}
قراءات

"الرواية والقيم".. الروائي مثقفاً

إدريس الخضراوي

19 يناير 2020
يأتي كتاب "الرواية والقيم" (2018) للناقد اللبناني لطيف زيتوني، الذي يُعدّ أحدَ أبرزِ الباحثين المؤثرين في الحقل النقدي العربي المعاصر، بَعدَ عدد من الدّراسات الرصينة التي أصدرها وحرص فيها على بلورة رؤى ومنظورات جديدة تَستندُ إلى افتراضات نقدية ومنهجية ملائمة، قابلة لأن تندرج في سياق الثقافة العربية. ومن بين هذه الأعمال: "حركة الترجمة في عصر النهضة" (1994)، و"سيمياء الرحلة" (1997)، و"معجم مصطلحات نقد الرواية" (2002)، و"الرواية العربية: البنية وتحوّلات السرد" (2012).


دراسة نقدية مختلفة
وقبل البدء في تحليل الكتاب، يجدر بنا أن نتوقف عند عتبة عنوانه بالنظر إلى أهميته في ضبط القراءة وتوجيهها. فالعنوان، كما تعلمنا الدراسات التي عنيت بتفكيكه، يحدّد النص برمته. وعليه فهو لا يحيلنا فقط على مضمون الخطاب، وإنما يتيحُ لنا كذلك أن نتعرفَ على طبيعة الخطاب الذي نتعاملُ معه. وما يلفت الانتباه في عنوان الكتاب هو الربط بين الرواية، وهي جنس أدبي تخييلي يعتبرُ اليوم ظاهرة ثقافية تتميز بها المجتمعات المعاصرة، والقيم التي هي "مادة الأخلاق، لأن الأخلاق منظومة قيم". ولما كانت القيم الإنسانية الإيجابية تَكتسِبُ أهميتها انطلاقاً مما يتحقق للإنسان من امتلاكها، إذ بتحققها يَعيشُ حياته في طمأنينة وانسجام وتوازن، فإنها ضرورية لوجود الإنسان وتطوره. والقيم، كما يرى المؤلف، تَتسمُ بالتعدد والاختلاف والنسبية، كما أن تصنيفها إلى قيم إيجابية وأخرى سلبية ليس مطلقاً، بل يَخضعُ لمعايير البيئة والتاريخ والدين والسياسة. وهذا الشرط الذي يُؤطرُ القيم لا يعني عدم وجود قيم مشتركة يلتفُّ حولها الأفرادُ بصرفِ النظر عن اختلاف الديانات والثقافات، خاصة عندما تَرتكزُ هذه القيم على ما هو أساس، أي حياة الإنسان وتقدمه وحريته وحقوقه. وهذا ما يدعم فكرة العيش المشترك بين المجموعات المختلفة. من هنا نعتقد أن عنوان الكتاب ينطوي على كثير من العلاماتِ التي تدلّ على أننا إزاء دراسة نقدية مختلفة يَكمنُ رهانها في البحثِ في طبيعةِ الدور الثقافي والمسؤولية الأخلاقية التي ينهضُ بها الروائي بالنسبة لجمهوره. وعليه، فهذا المقترح النقدي الثقافي الذي يَجترحهُ الباحثُ من شأنه أن يفتحَ أمام النقد الأدبي المعاصر منافذ إلى مسارات جديدة في قراءة الرواية العربية قراءة مغايرة، مختلفة من حيث افتراضاتها المنهجية عن التصورات التي استند إليها النقد الروائي العربي في المراحل السّابقة.

