}
عروض

"يمشي كَنهرٍ دونَما ضِفافْ" لعمر شبانة.. محطات الأنا

محمد جميل خضر

30 يناير 2020
ما وراء الجبل، يتجلى في ديوان "يَمْشي كَنهرٍ دونَما ضِفاف" للشاعر عمر شبانة، بوصفه لعنةَ فضول دامية البنفسج:

"ما وراءَ الجبلْ
تَمهَّلْ قليلاً
تأمّلْ:
بنفسجَكَ المُشتهى
شجْرَةَ المُنتهى
وتأمّلْ:
وجوهَ البلادِ التي جُبْتَ،
حتَى ترى

ما وراء الجبلْ" (الديوان صفحة 127).

هو الفضول الذي يتسلّح به الشاعر ليتسنى له مواجهة تقلّبات الفصول، وتنقل أهله، مجهول العناوين، بالنسبة له، مذ كان طفلاً، بين جغرافيا تتبدّل معانيها في وجدانه: مرّة موحشة، مرّة خضراء مدهشة. مرّة تزهر عمّان كمرتع طفولة واعد، مرّة تتركه لمآلات نزوله مع محيطه لقرية الكرامة في غور الأردن، قريباً من النهر ويسوع ودلالات الجغرافيا هنا، فإذا بالتداعيات تصل به إلى بحر عكا، وجلال القدس، ومواويل جدّه في (حَتّا) قريته الفلسطينية المدمرة.
ولأن فلسطين تحضر منذ الصفحات الأولى للديوان الذي صدر عام 2018، عن وزارة الثقافة الأردنية، ضمن سلسلة إصدارات التفرغ الإبداعي، فإن سؤال الهوية يحضر معها، ويصعد به

شبانة عالياً، ليصبح سؤال الأنا بمختلف محطاتها وشتاتها وتجلياتها فوق أرض الواقع. وهو سؤال تتنوّع مطارح التعبير عنه في قصائد الديوان، بحسب توترات لحظة طرحه شعرياً وتأملياً ومعرفياً ووجودياً.
ولأن الغيم لا ضفاف له، ولأن ضفاف نهر الشريعة/ نهر عيسى/ نهر الأردن، مسلوبة، فإن الشاعر لا يجد مخرجاً من هذه المحنة، إلا بالانتصار للأنا الثاوية داخل أعماقه:

"في البَدْءِ
كنتُ أنا". (ص 6).

خالقاً تقاطعاً موضوعياً وجدانياً بين هذه الأنا وبين الحب:
"في البَدْءِ
كان الحُبّ".

ثم بينه وبين فاطمة، مكمّلة أناه، وبارقة الحب، ودحنون الغور ونخله وزيته وزيتونه، وقبل كل شيء (سيسبانه)، الشجرة البريّة التي كان يعشقها في طفولته الغورية.
عمّان، الغور (الكرامة على وجه الخصوص)، السلط، يرقا، مادبا، عكا، حيفا، يافا، القدس، الشام، بغداد، إيبلا، الصحراء، النيل ودجلة والجزيرة واليمن وأماكن أخرى، تتناثر هنا وهناك داخل أقانيم النصوص، جانحةً بشكل يصعب تجاهله، نحو تكريس مكانية رومانسية أزهرت قصائد الديوان عند عتباتها. مكانية ارتبطت جبرياً بالزمان منذ ولادة الشاعر، والولادة هي لحظة زمانية تحقق في مساحة مكانية (وفي كل الوثائق: مكان الميلاد وتاريخه).
ثمة أعاصير في قلب اللجة، تحدد مصائر سفينة تمخر عباب البحر، ما يدفع الأنا الجمعية العليا، إلى إعلان مواجهة هذا الاضطراب الوجودي بالتعاضد، بقوة المعرفة ونبض الوعي.
لكن السند الأكبر الذي يختاره الشاعر لمواجهة هشاشة طفولته، وتنمّر أترابه عليه، هو الحب، الغوص في أفق المرأة بالمعنى والمبنى، جسداً وروحاً، فإذا بها تسمو لتصبح ملاذاً، مساحة وجدٍ وتبتّلٍ واشتهاء.
لا تتوقف الأنا في الديوان الذي تتصدر غلافه الأمامي لوحة للفنان الأردني عماد مدانات، عند محطة واحدة، فإذا بها تصبح مرّة الأنا/ الروح، وأخرى الأنا/ السؤال/ الأسئلة، وثالثة الأنا

