}
عروض

"الصحافة والتاريخ".. المؤرخ إذ يمتطي صهوة الراهن

أشرف الحساني

10 سبتمبر 2019
يبرز المؤرخ الطيب بياض، أستاذ التاريخ الاقتصادي، كأحد الأسماء البحثية المهمة، التي اعتدنا أن يجمّلوا الحياة الجامعية، بالكثير من الرصانة الفكرية والعلمية والبحث التاريخي في مواضيع ظلت في حكم اللامفكر فيه داخل تاريخ المغرب، إلى جانب كل من محمد حبيدة، ومحمد معروف الدفالي، ومحمد جادور، وليلى مزيان، وغيرهم من الباحثين المغاربة، كل في تخصصه المعرفي المرتبط بحقبة تاريخية معينة. فهم لم يجعلوا من الجامعة المغربية مكانا آمنا للنوم والاستراحة بعد تعب السنين، ما جعل رهطاً كبيراً من الجامعيين عندنا يكتفي بإلقاء الدروس الضيقة والمحاضرات العقيمة حول تاريخ المغرب بطريقة سردية تقوم على الحكي والسرد الخرافي دون الوقوف عن كثب أمام هذه الأحداث والوقائع لفهم أنماطها وطرائق حدوثها وأبعادها الفكرية ومدى تأثيرها في بنية المتخيل الجمعي للمجتمع القبلي التقليدي، الذي ظل المغرب يرزح تحته منذ بدايات القرن التاسع عشر مع بدايات الغزو الأجنبي للمغرب وما رافقه من سياسات عسكرية ونظام ضريبي مجحف، سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي، دون أن ننسى مظاهر التحديث التي عرفها المغرب والمغاربة في ذلك الإبان.
"المخزن والضريبة والاستعمار: ضريبة الترتيب 1880-1915"، "رحالة مغاربة في أوروبا بين القرنين السابع عشر والعشرين: تمثلات ومواقف"- بمثل هذين الإصدارين وغيرهما من الإصدارات المثيرة والاشتغال العلمي الدؤوب، استطاع المؤرخ الطيب بياض أن يحفر مجراه عميقا في مدونة البحث التاريخي داخل المغرب عبر إسهامات داخل مراكز البحث والمختبرات الجامعية وجمعية البحث التاريخي، إضافة إلى عموده الشهري في مجلة "زمان" التاريخية، التي أدمنت قراءتها وأنا طالب داخل الجامعة، فاكتشفت حينها قوة بياض في تفاعله مع بعض الإشكاليات الإبستمولوجية والموضوعات وبعض أحداث وقضايا التاريخ الراهن، محررا الكتابة التاريخية من صرامتها وجفافيتها فاتحا لها آفاقا تعبيرية وفكرية وبحثية تجعل صاحبها يستكين إلى الماضي البعيد، لكن دون الإقامة في سراديبه، بل بما يجعله متيقظا، يرقب صوب المستقبل، معتمرا قبعة الحاضر.
في كتابه الصادر حديثاً "الصحافة والتاريخ: إضاءات تفاعلية مع بعض قضايا الزمن الراهن" (2019)، الذي صدر ضمن نشر مزدوج بين دار أبي رقراق للطباعة والنشر، وكلية الآداب
والعلوم الإنسانية عين الشق الدار البيضاء، وبتقديم من الصحافي إدريس كسيكس، يواصل الطيب بياض حفره في تاريخ المغرب الراهن، متفاعلا مع بعض قضاياه. فالكتاب ليس كما قد خيل لبعض الجرائد والمواقع الإلكترونية، وهي تروج للكتاب، باعتباره تأريخا للصحافة، بل هو لا يعدو أن يكون كتابا يتناول جملة من القضايا، التي تخص الزمن الراهن في صلته بالتاريخ المغربي، مثل: الاقتصاد والسيادة، الجوار، الإصلاح الضريبي، الذاكرة والتاريخ، التاريخ والديبلوماسية، المغرب وأوروبا، وغيرها من الموضوعات، التي يتفاعل بياض معها من زاوية نقدية تقوم على تفكيك الحدث دون إخراجه من سياقه التاريخي والفكري، الذي تحكمه المقاربة التاريخية من خلال خلفية إبستمولوجية تستند إلى أهم مصادر فلسفة التاريخ لدى كل من لوسيان فيبر ومارك بلوك وبروديل وبول ريكور وفرانسوا دوس وغيرهم.


