}
قراءات

لعبة الهوية الملتبسة في رواية "نجمة البحر" (1/2)

رزان إبراهيم

5 سبتمبر 2019
تمهيد  
في "نجمة البحر" وهي الجزء الثاني من رواية "أولاد الغيتو" لإلياس خوري، يعود آدم إلينا من جديد متخذاً قراره بممارسة لعبته مع الغياب حين استحضر في نصه حيفا الغائبة في مكان إقامته في نيويورك، وصار قادرا - بعد زمن طويل هرب فيه من أطلال ذاكرة فلسطينية- على النظر إلى اللد ومأساتها بصفتها حكاية مرسومة في عيون الضحايا. يفعل هذا بتأثير من دالية، المرأة اليهودية التي نزعت القناع عن وجهه لتكتشف وراءه رجلا مهزوما مجروحا، آثر نسيان الطفل الذي كانه حين وجد شبه ميت على صدر أمه تحت زيتونة في الطريق الطويل بين اللد ونعلين. وإذ ينثال آدم علينا بذاكرته، نجده وقد تفتقت عليه الحكايا كما تتفتق الجروح في جسد مهشم. يحكيها بضمير الغائب منحيا وهو الراوي البطل ضمير الأنا، مدرجا قصة الذين احتلوا أرضه وشردوه، مستحضرا طفولته التي ينظر إليها بصفتها طفولة شخص آخر، ليكون الراوي هنا مثال الأنا إذ يفك ارتباطه بالأنا العليا ويعتق نفسه من إمرتها ويتحلل من قيودها الآمرة والناهية، فنراه يعمل لحسابه الخاص باستقلال تام عن آدم، حتى وإن كان ما نعيه عن آدم يتساوق ووعيه هو لذاته دون تدخل المؤلف الكلي العلم كما الروايات المروية بضمير الغائب.
هنا تحضر الحكايات من ذاكرة لها تركيبها الخاص في علاقتها مع الأزمنة، وتتحول الأحداث إلى ظلال تصنع صورا متلاحقة وغير مترابطة. لذلك يحضر غيتو اللد مناما، أما آدم الطفل فيحضر صورة تنبثق من ضباب الذاكرة محمولة على حكايات ممزقة لم يستطع الطفل جمع مزقها إلا عندما دخل في مشارف الكهولة، فاختار أن يكون حجرا ناطقا يملأ الحياة بصخب الكلام، بعد أن أعانته دالية على قراءة حياته من جديد، فأصبح قادرا على كتابتها بذاكرة مشوشة تمزج الحقيقي بالمتخيل، فآدم في النهاية هو ابن مخيلته التي رسمت له شخصية ملتصقة بشخصيته، لكنها مختلفة عنها، فقد اكتشف منذ خروجه من بيت أمه في حيفا أنه يستطيع أن يرسم نفسه كما يشاء مستعينا ببعض الأحداث الحقيقية التي تشكل خلفية لا بد منها، وهو ما وسمه بسمة الزئبقية، فلم يعد قادرا - وفق دالية- على معرفة الحد الفاصل بين الحقيقة والكذب، فكان يدرج من الحكايات ما يخترعه خياله ولكنه يصبح حقيقيا أكثر من الحقيقة. لذلك نلاحظ في هذه الرواية تنقلا عبر الأمكنة والأزمنة، نعيش معها مشاهد ملفقة تلفيقا لا يمثل محاكاة حقيقية بالمعنى الأرسطي للواقع، فيدخلنا الراوي في قصص لا تحيل دائما إلى التجربة المعيشية بقدر إحالتها إلى باب الاستيهام الذي توفره مخيلة تتلذذ بالتخيلات التي يتوالد بعضها من بعض، ثم تمتد وتتشعب تارة إلى الماضي وطورا إلى الحاضر.
إن تتبعا لآدم المولود في غيتو اللد 1948 منذ مغادرته كوخ أمه الضيق في حيفا عام 1963، وانضمامه إلى كراج غابرييل للعمل فيه، والسكن وقتها في وادي الصليب في البيت الذي هجره أصحابه، ومن ثم سفره إلى وارسو، يقودنا إلى الالتفات إلى عدد الغيتوات التي عاشها وتمكن من التعبير عنها من خلال أدب كان مظلة روحه التي عاشت حصارين، لتكون (لعبة الهوية الملتبسة) هي الثيمة الأبرز بحكم استراتيجية التكرار التي تفرض تقييدات معينة على تأويل النص كما يذكر إدوارد سعيد. وهي اللعبة التي تمكنت من تجسيد ما يمكن وصفه بأنه صراع وجودي قهري فرضته عليه ظروفه، يتكشف لنا أثناءها أن الحصار لم يكن ماديا وحسب، وإنما توفرت له من السمات ما جعله ماديا وروحيا في الوقت ذاته.


