد طُلِب منّا، نحن القرّاء، أن ننتقل معه وفق تعليمات سردية خافتة. وكل القراء سيمتثلون، أيّاً كانت أعمارهم، لأن السماء منجم عظيم لأشياء من المستحيل جردها.
في "معجم الرواية" للباحث الفرنسي إيف ستالّوني (أرمان كولان، 2006) وردت لفظة "سماء". من الغريب أن ترِد لفظة "سماء" في معجم عن الرواية. لا تسير لفظة "سماء" لوحدها داخل المعجم، بل ترافقها مصطلحات وألفاظ هي من صميم السرد، مثل "فضاء"، "زمن"، "زاوية النظر"، "حركة داخلية".... هنا يمكن الحديث عن كوسموبوليتية ترخي بظلالها على هذه المصطلحات، لأنها تنتمي إلى قاعدة مصطلحية واحدة، على أساس دلالات واحدة متفرعة.

رواية "ذات الشَّعر الأحمر" تضع خطّتها كي تتحوّل إلى بؤرة كليّة فلسفية 


















يظهر أن كلمة "سماء" تقف على مداخل ومخارج الروح: "كانت الغيوم التي جاءت بمطر الصيف قد ولّت الأدبار وخلّفت من بعدها سماءً مرصّعة بنجوم متلألئة. شعرت بالراحة حين سمعت من مكان غير بعيد صوت صرصار الليل. استغرقت في النوم حالما استلقيت في فراشي".  لا يؤكّد الروائي عن أي سماء، بل عن سماء تركيا، عن شيء تركي خالص. وهذا الشيء يوجد أيضاً بين السماء والأرض. وقد يمتدّ، في هذه الرواية، إلى حدّ التذكير بشيء تركي ثابت: صناعة النسيج. وقُرّاء أورهان باموق يتذكّرون روايته "اسمي أحمر" الغنية بالمعلومات والحكايات والمسرودات عن الشيء التركي الآخر: الرسم، صناعة النسيج. جاء في "ذات الشعر الأحمر": "... بعد ذلك حين اقتربت إليهما سمعتُ أنَّ "خيري بيك" يخطّط لإقامة مصنع لغسل وصبغ المنسوجات. فالماء ضروري في مثل هذه المصانع التي يكثر عليها الطلب، وخاصة من قبل معامل الخياطة التي تعمل على تصدير منتجاتها إلى خارج البلاد". إن عبارة "مصنع لغسل وصبغ المنسوجات" يُفضّل قراءتها بمنهجية البلاغيين الجدد، فهناك كلمة غائبة، أو ظلّ لاسم "صبغ"، فتصبح: "مصنع لغسل وصبغ المنسوجات بالأحمر". لقد أصبح الشيء التركي "اسماً أحمر". لكلمة "أحمر" في الجملة خشخشة مسموعة كخشخشة الأوراق. ورغم أن الكاتب لم يذكرها فهو شديد الاهتمام بها، أولا لأنها "شيء تركي"، وثانياً لأنها حضرت بكلّ ظلالها في عمل سابق. وقد اقترنت في القرن التاسع عشر باسم الروائي الفرنسي ستاندال في روايته "الأحمر والأسود"، وبعد مرور أكثر من قرن أصبح من حق أي روائي استعمالها في عنوان لروايته. مثلما على كُتّاب أميركا اللاتينية، انتظار مرور أكثر من قرن ليجرؤوا على استعمال كلمات "عزلة" أو "مائة عام" التي اقترنت بغابريال غارسيا ماركيز في رائعته "مائة عام من العزلة". الروائيون يمتنعون من تلقاء أنفسهم عن استعمال كلمات اشتهرت قبلهم، لأنهم يدركون أنهم إذا استعملوها بعد شهرة سابقة يكونون قد عادوا غلى أدوات إثارة اصطناعية هم ليسوا في حاجة إليها. لكن قرناً من الزمن يمضي وتعود إليها عذريتها وقوة إثارتها الطبيعية. لا بدّ أن يمتلك الروائي هذه النظرة المتفائلة: الكلمات، أو الجمل، لا تقترن بأي كاتب أو شخص، إنها حرّة في الهواء الطلق، وامتلاكها يخضع لشروط ووقائع كثيرة. قد تأتي بعد ترتيب الكلمات المذكورة أعلاه، كلمة تمتلك من القوّة ما لم تمتلكه أي كلمة أخرى، وهي كلمة "طفولة" التي اعتبرها سيغموند فرويد "نصّاً مفقوداً". هذا النصّ المفقود ظل السارد يعود إليه ليبحث عن حقيقته بحثاً محموماً. والعودة إلى "النص المفقود" يتمّ في لحظات الأزمة النفسية: "أيام طفولتي في "بشيكتاش" كان قسم من الأولاد يقلبون السلاحف على ظهورها لكي تموت ثم يجفّفونها..." (ص.119). جاء هذا التذكر في سياق عابر. فبينما كان "الأسطى محمود" في قاع البئر انزلق السطل المليء بالرمل والتراب بينما كان السارد يدير مقبض الرافعة، فسقط في البئر وهشّم رأس "الأسطى محمود". فأطلق ساقيه للريح دون أن يعي ما هو مقدِمٌ عليه. حاول اختصار الطريق للعودة من أجل إنقاذ معلّمه، بعد أن غادر منطقة الحادث المروع بحثاً عن شخص يساعده، فرأى سلحفاة بين الأعشاب. ولمّا وصل إلى البئر تأكّد له موت "الأسطى محمود". فجمع كلّ أغراضه في حقيبته (حقيبة والده) وغادر المنطقة التي كان يحفر فيها بئراً هو ومعلّمه في بلدة "أونجوران"، نحو قطار إسطنبول. في نهاية هذا القسم الأول نبدأ في التساؤل حول خطّة الرواية في رسم مصير هذا الشاب. لكن سرعان ما تختفي شفقتنا عليه ليحّل محلّها ترقّبٌ ينصبّ على تدابيره النفسية لتجاوز هذه الأزمة. هنا يبدأ القسم الثاني، ونبدأ في قراءة جمل حِكَمية نستقبلها بنوع من الانبهار: "فإذا تصرّفت بشكل وكأنّ لا ذنب ولا سوء في داخلي سوف يتيح لي هذا فرصةً لأن أنسى السوء الذي أشعر بوجوده، وهكذا بدأت بالتصرّف وكأن شيئاً لم يحدث على الإطلاق. فإذا تصرّفتم بلا مبالاة فسوف ترون أنّ لا شيء يحدث حقّاً".


مع هذا القسم الثاني بدأت رواية "ذات الشَّعر الأحمر" تضع خطّتها كي تتحوّل إلى بؤرة كليّة فلسفية. لقد ظهرت فردية جديدة لفرد قوي شجاع يعيش بالأفكار الطليقة. فردٌ هو نتاج مرحلة تركيا الجديدة، التي شرعت في فهم العالم من حولها فهماً جديداً. الفرد هو نتاج هذه المرحلة، لذلك تراه ينظر داخل، ومع، وخارج الجريمة والعقاب. وهذا تصرّفٌ لا يعتمد على القوانين بل على العقل والشعور.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.