يوضحُ زيتوني في المقدمة أن موضوع الكتاب يتركزُ أساساً حول الرواية والقيم، وبالتالي فهو يستكشفُ الإمكانية التي تنطوي عليها الرواية في التعبير عن القيم. ولعل ما يقصده المؤلف إذ يفكّر في الرواية من هذا المنظور، هي القيم الإنسانية الإيجابية التي لها علاقة وثيقة بما يَحلمُ به الفرد في صراعه مع العالم الذي يعيشُ فيه. وما من شكّ أن الرواية عندما تفتحُ صدرها لاحتضانِ القيم الإنسانية الإيجابية التي تقعُ في صميم الجدوى من الأدب، فإنها تنتجُ معرفة مختلفة تتعينُ بوصفها ردّا على القيم المضادة أو السلبية. وفي هذا السياق يُؤكدُ الناقد على أن دور الروائي المثقف يعدّ أساسيا وفاعلا بحكم القيمة التي ينطوي عليها الأدب بالنسبة لجمهوره. إن ما يزكّي هذا التصور، هو أن الرواية تعدّ من أشدّ الخطابات تأثيرا في النّاس لأنها تقدم عالما واسعا متنوعا، يحتضنُ الأحلام والرؤى، والتوترات والصراعات. ولذلك فالقرّاء بمختلف مراتبهم يجدون فيها أجوبة للأسئلة التي تدفعهم إلى قراءتها. بدءاً من الأسئلة البسيطة المرتبطة بالبحث عن معرفة محددة، إلى الأسئلة المعقدة التي تتصلُ بمتخيل الرواية وعلاقتها بالواقع. في هذا السياق، يتضحُ من خلال الأجوبة التي سعى الباحثُ إلى تقديمها حول الأسئلة التي انطلق منها وهي: هل بإمكان الرواية أن تلعبَ دورا في حماية القيم الإنسانية ومواجهة القيم السلبية؟ وما هو هذا الدور؟ وكيف تمارسه؟، أن الرواية تحتلّ مكانة رفيعة في مفهوم الناقد للأدب، فهي "السلاح الوحيد الباقي من أسلحة الأدب"، أي أنها الجنس الأدبي الذي يضطلعُ فيه الكاتب الملتزم بمسؤولية الفضح والتعرية وتفكيك القيم السلبية التي تعوق رحلة الإنسان بحثا عن تحقيق ما يَتطلعُ إليه. فهي منذ ظهورها في الثقافة العربية خلال عصر النهضة تَنهضُ بإشاعة القيم الإنسانية الإيجابية التي آمن بها المثقف العربي، قيم الحرية والتنوير والتسامح والمساواة والعدالة الاجتماعية. ولا تزال الرواية العربية كما تدلّ على ذلك النماذج الجيدة ملتزمة بالدفاع عن هذه القيم الإيجابية بعيدا عن التبشير والأدلجة. من هنا يُشددُ الباحث على الأهمية التي يكتسيها مَفهومُ الالتزام في عالمنا اليوم، وليس معنى هذا الالتزام بالقيم السياسية الحزبية، أو القيم الدينية، أو القيم القومية، فهذه كلها قيم فئوية في نظر الباحث. أما القيم التي ينبغي أن يلتزم بها الكاتب فهي القيم الإيجابية التي أطلقها عصر الأنوار، والتي سعت إلى تخليص الإنسان من سطوة القوة والهيمنة.

 

الصراع ضد القيم المضادة
لنقل إن الناقدَ لطيف زيتوني إذ يَبحثُ علاقة الرواية بالقيم انطلاقا من مستويين: الأول هو دفاع الرواية عن القيم الإنسانية الإيجابية التي يَحرصُ الأفراد والجماعات على التمسّك بها والحفاظ عليها لأنها سلاحهم الوحيد لبناء المجتمع الذي يحلمون بالعيش فيه، والثاني يَتمثلُ في الثورة على القيم المضادة التي تعوق الذات عن تحقيق تطلعاتها، فإنه يضعنا في صلب المفهوم المعاصر عن الرواية التي تبدو بما تَمتلكهُ من مرونة وانفتاح، الجنسَ الأدبي الأقدر على تشخيص صراع الفرد والجماعة ضدّ القيم المضادة. والرواية سواء عبّرت عن تجربة الفرد الحميمة أم عن تجربة الجماعة، تَستطيعُ بأسلوبها وخصائصها الفنية الكشف عن اللامرئي والمخبوء، وتلمّس التطلعات والرؤى الكامنة في أعماق الفرد والجماعة.