الفلسطيني المختبئ في هوية يهودي
تبرز الرواية آدم شخصية موزعة بين هويتين، ساهم في هذا التوزع مروره بين أكثر من غيتو، فهناك غيتو اللد الذي تشبه حكايته وادي النسناس في حيفا الذي أحاطه الجيش الإسرائيلي بالأسلاك الشائكة، وأمر السكان حينئذ بالتجمع في الوادي محولا الحي إلى غيتو. وهناك غيتو وارسو الذي وجد نفسه مرتحلا إليه يستمع إلى حكاياته المختلفة، وهناك نرقبه وقد عاش

محاصرا مع الموتى اليهود، كما نرقبه وقد عاش حصاره الروحي الذي جسدته عزلته عن بقية أقرانه الطلاب. وآدم الذي تظاهر بأنه ابن هذا الغيتو، تمر عليه أوقات أحس فيها بحاجته إلى الاعتراف بأنه "ليس ابن هذا الغيتو، بل ابن غيتو آخر، وأن الغيتويين يتشابهان على الرغم من أنهما مختلفان في كثير من الأوجه"، فقد كان يقر في داخله بوجود شيء من التقاطعات بينه وبين إديلمان اليهودي الذي قابله في وارسو، والذي كتب صمت الضحايا الذي جسده صمت أمه البيولوجية التي ماتت هناك، وتلعثم منال أمه الثانية، مع فرق أن الاثنين (إديلمان وآدم) وإن بدءا مستلقيين صامتين، فإن الأول سينهض ليعالج المرضى والثاني سيموت. بل وبدا لآدم أن إديلمان ممكن أن يكون والده حسن دنون وقد انتقل من اللد إلى وارسو، وتراءى له مشهد القطارات في وارسو كما مشهد القوارب التي نقلت الفلسطينيين إلى تيههم من ميناء حيفا. هنا تنثال الأسئلة تباعا على آدم. فهل يحق لأحد أن يطلب منه أن يخرس لأنه فلسطيني؟ ومن قال إن مأساة الهولوكوست هي ملك لليهود الإسرائيليين وحدهم؟ وهل يحق للذين شردوا شعبا بأكمله أن يدعوا أنهم ورثة الضحايا؟  يصل بعدها إلى أن "نعم هنا يوجد غيتوات، وأنتم صنعتم النكبة وطردتم شعبا كاملا من أرضه". وكأن قدر البشرية يتحرك ما بين قاتل وقتيل، كما قابيل وهابيل، وهو ما جسده أستاذ آدم ياكوب في خطابه لآدم إذ يقول: "إن اليهود اكتشفوا في النهاية أن خلاصهم لا يكون إلا عبر تبني منطق قتلتهم. نحن الألمان الجدد يا عزيزي، الألمان لم يعودوا ألمانا بعدما سحقوا في الحرب العالمية الثانية، أما نحن فكان خيارنا أن نصير ألمان الشرق. ثمن الخلاص التضحية بشعب آخر. ننهي مأساتنا بمأساة جديدة ضحيتها الفلسطينيون العرب".
وإذ نرقب آدم في تجاذبه بين هويتين، فإن القارئ لن تفوته ملامح نفسية تحيل إلى دواخل آدم المركبة كما الطوابق، كل منها يؤدي ويقود لما بعده؛ في البدايات بذل جهدا كبيرا للتخلص من ذكريات تربطه بانتمائه الفلسطيني، تجلت في محاولاته المتكررة في دفنها في صندوق النسيان، فنراه على سبيل المثال "يمشي على رؤوس أصابعه كي لا يوقظ أشباح الغائبين الذين طردوا من هنا وابتلعهم البحر". وكانت وجوه هؤلاء الغائبين تخيفه إذ تتراءى له صورهم على الحيطان، لكن ما يلبث آدم أن يفجأنا حين يترك البيت في وادي الصليب الذي يمتلكه غابرييل ويفكر"أن هذا بيت عرب وهو عربي وأنهم هم سرقوا البيت وهو استرده". أما وادي الصليب -الذي يغادره مضطرا بعد أن تكشفت علاقته برفقة ابنة صاحب الكاراج غابرييل- فسينحفر في ذاكرته بيوتا عمياء، بل وينتابه إحساس بأنه كان أعمى لأنه لم ير، فلو رأى لما استطاع أن ينام ليلة واحدة في هذا المكان الموحش الذي قضى فيه ستة أشهر، والذي حولته عيناه إلى مقبرة لصور العائلة من الداخل يسمع فيها وشوشات الغائبين "صوت السكون يخبئ في داخله مزيجا من أصداء الأصوات التي التصقت بحيطان البيوت ولم تغادرها".


