}
عروض

"أعياد الشتاء"..حين تُطعم الحرية من روح الأنثى ولحمها

ضاهر عيطة

28 سبتمبر 2019
عبر سرد محكم، تتداخل فيه الأزمنة والأمكنة والأحداث، إلى حد يكاد يصعب الفصل بين الراهن والماضي، ترسم الكاتبة نغم حيدر عوالم روايتها "أعياد الشتاء" الصادرة حديثاً عن دار "هاشيت- نوفل" بريشة تمتهن رصد التفاصيل البسيطة، لتعمل على تفكيكها وتركيبها، فتستنبط منها أسباب وعوامل التحولات التي تطرأ على حياة شخصيات روايتها، خالقة من ذلك عالماً موازياً للواقع، لكنه يمثل هنا في عريه الكامل، وقد استحالت كل من "شهيناز" و"راوية" بطلتا الرواية، لفرط شفافيتهما، إلى قطع من زجاج.


من العادي واليومي

 نغم حيدر 


من العادي واليومي، من المخفي والمتواري، وبلغة شاعرية، تتجاوز نغم حيدر حدود الدهشة، واضعة "شهيناز" و"راوية" في مختبر سردي، يتم فيه تشريح هاتين الشخصيتين المحوريتين، وبقدر ما تضيق مساحة الحيز المكاني الذي يجمع بينهما، بقدر ما تفترق عوالمهما النفسية والفكرية، وكذلك التجربة والخبرة، رغم أن كلتيهما لاجئتان سوريتان في دولة أوروبية، ولكل منهما ظرف لجوء خاص. فبينما هربت "راوية" من سورية على أمل أن توفر بعض المال وترسله لوالدتها "جيهان" ليساعدها على معرفة مصير الأب الذي اعتقلته أجهزة الأمن، تحل "شهيناز" في أوروبا، بعد أن نفاها عشيقها الضابط الأمني "قتيبة" من سورية، واتهمها بأنها هي من وشت بمكان طفله ما أدى إلى مقتله، في حين أنها لم تلجأ إلى "قتيبة" إلا لعيش الأمان في وطنها، لكنها طردت منه في الليلة الوحيدة التي لم تكن فيها قحباء، وفي بلد اللجوء أخذت تبحث عن أمن مشابه لذاك الذي كانت تشعر به مع عشيقها "قتيبة" وكأنه لم يعد ثمة أمان إلا باللجوء إلى الأقوياء، حتى لو كانوا ضباط أمن سفاحين على شاكلة" قتيبة"، لكن أوروبا لم تمنحها سوى البرد والوحدة، وأحالتها إلى فتاة تائهة، هائمة في شوارعها، والمفارقة أنه سبق لـ"شهيناز" في ظل القتل والموت والتنكيل الأمني الذي يطال أبناء وطنها، أن هجرت بيت الأهل، وامتهنت التعري والإغواء على خشبات الملاهي الليلية، حالمة برجل ذي سطوة وهيبة، مثل الضابط الأمني "قتيبة" ليوفر لها الأمن والنجاة، أي أنها تتخلى عن الأهل، المفترض أنهم رمز للأمان والنجاة لفتاة مثلها، وتلجأ إلى ضابط أمني، على يديه تحاك دوامة القتل والموت وخراب البلد، تتنازل عن حنان وعطف الأهل، لتضع نفسها تحت تصرف قسوة وعنف "قتيبة"، وهذا يجسد حقيقة ما آلت إليها المفاهيم والقيم الاجتماعية والأسرية، ومدى تخلخل البنية الفكرية والنفسية لدى الإنسان السوري، في ظل حكم الأمن والعسكر، إلى حد أن "شهيناز" كانت قد أهدت عشيقها حقيبة مليئة بأدوات التعذيب، ليستمتع بتجريبها على جسدها، وإذا ما عبرت  في ممرات الفرع الأمني الذي يترأسه، ولمحت أجساداً ملطخة بالدماء من آثار التعذيب، لا تبدي أدنى اكتراث، إذ أن لهفة الوصول إلى مكتبه، كانت أهم وأعظم من كل هذه الجراحات، إلى درجة أنها كانت تراقب حركة الناس في شوارع المدينة، وكلما أبصرت الذعر والخوف في عيونهم، هيأت أنوثتها وفتنتها، لتزيل آثار التعب والجهد عن "قتيبة" حينما راح يفتك بأجساد وأرواح الناس. وعلى الرغم من الأهوال التي قاستها على يديه، تظل في غربتها تحن إليه، وتشتهي وخزات سياطه على جسدها، كلما راحت الإبرة تحفر في لحم كتفها وشماً لرسم غزال، ذلك الغزال الذي رأته في ساحة المدينة الباردة، وقد أوحى لها بالحرية، ولكنها سرعان ما تستدرك  أنها حرية منتهكة وزائفة، إذ بعد انتهاء حفل أعياد العشاء، يتحول هذا الغزال إلى أسلاك حديدية، ترمى في صندوق الشاحنة، كما رميت هي في دولة باردة موحشة، تبحث فيها عن طريق يعيد لها ألقها وأمجادها، مستعينة بـ"فهد" عساه يجد لها زبوناً شبيهاً بـ"قتيبة"، لكن "فهد" الذي كان يركع تحت قدميها في سورية، يعاملها هنا بسخرية واستخفاف، دون أن يقدر  فتنة جمالها، وخبرتها في عوالم الرجال، بحكم أنها مارست الجنس مع العشرات منهم سابقاً.