وبهذا المعنى تَندرجُ القيم الإنسانية الإيجابية التي تحتضنها الرواية ويُدافعُ عنها الروائي باعتباره مثقفا، ضِمنَ الشروط التي تُتيحُ التفكيرَ في القدرة التي ينطوي عليها هذا الجنس الأدبي على استدراج القارئ إلى مناطق السؤال والتفكير والشعور والتأمل. هكذا تستطيعُ الرواية من خلال رصدها للقيم الإنسانية الكونية التي يلتقي حولها الناس رغم اختلاف السياقات والثقافات، أن تَكونَ ممارسة معرفية مركزية في الأدب المعاصر. فهي لا تُخلخلُ فقط عاداتنا السابقة في النظر إلى الأدب، وتَثمينِ ما يستطيعه في المواجهة اللانهائية مع القيم السلبية أو المضادة، بل تسهمُ كذلك في تغيير حياتنا وإعطائها بعدا جديدا. هذا الدور الأخلاقي المهم الذي تَنهضُ به الرواية ويَتكاملُ فيه المضمون بمقومات الشكل الفني وعناصره المختلفة، هو ما يَجعلُ من الروائي مثقفا، لأنه يُعبّرُ عما يشغل النّاس وما يتطلعون لتحقيقه. وعليه، يَنهضُ الكاتب الملتزم بأحد أهم الأدوار التي يَضطلعُ بها المثقف أي معارضة السلطة والمؤسسات الاجتماعية الخانقة، وهذا ما شدّدَ عليه كِبارُ المفكرين الذين بحثوا مفهوم المثقف.


من هذا المنظور الذي يتوخى الكشفَ عن العلاقة بين الرواية والقيم، ويتقصّى طبيعة القيم التي يبنيها الروائي، يُحرّكُ الناقد زيتوني عبر ثلاثة فصول يَتوزعُ عليها مَشهدُ الكتاب، كثيرا من المرجعيات التي فكّرت في مفهوم المثقف ودوره وعلاقته بالسّلطة، من خلال قراءة عمودية تَنطلقُ في تقصّيها لتطورات النظريات الغربية حول مسألة المثقف وأصناف المثقفين من طروحات لمّاحة لمفكرين كبار من طراز جوليان بيندا، أنطونيو غرامشي، جان بول سارتر، إدوارد سعيد، ميشيل فوكو، بيير بورديو. كما يتناول زيتوني تطور النظر العربي بخصوص مفهوم المثقف بناء على إسهامات مفكرين عرب من طراز أمين الريحاني والكواكبي وطه حسين والجابري وعبد الرحيم العلام وأركون وعبد الرحمن منيف وغيرهم. وثمة رؤية منهجية مهمة تَتّسمُ بها مقاربة الناقد، تتمثلُ أساسا في وعيه بتعدد التواريخ والتعريفات حول المثقف، وبمحدودية التصورات وارتهانها إلى سياقها الجغرافي مهما بدت متماسكة ومقنعة، وهذا ما يَفتحُ المجال واسعا أمام إمكانيات إغنائها وتطعيمها بمقاربات أخرى مستمدة من سياقات مختلفة. ورغم التداخلِ في الأدوار والوظائف التي يَنهضُ بها المثقفون في العالم، فإن زيتوني يرى أن هناك خصوصية للمثقف العربي تَستمدُّ جوهرها من طبيعة السياق الذي يتحرك فيه، وهو سياق يَتسمُ بالتبعية السياسية والاقتصادية للقوى الرأسمالية الكبرى وبهيمنة الدولة على المجتمع وغياب الديمقراطية وانتشار القمع. وإزاء هذا الوضع، يبدو أن ثمة حاجة حقيقية للمثقفين في عالمنا العربي، كما يقول المؤلف، "لا كجسم ثقافي، بل كروح تسهر على إعلاء صوت الحقيقة واحترام قيم الحق والعدالة والحرية والتقدم".

تفاعل الشكل والمضمون
من بين الأسئلة النقدية المهمة التي يطرحها علينا كتاب "الرواية والقيم"، ذلك السؤال المتعلق بالطريقة الإجرائية الملائمة للكشف عن اشتغالِ منظومةِ القيم في النص الروائي. إنه سؤالٌ نظري ومنهجي يَتصلُ بالنقد الأدبي بما هو تلك الممارسة الذهنية التي تَتقصّدُ شرح العمل الأدبي وتقييمه اعتمادا على قراءة متقصية تَستندُ إلى كفاءة أو معرفة أو منهج. وفي هذا السياق يرى زيتوني أن ثمة طريقين يُمكنُ للناقد من خلالهما أن يقرأ النص الروائي في علاقته بالقيم.

