}
عروض

"لا تنتظر أحداً".. التشظي بين الذاتية والموضوعية

محمد العثمان

22 سبتمبر 2019

القارئ لمجموعة "لا تنتظر أحداً" (دار فضاءات، 2018)، للشاعر الأردني محمد العزام، يلاحظ وجود سمة بارزة في المجموعة؛ هي انقسام نصوصه على متقابلتين واضحتين هما (الذات والموضوع) في ثنائية الحلم بين الأنا والآخر، إذ إن الملاحظ أن أغلب هذه النصوص تنضح من هذه الثنائيات وتؤثث عليها؛ وهذا ما حفزنا لنكشف في هذه الدراسة عن علاقة محمد العزام بالآخر، وكيف هضم مفاهيم الآخر ثم أعاد خلقها من جديد بما يتناسب ورؤياه  للحياة، ومن هنا تصبح هذه العلاقة شيئاً لازماً، وقد تكون اعتباطية غير مقصودة وغير ظاهرة، أو تكون قصديةً  تصدر عن وعي الشاعر حين يدخل في تماهٍ حقيقيّ مع الآخر أو حين ينفصل عنه.



ثنائية الأنا والآخر/ الضعيف والقوي
تشكِّل ثنائية الأنا والآخر علاقة ارتباطية متلازمة يستدعي حضور أحدهما حضور الآخر، ويشكِّل تغيير أحدهما تغير الآخر؛ فالرؤية الشعرية تتسع وتتنامى في تعبيرها عن تجربة الإنسان الوجودية والإنسانية ثم الاجتماعية والسياسية معاً ضمن حيزٍ من هذين الحيزين... فحين يتسع واحد منهما يضمحل الآخر، وضمن هذا التقابل ينخلق الصراع ويتجاسر الإنتاج والخلق الجديد، ليستطيع الشاعر بعدها أن يصعّد نصه الشعري وأبياته ضمن هذه الثنائية المسيطرة، مانحة إياه رؤيته الخاصة بعد أن يذوّب بها إمكانياته الثقافية كلها؛ ومخزونه المتراكم في لاشعوره فيكون في النهاية منتوجاً خاصاً به؛ يعبر عن حالته في بصمة سياقية خاصة، فنراه يقول في قصيدة (الباب):

كلُّ النوافذ مذ أغلقتها انطفأت

لملمْ بقاياك

فالماضون

قد عتقوا

كنّا نشدُّ على المفتاح قبضتَنا

إنّ الأصابع تبكي

وهي تحترقُ

هنا يظهر الانقسام الذي ينتاب الذّات بوضوح من خلال الانشطار الذي بدأت به المقطوعة "لملم بقاياك" حيث الانكسار والقلق على المصير انتهى وتم؛ وهنا فيه رجحان للضعف على حساب القوة للآخر من خلال الفعل والقدرة، حين الآخر (عتقوا) هم الذين صعّدوا آثار الضعف في الأنا، ثم يتحول الحلم الفردي الذاتي إلى موضوعي جماعي يرمم الانشطار وينتصر للذات، حين يبدأ بالجمع (كنا نشد...) وهذا انتصار للذات هنا على حساب الجماعة لأنها تستحضر اللقطة بشكل منفرد وتصعد المشهد بحميمية عالية، فيذوب الكل في الذات من خلال اللقطة التذكارية والفعل والاستطاعة من خلالها.
ويستمر الشاعر برسم مثل هذه اللقطات على مدار المجموعة؛ فنراه يقول في قصيدة (في العيد):

كان مطأطئ الأغصان

لم أشعر به

هل يا ترى أنا من تركتُ الله

في عشب الطفولة

 

أم تخطّانا إلى من لم يروه رصاصة

في قلب أغنية

إلى من يزرعون بدمعهم شجر المحبة باسمهِ...

تتداخل هنا حالة القوة مع الضعف فلا نكاد نراه في الأنا حتى تتداخل إلى الآخر ثم تنعكس، والسياق الشعري للأنا كان هنا نسقاً منصهراً في الآخر حتى في حالة مناجاة الشاعر نفسه (هل يا ترى أنا من تركت الله..؟) ليصير المونولوج حالة كشفية عن انكسار الذات أمام الخطايا الداخلية، لكن الشاعر لا يتركنا ننظر إلى "أنا" متجردة عن الآخر، بل هي في علاقة جدلية أثناء هذه اللحظة حين يكمل إلى نهاية المقطع في قوله (إلى من يزرعون بدمعهم...) ليتسع المعنى ويأخذ منحى الضعف على الطريقين ويشمل حتى كلا مغايرا لـ"الأنا"، وكلا متفقا مع الذات أي هو كل ما ليس أنا وما هو ليس هو، فيقول في موضوع آخر:

وحريةٌ ما تُحلِّقُ طيراً صغيراً

تراقبنا من بعيدْ...

فسجاننُا الحلمُ

يشبه كل الحكاياتِ

يغلقُ أبوابنا بالحديدْ.

