}
عروض

"حارس سطح العالم".. العالمُ الحقيقيّ يسكنُ في قاعِ اللّغة

تغريد عبد العال

20 يناير 2020
في روايتها الجديدة الصّادرة عن منشورات تكوين "حارس سطح العالم" تشيّدُ الكاتبة الكويتية بثينة العيسى سطحَ العالم من وجهة نظرِ الرّقيب الذي يجيز الكتب الصّالحة ويمنعُ الكتب الأخرى التي تشكّلُ خطراً على النّظام والسّلطة.

البقاءُ على سطح اللّغة هو مهمّة الرّقيب، فالسّقوطُ في التّأويل يعني خيانة المعنى، والجرم الذي وقع فيه الرّقيب الجديد أنّه أفرطَ في التأويل، حيث أوصاه أن التأويل ليس مهمّة القارئ بل مهمّة الحكومة، وذلك لأنّه أحبّ زوربا ورآه جائزاً للقراءة. فهو عندما ذهب إلى القاع وسقط من سطح العالم، كما فعل زوربا، لم يعد يؤمن بتلك الرقابة ونشأ صراعٌ خفيٌّ داخله، حتى تخيّل أنّه سيبقى أسيرَ سطح العالم فيما أن الآخرين سيدخلون العُمق.

وليس الأمر حكراً على اللّغة، بل على سلوكنا اليوميّ عموماً وعلى الأطفال خصوصاً، فها هي ابنة الرّقيب أيضاً تعاني من أعراض المخيلة، وكأنّ الكاتبةَ تريد أن تلقي الضّوء عما يحدث بالموازاة مع العيش على سطح اللّغة، وهو العيش على سطح الحياة كأبّ وكمربٍ لطفلة تبدو المدرسة بالنسبة لها سجناً.
وهكذا فالبقاءُ على سطح اللّغة، هو أيضاً كبتُ تلك المخيلة الطفولية، والتفكيرُ في كيفية تفادي مخاطرَ تعاملِ المدرسة والحكومة معها، حتى ظنّ الرّقيبُ أنّ الكتبَ تنتقمُ منه فعلاً فهي تجعلُ ابنته تسافرُ عبر الزمن، وترفضُ أن يزال من شعرها غبارُ الجنيات.
في الرواية، كما في الحقيقة، تشتبكُ اللّغة مع الوجود، فنرى الكاتبةُ تدخلُ الرقيب القارئ في حالة قلق ومساءلة، وكأنه يريد تغيير الواقع وهدمه، حيث تشتبك اللغة مع الهويّة الشّخصية، ثم يتراجعُ الرّقيب، ويقرّرُ أن يبقى حارساً لسطح العالم بالرّغم من حبّه لزوربا.
ولا تنسى الكاتبة أن تذكُر المتاهة، إنّها متاهة الكُتب الممنوعة التي يذهبُ إليها بطلبٍ من العجوز، إنّها المتاهة الوجودية التي لن يصلها إلا القارئ الحقيقي. وفي مجتمع يختار لنا كلّ شيء، يعيش المرء حياتين، واحدةُ في السّر وأخرى في العلن كما تذكُر الكاتبة، في إشارة إلى صراع الفرد مع المجتمع والسّلطة والحكومة.

والحيوانات هي جزءٌ من عالمِ تشتركُ فيه مع البشر والكتب بخوفها وطعامها والحكايات المنسوجة عنها، لذلك كانت للأرانب الحصة الأكبر في الرواية، ربما الأمرُ يتعلّقُ ببراءتها وخوفها، فمشهدُ تراكضها في مكتب التفتيش يوحي بأن العالم يمتلئ بالأرانب الذين لا يفعلون شيئاً يذكر، والمشهد الذي يقود فيه الأرنب الرّقيب إلى قسم التفتيش يوحي أيضاً بأن للحيوانات حاسة ما نشترك فيها معهم.
وأما مركزُ إعادة التّأهيل التي أخذت إليه طفلة حارس المكتبة، لأنها تعاني من عوارض المخيلة، فما هو إلا أدوات السلطة في قمع الفرد والتربية التي تسيء للكتب وللغة وللعالم. إنّ هذه المراكز ما هي إلاّ سياسة تربوية تعملُ على تعطيل الخيال وبرمجة الطّفل على أن يكون شخصاً آخر.
وتصلُ الرّواية إلى ذلك الخطّ التي تتضحُ فيه الأمور وكأنّ الشّخصيات كانت شخصيّات متخيلة خارجة من الكتب، فالعجوزُ هو ذلك النّجار، هو بينوكيو، والورّاقة كانت تكتب قصته، فهل هو أيضاً شخصيّة متخيّلة؟ هل هو شخصيّة في رواية؟ إنه الخط الفاصل بين الخيال والواقع، وقوّة المخيلة التي تريد الكاتبة أن تجعل منها سلطةَ أخرى تقاوم سلطة الواقع وتنافسها.
إنّها قدرة الكتب على أن تقرّرَ مصيرَنا، تقولُ بثينة العيسى بطريقةٍ أخرى، حين يظهرُ جليّاً كيف عاد الرقيب ليقرأ ماذا سيحدث له في مخطوط الوراقة التي تكتب قصته.
وتأتي النهاية على شكل بداية، يُلقي الرّقيب بنفسه في محرقةِ الكتُب، وكأنّه ينتحر، لكن لا أثرَ لعظامه، لقد اختفى، في إشارة إلى أنه غير موجود، أو ربما سيتحوّل. إنها النهاية المفتوحة على تأويل يخطف المعنى. المعنى الذي كاد أن يودي بحياة الرقيب، وها هو ينهي حياتُه بيده.
تتقاطعُ الرّواية مع رواياتٍ أخرى في العالم، التحوّل، زوربا، 1984، أليس في بلاد العجائب والأخ الأكبر. إنها رواية عن اللغة والحياة والكتب والسلطة والوجود والموت.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.