طريق الاستنتاج حيث يَهتمُّ الدارس بالنظر في النوع الأدبي، والشكل الفني، وأسلوب التعبير، والنقاط المميزة الدالة على القيم، وطريق الاستقراء وفيه ينطلق الناقد من طبيعة الحقل الأدبي وآليات عمله، ويعتمدُ فرضية محددة للبحث تقوم خصوصا على مبدأ وجود نقاط مميزة وظاهرة في النص وقابلة للدراسة (ص 100). وما يُمكنُ أن يستشفَّ من هذا المنظور، هو أن مسألة القيم في علاقتها بالعمل الأدبي لا تحيلنا فقط على المضمون الذي يعبر عنه الأدب. فالقراءة التي تتقصّى القيم بالتركيز على المضمون، مهددة بالسّقوط في الاختزال والاجتزاء وهو ما يؤدي إلى تَجاهلِ عناصر أخرى مهمة تَشتغلُ في بناء المعنى. وعليه يُمكنُ القول إن تصور الناقد للرواية يقوم ُعلى النظر إليها باعتبارها عملا فنيا، وبالتالي فالشكل والمضمون يتفاعلان للإحاطة بموضوع الرواية كاملا، وهنا يَكمُنُ سرّ قوة الرواية وسرّ قدرتها التكلمية. وإذا كان الباحث يُطبقُ هذا التصور النظري على الرواية، فإنه بمقاربته هاته يجترحُ أمام المشتغلين بالأدب إمكانيات أرحب للتفكير في علاقة الأجناس الأدبية الأخرى كالقصة والشعر والمسرح بمنظومة القيم. والقراءة النقدية الجيدة هي التي لا يَقتصرُ مفعولها على إنتاج المعرفة بالعمل الأدبي وبآلياته المعتمدة في توليد الدلالة، بل تتعدّى ذلك إلى مساعدة القرّاء على تملّك هذه المعرفة وتسخيرها لممارسة القراءة والتأويل على خطابات أخرى.
يمكن القول إن كتاب "الرواية والقيم" يفتحُ منظورا نقديا ثقافيا لقراءة الرواية العربية وتحليلها، والكشفِ عن أسرارها الفنية وقدرتها، ليس فقط، على التعبير عن الإنسان والعالم الذي يعيشُ فيه، وإنما كذلك على إشاعة الوعي الذي يسهمُ في تغيير العالم، والارتقاء بشروط العيش فيه إلى ما هو أفضل. وإذا كان السؤالُ الذي طرح نفسه علينا في مستهلّ هذه القراءة هو كيف تَناولَ لطيف زيتوني الرواية، فإنّ الإلمام بالافتراضات النقدية والمنهجية التي استندَ إليها الباحث للتفكير في إشكالية تمثيل الرواية للقيم الإنسانية الإيجابية، والقضايا التي ناقشها مثل علاقة الأدب بالالتزام والثورة، ومفهوم الكتابة المسؤولة، والرواية السياسية، والرواية الأطروحة، كلها مقترحات ضافية لا تحيلنا فقط على الأثر المنهجي الملموس الذي تنطوي عليه هذه الدراسة، وإنما تتيحُ لنا كذلك الاقتراب من المرجعيات الفكرية والنقدية التي استفاد منها الباحث في تركيب المفهوم عن الرواية، وهي مرجعيات تُمثلُ إطارا عاما من شأنه أن يوسّع التصورات التي استندت إليها نظرية السّرد في السياق العربي منذ العقدين الأخيرين من القرن الماضي، وهي المرحلة التي بَرزَ فيها التأثيرُ القوي للسانيات الوصفية والسيميولوجيا في دراسة الأدب. ففي هذا العمل حيث يُقرأُ الأدب في علاقة بمنظومة القيم، وحيث يُستكشفُ الدور الذي تَنهضُ به الرواية في التعبير عن القيم الإنسانية الإيجابية والرّدّ على القيم المضادّة، نَلمسُ تصورا نقديا ثقافيا يَتعينُ فيه الأدب بوصفه مستبطنا لموقف أخلاقي من الوجود، ومتصلاً بالظرف التاريخي الذي أنتج فيه.

*كاتب من المغرب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.