وبقدر ما يبدو الصراع حاداً بين الأنا والآخر على مستوى الفعل وردّات الفعل؛ وخصوصاً في قوله عن ماهية الأنا التي تتطلب الحرية والانطلاق، فيقول (حرية تحلق طيراً صغيراً) وحالما ينتهي منها حتى تكون ردة الفعل والقوة للآخر فيقول: (فسجاننا الحلم ... يغلق أبوابنا بالحديد)، فإن ذلك ينعكس بشكل أو بآخر على قدرة الشاعر على الحلم المقيد، وهذا مدخل للآخر الذي يريد أن يتحدث عنه الشاعر؛ هذا الآخر الذي كلما حاول أن يتحرر يتقيد أكثر، بحيث يتحول الحلم الذاتي إلى سجن، وينتصر على الذات التي أطلقته، فتكون العلاقة غير متكافئة دوماً.



التكامل والانفصال بين الأنا والآخر

من الجيد أن تستطيع الذات أن تحقق التكامل مع الآخر ليلعبا دوراً أساسياً ورئيساً في فهمنا وإدراكنا للحقيقة إلى أبعد حد، فحيث قوة ارتباط الأنا بالآخر تتشكل مفاهيم سلام أو صراع أو اتحاد... ولعلَّ الأنا في المنظور الاجتماعي تعد نتاجاً لعملية التفاعل الاجتماعي، فنظريات الأنا والذات تتركز على إدراك الفرد لكيفية رؤية الأفراد الآخرين له، وعلى مقارنة نفسه بالأنماط الاجتماعية الموجودة من حوله؛ وبحسب نظرية أدلر، فإنه لا يمكن فهم "الأنا" إلا في ضوء مشاركته وتفاعله مع غيره؛ وحالما تضيق الأنا بحلم الشاعر، تنفجر معبرة عن توجس الجماعة والآخر، وهكذا يصبح الحامل الشعري موضوعياً يتناسب مع الرؤيا الخلاقة لطرح قضايا الإنسانية والاجتماعية وتفتيتها؛ ومن ذلك نرى محمد العزام قد استفاد من هذا الحيز وحاول في كثير من المواضع أن يكامل بين الذات والآخر كقوله في قصيدة ( أنا بين يدي):

وأنا قليلُكَ

كلّما أحرقتَني

بيديكَ

كنتُ على رمادي تكثرُ

وأنا وحيدكَ

كيفَ لم تُبصرْ خيولُك

وحشتي

والخيلُ فوقي تعبر

فنلاحظ أن الأنا هنا تكاملت بشكل كلّي مع الآخر والموضوع؛ لتتحقّق من خلاله صورة متجذرة في المفهوم والمحسوس واللامرئي؛ وتعطي القارئ انطباع الديمومة والاستمرار في العطاء.
ونلاحظ في قصيدة (كأنك ما خلقت) هذا التكامل في أبهى حالاته وتجلياته فيقول:

كبرتَ

وكنت ناياً في زمانٍ

خلقت به

كـأنك ما خلقْتَا

 

وكيف تحبُّ

أنك كل يوم

تعيش بلهفة العشاق

موتا

وهنا يحاول الآخر تجاوز مرحلة الحوار الداخلي إلى مرحلة التكامل مع الأنا، وإلغاء الحواجز كلها التي تفصل بينهما، إنها مرحلة الدمج، وكأن الشاعر يحكي عن ذاته وذات الآخر فيكون المخاطب هو الشريك إن لم يكن الذات نفسها.
أما في مواضع الانفصال فنلاحظ أن الشاعر يحاول كثيراً أن يخصص العام لتكون هذه الخصوصية منطلق الذات وجوهر تفردها بين الجماعة فلا تذوب في الآخر، وهذا الانطلاق يكون في لحظة تعالٍ على الوضع المنهار أخلاقيا وإنسانيّاً، ولعل الشاعر يريد أن ينجو بنفسه منه، كقوله في قصيدة (حكمة النهر):

ما كنت أصغي للحقيقة!!

والحقيقة طفلةٌ

وقفت تلوّح خلف نافذة البراءة

باليدين

ما كنتُ أصغي

حين تقتبس الشوارع كل يوم

حكمة النهر القديمة...

حالة الأنا هنا غير قابلة للتغير، لتكون طبيعة العلاقة بين الأنا والآخر مختلفة ومتباينة باختلاف الشروط التي يمليها الواقع الاجتماعي، فتختلف صورة الأنا حين تقبل الآخر عن صورتها حين ترفضه، وتتحدد العلاقة بينهما سلباً أو إيجاباً..  فالشاعر لا يريد أن يكون هنا مستلباً لهذا الواقع تحركه الجماعة فقط لأنه ينتمي إليها؛ بل يحركه فكره ومنطلقاته ورؤاه.
في النهاية يتضح لنا أن الرؤيا الحالمة للشاعر حاولت أن تكون حلماً فردياً قد تصبح فيه كلُّ قصيدة حلماً؛ يحمل معه الموضوع حين يتطلب الصمود وعدم الانكسار أمام هذا الواقع المتشظي، لتعبر بهذا الحلم نحو التحقق، وهنا يكون الحلم قد شكّل محوراً أساسياً من المحاور الرئيسة في الرؤيا، والعكس يحدث تماماً حيث تحاول الذات ألا تتماشى مع رواسب وقناعات الماضي أو الجماعة بل تصر على عقد تساؤلات واستنكارات تتناسب مع انشغالاتها الوجودية والميتافيزيقية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.