التوزع بين لغتين وأدبين
في كل الأحوال كان لهذه الهوية الملتبسة تمثلاتها من خلال اللغة التي يستخدمها آدم الذي كان يعرف العبرية ويحبها لأنها تشبه العربية، ومن ثم صار له اسمان؛ شلومو مع غابرييل وآدم مع العمال العرب من أهل البعنة، وبعد أن انتحر (رباح) الذي التقاه في حديقة بنيامين بعد مغادرته بيت أمه، نراه وقد حفر اسمه باللغتين على شجرة كان يحس بأنها تقمصت روحه، لكنه لم يكن يتكلم معها إلا بالعربية "فالشجرة لا تفهم سوى لغة الأرض التي نبتت فيها". وهو انحياز يظهر من جديد حين تبدل حاله من التباهي أمام أقرانه في مدرسة المطران، بطلاقته في اللغة العبرية، إلى شعور انتابه "بأن الكلمات صارت وحلا في فمه". ليمتد هذا الشعور ويشمل اللغة العربية، فيرى نفسه وقد انشقت الكلمة على لسانه نصفين، فلا يكون أمامه سوى البحث جاهدا عن نصفها الثاني، ليصبح الكلام في فترة عمله الأولى مع غابرييل غريبا، فتراه وقد خلع العربية حينا وارتدى ثوب العبرية حينا آخر، بينما يحصل العكس في أحيان أخرى يعجز فيها عن إيجاد معادل عبري لما هو عربي، كما عبارة الحلاج "لم يزدني الورد إلا عطشا" إلى أن يخلع العربية لتصير العبرية ثوبه الجديد الذي سيلبسه إلى الأبد.
لم يكن التوزع مقصورا على لغتين فحسب، فقد كان آدم موزعا بالمثل بين أدبين، فنجده في إحدى محطاته وقد تخلى عن دراسة الأدب العبري، ثم يغير للأدب العربي، ليجد نفسه أستاذا للعربية في مدرسة عامة في غيتو وادي النسناس. والسبب أنه بعد تخرجه من جامعة حيفا بماجستير في الأدب العبري وجد أن عليه أن يدرس الأدب العربي"لا لشيء إلا لأن رقم هويته يشير إلى أنه عربي، وليس يهوديا".  وحين يفكر آدم بأن يكون يهوديا عربيا، يتنبه إلى استحالة تحقق ما في ذهنه "كل فكرة هذه الدولة قائمة على أن العربي عربي واليهودي يهودي".
في هذا السياق يأتي السؤال الكبير: لماذا يتنكر آدم لفلسطينيته؟ أو ما هو مبرر هذا التوزع بين هويتين؟ هل هو الجبن أو النذالة أم هو الخوف حين تكون الحياة مهددة؟