الماضي والراهن
يقول المؤرخ المغربي محمد حبيدة في كلمة الغلاف "يكسر المؤرخ الطيب بياض القاعدة الوضعانية القائلة لا يولد التاريخ كمرحلة إلا عندما تموت هذه المرحلة، لأن ميدان التاريخ هو الماضي، وينزع نزوعا صريحا نحو ما أكد عليه مارك بلوك، مؤسس مدرسة الحوليات، كون أن فهم الماضي لا يتأتى إلا بإدراك القضايا التي يطرحها الزمن الراهن، في إطار جدلية زمنية منتجة... يطرح الكتاب، على نحو صريح، ذلك السؤال الأبدي: "ما جدوى التاريخ؟" ويجيب على نفس النحو بالتنبيه إلى أن التاريخ في كنهه وشكله، وعلى الرغم من التعريفات والمقاربات، يبقى حوارا مع أسئلة الماضي، يبقى عملية فكرية تحيي الماضي في الحاضر وتستنير بقضايا الراهن لتلمس الدهاليز القابعة في بطن الماضي...".
أما الإشكالية الإبستمولوجية، التي تنبثق منها شرعية الحديث عن ثنائية أو علاقة التاريخ بالصحافة، فهي تعود تاريخيا وفكريا إلى مدرسة الحوليات مع كل من لوسيان فيبر ومارك بلوك وفرناند بروديل في القطع مع المدرسة الوضعية أو المنهجية مع كل من سينيوبوس ولانغوا، خاصة في كتابهما "المدخل للدراسات التاريخية" وقبلها مع مجلة "la revue historique" سنة 1876 على يد المؤرخ غابريال مونود، بغية تجاوز النظرة النمطية