القومية المعلقة آمالاً عريضات على وحدة لن تستعاد فلسطين بدونها. وفلسطين تحضر مرّة واحدة، بعد صفحات تاهت فيها سبل القصائد في التمهيد لها، تحضر دفقة/ دفعة واحدة، لتصبح دوزان الحكاية، وبوصلة الشطر والعجز. غنائيةً مَرّةً، وتأملية في أخرى:

"وتكونُ لنا قبل الطينِ
إلَهَتُنا بنتُ "فَلَسْـ ..."
نَخلتُنا الأولى،
ونُسمّيها عَشتارَ، لتَمشي،
ونُعلِّمُها أسماء "فَلَسْطين"
ونُعلِّمُها أسرارَ الجَدّة سوريّةَ،
مِن إيبلا حتّى زنّوبيا،
ومِن الشامِ إلى بَغدادَ وحيفا". (ص 45).

هو لا يعرف المرأة المتناثرة في ألف حقل، الرشيقة مثل فرس، المحلقة بجناحيّ طائرٍ في الصباحات البعيدة، لا يعرف سوى لون الثوب والعينين، ولكنه يدرّب شبقه وطفولته وعناده، كي يعرفها، وكي يقطف عطرها. هذا هو اللهاث الحقيقي، الركض المجنون في إثر امرأة، في إثر وطنٍ يقسم ظهر النهر، فلا يعود هناك ضفاف، ولا حدود، وإذا بهناك هنا، وإذا بقصيدة "ضِفّتان لنهر القلب" تموسق الحروفَ سيمفونيةً دافقةَ المعاني:

"أنا مِنْ هُناكَ، ومِن هُنا..،
وهُنا..، شقيقتُها هناكْ
مائي المؤبّد لا حُدودَ لهُ
وغاباتي الصَنوبَرُ والبنفسجُ والأراكْ". (ص 87).

في قصيدة "المدينةُ أخيراً" تتجسّدُ أنا الشاعر في روح قرويٍّ يستعيد، بأمانةٍ متناهية، مختلف أدبيات صدمة المدينة في الشعر والرواية والقصة القصيرة، رافضاً أن تغزو المدينة دمه بـ"جحافل الإسمنت". وتغوص الأنا فيها أيضاً، داخل أوجاع منفيّ لا وطن له، وإنْ كان ثمة

وطن فهو المنفى، بسهولٍ صفراء عارية من لغة الشاعر الفصيحة الجريحة.
الأنا بوصفها طفلاً، في محطة أخرى من محطاتها، تحبو نحو المجهول، تجرّب "شذرات" المعنى عبر ركوب سرير الخيال، ومن خلال عشق جمال الحقول والينابيع.
ينوّع عمر شبانة صاحب ديوان "تحولات طائر الفينيق" (2018)، وست مجموعات شعرية أخرى نشر أولها عام 1983، دفقه الغنائي في قصائد "يَمشي كَنهرٍ دونَما ضِفافْ" الواقع في 144 صفحة من القطع المتوسط، كما يترك خياراته جميعها متاحة في طريقة تعامله مع القافية وتوقيت استحضارها. كما جاءت بعد مقاطع النصوص شبيهة بالسوناتا والرباعيات:

"أقمارُ رُوحكِ
أمْ أنوارُ عينيكِ
وضَوْءُ قلبكِ
أمْ نيرانُ نَهْدَيْكِ

***

تَسوقُني كُلُّها
في مائكِ الحاني
فتَنْتَشي الأرضُ
في روحي ووِجداني". (ص 38).

يرفض "التائه المطرود" قهر الشتات، ويتمرد على حقيقة ضياع الأرض/ فاطمة، فيهرب إلى بحر عكا، حيث الأفق شرفة نحو الجهة الأخرى التي يركض نحوها مدفوعاً بالفضول، مزنّراً بالأسئلة، متلهفاً للأنوار والبساتين والبيارات والكروم. هكذا يقرر الشاعر مشيه المترنح في عتمة الواقع، وهكذا يرسم ضفافه الممكنة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.