}
عروض

"قصص" بيو باروخا.. أناركية بلاد الباسك الممهّدة لقوميّتها

بهاء إيعالي

26 يناير 2020
لا يمكن ألا تُلاحظ الواقعية المتجلّية في قصص بيو باروخا، إلا أننا وفي مجموعته المترجمة للعربية "سيدة أورتوبي وقصص أخرى" (سلسلة إبداعات عالمية- المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب- الكويت، أكتوبر/تشرين الأول 2019) غير قادرين على تنميط النصوص القصصية والمدرسة الأدبية التي تنتمي إليها، ولعلّ مردّ ذلك هو أن الكتاب عنوانه الأصلي بالإسبانية Cuentos أي قصص. فالواضح للوهلة الأولى من العنوان، والذي صدر بالإسبانية عام 1966 (بعد وفاة الكاتب بنحو عشر سنوات)، أنّه مختارات قصصية، وهذا ما أكّده ابن أخيه خوليو كارو في مقدمته للكتاب بأنّه اختار معظم نصوص هذا الكتاب من مجموعته القصصية الأولى "حيوات قاتمة" (بالإسبانية Vidas Sombrías) إضافةً لقصصٍ أخرى تعود لفتراتٍ عديدةٍ.

ولعلّ ما يتّضحُ في أغلب نصوص المجموعة الواقعة بين أيدينا اللهجة الرافضة المنتقدة للواقع الملموس في حياة الكاتب، فلا يخفى أنّ الكاتب ينتمي لجيل 98، وهو الجيل الأدبي الذي عاصر الحرب الأميركية الإسبانية التي أدت لخسارة إسبانيا آخر مستعمراتها ما وراء البحار (كوبا، بورتوريكو، جزيرة غوام والفليبين...) والتي تخلّت عنها بموجب معاهدة باريس عام 1898، فكان هذا الجيل المتألف، بادئ الأمر، من بيو باروخا، آثورين وراميرو دي مايثتو، قد ألقى اللوم بكامله على المجتمع الإسباني باستخدام لغتهم الهجائية العاكسة للواقع التشاؤمي لإسبانيا.

تتجلّى أمامنا في هذه القصص النفحات الإيمانية الشديدة لدى الكاتب، فنراه مؤمناً بعوالمِ الغيبيات وخائفاً منها كما قصص "وسيط الأرواح" و"الجن"، أو بإيمانه بقوّة السحر عند الغجر في قصة "ماريتشو"، وطبعاً هذه النفحات الإيمانية ما هي إلا انعكاسات للمجتمع الريفي الباسكي الذي عاش فيه الكاتب خلال عمله كطبيبٍ أريافٍ في بلدة ثيستونا بين عامي 1892 و1899، بل إن تلك البيئة حاضرة بقوّة في نصوص المجموعة هنا، فتجد عاداتها وتقاليدها الخاصة كعادة وضع المال في قبعة المولود في قصة "ماري بلتشا"، كما تلاحظ النزعة القوميّة الخفيّة للباسكيين من خلال قصة "شاطئ الخريف" التي رويت في بلدات البرانس الفرنسية والتي تعدّ بالنسبة للباسكيين جزءاً لا يتجزّأ من بلادهم، وصولاً إلى أجوائهم الخاصة في بلادهم أكانت أجواءهم المرحة الماجنة كما في قصّة "الخان" أو أجواءهم الإيمانية كما في "صلاة التبشير الملائكي".
ولا يمكن إخفاء الأجواء المدريدية الحاضرة في نصوص الكتاب بقوّة، فبدءاً مع "المسكن الحزين" حيث يستعرض الكاتب حالة البؤس المدقع التي يعيش بها النازحون من القرى نحو العاصمة لأجل العمل، مروراً بـ "جامعة الخرق" والتي هي توصيف أكثر للبؤس داخل الأحياء الفقيرة للعاصمة، وصولاً لقصة "الخبازون"، والتي يمكن اعتبارها مقدّمة للحرب الأهلية الإسبانية نظراً لما تعكسه من صراعٍ عرقيّ في المجتمع الاسباني والذي كان واحداً من أوجه الصراع بين القوى المتقاتلة زمن الحرب الأهليّة.
ومما ينبغي الإشارة إليه بشدّة هو النزعة الأناركية اللاسلطوية لدى بيو باروخا، والتي هي بشكلٍ ما حاضرة بقوّة بين الأفراد في بلاد الباسك ومن خلالها استلهموا روح قوميّتهم. ففي قصّة "الفحام" نلاحظ الكراهية الموصوفة للجيش والتهرّب من الخدمة العسكرية، ولعلّ ذلك مردّه إلى الإيمان الفوضوي بقيام مجتمعات دون نظام دولةٍ متكاملة، والجيش هو الصورة المثلى للتنظيم والسلطة في نظرهم؛ كذلك في قصّة "عدم" والتي بدت كبشارة للفوضى التي ستعم إسبانيا، والتي بدا باروخا من خلالها حاملاً لفضولٍ ما تجاه الاشتراكية.
طبعاً وقد أشرنا إلى طغيان الواقعية في سرد الحدث وتوصيفه، فالقوّة الوصفيّة التصويريّة متجلّية في النصوص دون تزييفٍ وما يتحدّث به الكاتب لا يأتي إلا من زاويةٍ موضوعيّةٍ لا تتدخّل فيها ذاتيّته، ولا نجد في القصص أيّ ظهورٍ للطبقة الأرستقراطية والتي تعارضها الواقعيّة الأدبية معارضةً تامّة والسوداويّة واليأس يتجلّيان في تفكير باروخا بنفسه، فكما ذكرنا هو من جيل 98 الذي كان شاهداً على تراجع إسبانيا في ميدان القوى العالمي وتحوّلها لقوّة من الدرجة الثانية.

غير أنّ هذه الواقعية ليست فجّة تماماً لديه، بل تجد بعض اللمحات الرمزيّة في السرد، فالكاتب يعمد إلى الجزالة في الأسلوب وتحاشي الشروحات والتفصيلات، كذلك في قصصه التي تتجلّى فيها النفحات الإيمانية تجده يدخل عوالم لا حدود لها، كالضبابيّة وعالم الأطياف... كذلك للشعرية العالية المتجلّية في قصّة "إليثابيدي المتسكّع" وما يحدوها من طاقات صوتيّة وغنائية.
من المعروف أنّ هذا العمل لباروخا ليس الأوّل الذي يُنقلُ إلى العربية، فقد سبق لثريا سعد الدين شلبي أن نقلت للعربية روايته "طريق الكمال" (بالإسبانية Camino de Perfeccion) الصادرة بطبعتها الإسبانية عام 1902، لكن ربّما ينبغي اليوم نقل أعماله الأدبيّة كافّة إلى العربية مع استفحال الفوضى في البلاد وما حصل بعدها من صراعات طويلةٍ لربّما كان للكاتب الباسكي نبوءته فيها منذ مئة وعشرين سنة، إن لم يكن أكثر.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.