التي قيدت الكتابة التاريخية وجعلت منها عملية منهجية تقوم على التوثيق الصرف دون إمكانية إعمال الفكر والنقد، تجاه الأحداث اليومية والقضايا الفكرية وكافة التحولات السياسية والاجتماعية، التي قد تطال المجتمعات خلال حقبة تاريخية معينة، إما عن طريق مثاقفة تلقائية بين الحضارات والمجتمعات القبلية أو مثاقفة مفروضة تتم عبر الغزو الاستعماري.
من هنا نرى ونلح على ضرورة إعمال الفكر في المقاربة التاريخية المعاصرة بطريقة تجعلها متحررة من رتابتها التقريرية، كما تخلصها من كل الشوائب، التي ظلت عالقة بها منذ العصر الوسيط، حيث يتبدى لنا التاريخ وكأنه ضرب من الخيال الحكائي بصيغة سردية رتيبة غارقة في ترتيب الأحداث السياسية والاستطراد الفاحش في ذكر الملوك والسلاطين دون الوقوف عند دولهم في بعدها الحضاري، الذي يضمن صيرورتها وديمومتها إلى اليوم. وهو الأمر، الذي لم ينتبه إليه رواد المدرسة المنهجية، حين قيدوا أنفسهم بشكل "تعبدي" بالوثيقة جاعلين منها خلاصهم المنشود. غير أن بروز مدرسة الأنال على السطح سيشكل لا محالة ثورة حقيقية داخل الكتابة التاريخية بطريقة يجعلها أقرب إلى الفكر من حيث تناول الأحداث والوقائع، إذ يرجع ذلك إلى توسيع مفهوم الوثيقة وانفتاح التاريخ على مجموعة من العلوم كالأنثروبولوجيا والأدب وعلم الاجتماع، التي أصبحت منهجيا علوما مساعدة للتاريخ، بل وأحيانا تغدو المرجع الوحيد، الذي يمكن المؤرخ من الوصول إلى معلومة ما، ونحن لا ننسى هنا الدور الكبير الذي لعبه علم الآثار  مؤخرا (يتعلق الأمر هنا بأقدم إنسان عثر عليه في المغرب مؤخرا) في تقدم المعرفة التاريخية من خلال دحض كل الأفكار، التي تشكلت منذ سنوات حول أقدم إنسان على الأرض.
كما ساهم انفتاح التاريخ على العلوم الأخرى في تنوع سديد في المقاربة التاريخية وفي جعلها تنحو صوب إستشكال قضايا ومفاهيم جديدة ذات بعد أنثروبولوجي كالصورة والجسد والمتخيل والطبائع والسلوكات البشرية كاللباس والأكل وكافة أنماط العيش التي يدرس علم الأنثروبولوجيا، الذي قال عنه مقاربته عبد الله العروي، حين تصدى للحديث عن المنهج التاريخي في كون أن "الانغماس في الأنثروبولوجيا أي البقاء في حدود اللاتاريخ" (1). بل وفي الكثير من الأحيان، يوجه العروي نقذا لاذعا وأحيانا بصيغة الاتهام والاحتقار لكل الأصناف، التي يدرسها هذا العلم، كالثقافة الشعبية مثلا، معتبرا إياها (المقاربة الأنثروبولوجية) لا تسمو إلى المقاربة التاريخية في دقتها، لأن المقاربة الأولى في نظره "خارجية" والمقاربة الثانية هي الأنسب لكل الشعوب التي خرجت من براثن الاستعمار. لكن في مقابل ذلك، نجد مفكرين مغاربة آمنوا بنجاعة المقاربة الأنثروبولوجية في فهم بعض القضايا والإشكالات التي تعتور تقدم الحضارة العربية المعاصرة وفهم بعض أعطابها وسلوكياتها ومتخيلها ومكبوتاتها الجنسية وبعض أنماط تفكيرها، وأحيل هنا على سبيل المثال لا الحصر إلى عبد الكبير الخطيبي (الاسم العربي الجريح) وعبد الله حمودي (الشيخ والمريد والضحية وأقنعتها) وغيرهما من المؤلفات، التي راهنت على الأنثروبولوجيا كبديل للمقاربة التاريخية، لكن دون أن تنفيها، بشكل يجعلهما متحدتين ومتصلتين بشكل أفقي.
هكذا نرى أن قيمة كتاب المؤرخ الطيب بياض تكمن في حرصه الشديد على تكسير المألوف منذ سنة 2013 بمجلة "زمان" جاعلا من التاريخ الراهن أفقا للتفكير والمساءلة عبر لغة أدبية سلسة، معتمرا فيها قبعة فيبر ومرتديا عباءة بروديل، متفاعلا مع قضايا محيطه، موثقا الأحداث والتحولات التي طالت المجتمع المغربي بطريقة تجعله أشبه بالصحافي (مؤرخ اللحظة على حد تعبير ألبير كامي) لكن دون أن يتنازل عن حسه الأكاديمي من خلال تعلقه الدائم بالمنهج ونوعية المقاربة التاريخية، التي تحتكم إليها مقالات الكتاب. فهو يقوم بتشريح المفاهيم والأحداث محاولا منحها دلالات أخرى، محررا إياها من مضامينها القديمة، حتى يدب فيها حياة جديدة، وهي إحدى صفات المؤرخ المعاصر الناجح، الذي يظل مدينا لمنهجه ولنوعية مقاربته في طرائق تفسير الأحداث وفهم أسبابها وعللها. يقول العروي في هذا الصدد "لا يمكن للمؤرخ المعاصر، الوفي للمنهج التاريخي، أن يكتفي بالمفاهيم التقليدية لأن التاريخ كما يفهم الآن مبني على مفاهيم الدولة والمجتمع والطبقة. لكن واجب المؤرخ أن لا يتقيد بالأنماط التعليلية الجاهزة. عليه أن يفككها وأن يحرر كل مفهوم من المضامين الجامدة المضمنة فيه. بعبارة أخرى عليه أن يأخذ المفهوم وهو مفتوح يتحمل التعيين ويستعمله بكيفية إشكالية، أي لطرح المشكلات ولفتح طرق جديدة للبحث والتنقيب عن الوثائق" (2).

الهوامش:

  1. عبد الله العروي، ثقافتنا في ضوء التاريخ، المركز الثقافي العربي، بيروت، الطبعة الثالثة، 1992، ص 52.
  2. نفس المرجع، ص 47.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.