الجلوس بين كرسيين
حين يتفيأ آدم مظلة يهودية، فإن ذلك يعود لعوامل متعددة، من ذلك لون شعره وبياض بشرته اللذين سيشكلان مفتاحا للدخول في عالم جديد، خصوصا حين التقى بغابرييل في وادي الصليب، وهو يهودي هاجر من بولندا مع أمه وأخيه الصغير الذي مات في معركة تحرير حيفا على حد زعمه، ورأى فيه غابرييل شبيها لهذا الأخ، لنجد آدم وقد تبنى حكاية أنه فعلا الشقيق الأصغر لغابرييل، وأنه هرب مع أمه من غيتو وارسو، وأنه سيصير إنسانا جديدا. بل ونجد آدم في غمرة قلقه وقد سارع إلى وضع الألف بدلا من الشدة في اسم عائلته، ليصبح دانون التي توحي بأنه يهودي بدلا من دنون التي تشير إلى هويته الفلسطينية؛ "نام وهو يحتضن حرف الألف كي يمنعه من الإفلات منه". نرقب آدم في هذا كله عاجزا عن الاندماج مع طلاب عرب على الرغم من إعجابه بشجاعتهم وكلامهم، ونراه في الوقت نفسه عاجزا عن الاختلاط بالطلاب من اليهود خوفا من افتضاح أمره بسبب لهجته الأشكنازية التي انطلت على أساتذته. بل إن آدم الموزع بين هويتين، أو الجالس بين كرسيين، تعرض للقطيعة في أكثر من موقف، فأستاذه اليهودي قاطعه حين عرف أنه عربي، والعمال العرب الذين عمل معهم في كراج غابرييل اعتبروه طارئا مفروضا عليهم من الخواجة الذي يعتبره بمثابة أخيه الضائع، والذي أراده أن يصير مثلهم يهوديا، ولكن إلى حين، فغابرييل حين عرف بعلاقة آدم بابنته رفقة طرده وفي ذهنه أن يقتله لو رآه في الوادي؛ "هم يخافون من مائنا مثلما نخاف نحن من مائهم".


الاغتراب عن الذات
يغلب على آدم شعور يتملكه منذ البدايات بأنه لا أحد "وحين لا تكون أحدا تستطيع أن تكون أي أحد". ولهذا الشعور أسبابه المتعلقة بتعبه من الغيتو ومن منال ومن زوجها، فقد كان يعرف أنه غريب عن أمه، وقبل كل شيء فإن الحكاية التي رواها له مأمون عن الطفل الذي وجد مرميا على صدر أمه الميتة ما زالت تستحوذ عليه. لذلك كان آدم غريبا "والغريب هو من تغرب عن نفسه، أي من صار اسمه تهمته، وهويته عنوان ذلة". إذاً آدم الذي ينسب إلى منال وحسن دنون، يبدو وكأنه ولد من ذاته، يشهد على هذا شعره الأشقر الذي لا يشبه شعر أبيه فكان يسمع عبارات مثل: "من فين جبت هالشعر الأشقر" أو "شو هالفرق بينك وبين الشهيد. كأنك مش ابنه"، علما أنه حين خرج من منزل والدته وهو في الخامسة عشرة من عمره، أعطته منال وصية حسن دنون باعتباره أباه الذي منعه موته من رؤيته.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.