}
عروض

رواية "سلطة أصابع": الثورة السوريّة وتحوّلات الأنثى

ضاهر عيطة

19 أغسطس 2019
يتناول ثائر الزعزوع في روايته "سلطة أصابع" موضوعة الثورة السورية من جانب مختلف عما هو مألوف عادة في مسار أحداث كهذه، فهو يبتعد قدر ما يستطيع عن السياسة، راصداً عوالم إنسانية دفينة، بالكاد يُلتفت إليها في خضم الانعطافات التاريخية، وبعين خبيرة يغوص في عمق التحولات العاطفية والنفسية والفكرية الناتجة عن مجريات أحداث الثورة، وما تركته من آثار في بنية المجتمع السوري، جاعلاً منها منطلقاً لتشريح الثورة، وجاعلاً من تيمة الثورة منطلقاً لتشريح العلاقات الأسرية، فيرصد حياة عائلة دمشقية، لها حضور فني وإبداعي واقتصادي، في الأوساط الاجتماعية السورية، فالأب جاد ممثل مشهور، والأم سلوى فنانة تشكيلية، لكن تبقى شخصية الابنة مها محورية في مسار أحداث الرواية، إلى حد أن طريقة رسمها وبنائها مكنتها من أن تجسد الثورة تجسيداً يكاد يكون أنثوياً، فنستشعر من شفافيتها ورقتها، شفافية ورقة الثورة السورية في أشهرها الأولى. فقد عكست شخصية مها الحالة السورية قبل انطلاق الثورة، من كونها فتاة مسلوبة الإرادة، ولا تكاد تعي ذاتها إلا إذا ما قضت ساعات طويلة أمام المرآة، ثم تأتي تجربة زواجها، لتكشف عن مدى انسحاقها ودونيتها، ويتضح ذلك كلما هم زوجها أن يطأها، وكأنها ليست إلا فريسة، أو أداة لتفريغ الشهوات، مما ساهم بمضاعفة اغترابها عن محيطها الاجتماعي والأسري، وفي الوقت الذي انطلقت فيه نفحة الثورة السورية والهتاف للحرية، كان قد استيقظ في أعماق مها شغف متعاظم للبحث عن معنى وجودها، خلافاً لبحثها السلبي والمتردد، قبل وبعد تجربة الزواج، وقد استهلك سنوات طويلة من عمرها، غير أنها لا تبلغ ما تشتهيه روحها، إلا حينما تقترب من عوالم الثورة السورية،
فتهجر بيت زوجها، وترحل عن أطفالها عائدة إلى بيت أهلها في دمشق، باحثة هناك عن هامش للحرية، فتلتقي بقريبها يوسف، الشاب الذي يصغرها ببضع سنين. ومن خلال يوسف وحكاياته عن الثورة تتوالد مشاعر وأحاسيس لم يسبق لمها أن عاشتها من قبل، فالمغامرات والتضحيات التي يقوم بها الشباب والشابات الثائرون في ساحات وشوارع سورية، تحدث انقلاباً جذرياً في وعيها، منتزعة منها التردد والخوف والجبن، لتمنحها طاقة على المبادرة والفعل، وتتنتابها نشوة عارمة، إلى حد أنها تغرم بيوسف، فالثورة هنا كانت قد ملأت الفراغات في تلافيف حياتها، وأضافت إليها معاني وقيما جديدة، فالثورة لم توقظ الجانب الأنثوي والعاطفي في أعماقها وحسب، وإنما أيقظت كذلك الجانب الإبداعي والفكري، فراحت مها تخط مقالات تتحدث عن عنفوان الشباب، وتوقهم للحرية، وعن معاناتهم في ظل القبضة الأمنية التي راحت تعمل فتكاً بهم.