خلل نفسي
على خلاف ذلك تبدو "راوية" صديقتها في "الكامب" فتاة لم تتذوق طعم القبل ولو لمرة واحدة في حياتها، إلا تلك القبلة اليتيمة من شفاه الطبيب "عرفان" على واحد من جسور دولة اللجوء. إضافة إلى أن هذه التي اسمها "راوية" غير قادرة على رواية أي حديث حتى لو كان بسيطاً، ما يشير إلى بوادر الخلل النفسي الكامن في شخصيتها وانطوائيتها، وبحكم أنها فتاة محرومة من القبل، والعلاقات الجنسية، تحاول إشباع حرمانها، من خلال  مشاهدتها لأفلام البورنو، والمبالغة في شراء الملابس الداخلية، وأحياناً تجد في "شهيناز" شريكتها بالغرفة معوضاً لها عن قبحها، وعما تشتهي أن تكون عليه، فتسرح لها شعرها، وتطلي لها أظافرها، وترش لها

العطور، بل وتشتهي  حتى اهتزازات نهديها، فـ"شهيناز" تقف للحظات قليلة أمام المرآة، نظرا لثقتها بجمالها وفتنتها، بينما تضطر هي للوقوف مطولاً هناك، عساها تخفي البقع السوداء عن وجهها بمستحضرات التجميل، ومع ذلك فإن جراح "راوية" لا تقل مرارة عن جراح "شهيناز" فهي تنتمي لأسرة فقيرة، كانت تقطن في حي التضامن بدمشق، وهي في غربتها لا تحمل لوالدها أي ذكرى، غير أنه كان طوال الوقت قابعاً فوق أريكته، مكللاً بالصمت والأسى، والمرة الوحيدة التي رأته فيها فرحاً، يوم سمح لبعض المتظاهرين بالتواري في منزله، بعيداً عن عيون رجال الأمن، حتى أن هاتف والدتها "جيهان" التي لا تكف تحدثها عن شوقها للأب، ومطالبتها بالنقود لتحريره من المعتقل، بات أكثر ما يسبب لـ"راوية" الضجر والتأفف، وهي  دائماً تحاول مقاطعة والدتها، مؤكدة لها أن زوجها لا بد وأن يكون قد قتل في المعتقل. لكن طعم قبلة "عرفان" على شفتيها، يعيد لها شيئاً من توازنها النفسي والروحي، ما يجعلها تعي أخيراً أن الحب هو من يقف خلف إصرار والدتها على معرفة مصير زوجها.
وبينما "راوية" تضجر من هاتف وأحاديث والدتها عن الماضي، تستحضر "شهيناز" ذكريات الماضي التي جمعتها مع "قتيبة"، رغم أنه كان يدمي جسدها، غير أنها لا تشعر بكيانها وذاتها إلا بغوصها في ذلك الماضي، إذ أن حالة الخواء والوحدة التي تعيشها في غربتها تستجر ذكريات الماضي، تعويضاً عن فقدانها لكيانها وهويتها.
و"عرفان" الذي ظنته "راوية" خلاصاً بالنسبة لها سرعان ما يختفي، رغم بحثها الطويل عنها، إلا أن قبلته كان لها مفعول السحر على روحها، وإثرها تتصل بوالدتها وتعدها بأن توفر لها ما تستطيع من نقود لمعرفة مصير الأب.  في حين أن "شهيناز" لا تجد في نهاية المطاف إلا أن توشم رسم الغزال على لحم كتفها، تعبيراً عن مدى احتياجها للحرية، حتى وإن كانت زائفة، عساها تصير حقيقية إذا ما نهشت من لحمها الذي بات متروكاً للوحدة ولصقيع أوروبا.  

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.