التماهي مع الأمهات
هذا التحول في بنية الشخصية، مهد لتأجيج صراع أمومي في أعماق مها، يتمحور حول اشتياقها لطفليها من جانب، وانجذابها لعوالم الثورة من جانب آخر، وكأن الزعزوع أراد أن يشير من خلال هذا التفصيل الى أن مها، تتماهى مع الأمهات اللاتي قدمن فلذات أكبادهن فداء للثورة.
وتأكيداً على تلك التحولات التي عصفت بشخصية مها، عنون الزعزوع فصول روايته بمها الأولى، ومها الثانية، والثالثة، والرابعة، وهكذا كنا نلمح كيف تنتقل هذه الشخصية من حال إلى حال، فبينما هي فتاة انطوائية، تميل للعزلة، وتفتقر للإرادة، غدت مع الثورة شخصية شديدة الثقة بنفسها، وتعرف تماماً ما تريد، حتى وإن ترك ذلك مسحة سوداء على حياتها وأسلوب

تفكيرها، خصوصاً بعد تجربة الاعتقال التي تعرضت لها، والتي كانت مؤشراً على ضريبة الوعي والحرية في أوطاننا، فقد شكلت هذه التجربة قفزة نوعية في التحول الذي طرأ على مها، إذ ترك آثاراً تتناقض تماماً مع تلك التي أحدثتها الثورة، فهنا يتم مسخ كيانها وأنوثتها، ما أظهر البون الشاسع بين رحابة الثورة، وهمجية القمع والتعذيب، ففي حين بدت مها وهي تتفاعل مع حكايات يوسف عن الثورة، مثالاً ورمزاً للأنوثة، تتحول في المعتقل إلى كائن سلبت منه كل معاني القيم الإنسانية والجمالية والفكرية. كما أن التحول الذي طرأ على شخصية يوسف، وظهوره على الإعلام السوري، مشيداً بانتصارات الدولة، كما أخبرها بذلك صديقها رامي، أحدث شرخاً كبيراً في أعماقه، سيما وأنها على يدي يوسف، كانت قد طرقت أبواب وعيها وحريتها. وما تجدر الإشارة إليه أن انحياز يوسف على هذا النحو، كان نتيجة للتحريض الذي مارسه جاد، والد مها، عليه، فعلى الرغم من أن جاد كان قد اعتزل التمثيل، في أوج مراحل نجوميته لمجرد أن طلب منه التحدث على التلفاز السوري عن خصال الأسد الأب أثناء مرضه، فضل اعتزال التمثيل على أن يقدم على خطوة كهذه، نظراً لكرهه الشديد لحافظ الأسد، جراء ما فعله هذا السفاح في حماة في فترة الخدمة العسكرية، ولكن حينما اعتقلت ابنته مها، ومورست عليه ضغوطات أمنية هائلة، تشوهت روحه وفكره، فتحول من أب كاره لسلطة الأسد إلى متملق لهذه السلطة.


راوٍ مطلع على
خفايا الأمور
ما يلفت الانتباه في رواية "سلطة أصابع" وجود راو مدرك للأحداث، ولمصائر الشخصيات، وآلية تفكيرها، فهو المطلع على خفايا الأمور، ورغم حرصه على عدم المشاركة في مجريات الأحداث، كان يعمد بين الحين والآخر إلى وضع ملاحظات وتفاصيل توضيحية، في الهوامش، مما أضفى على الرواية أبعاداً جمالية وواقعية، تواءمت مع سياق الأحداث، وجعلتها بمثابة

وثيقة تتحدث عن امرأة أتت الثورة لمحاكاة أعماق روحها التواقة للحرية، غير أن كثرة الأصابع التي امتدت الى رحم الثورة، أدت إلى تشوه مضامينها، وحرفها عن المسار الذي حلم به أبناؤها.
في الخاتمة، يقفز الراوي إلى المستقبل، إلى عام 2030 ويشارك هنا في صيرورة الحدث، حيث يعود هو ومها ومجموعة من الأصدقاء الى سورية، بعد هجرة دامت فترة طويلة في أوروبا، لكنهم مع عودتهم يشعرون بأنهم لا يستنشقون الهواء الذي عهدوه في وطنهم، حينما كانوا شباباً، ولا يهتدون إلى طرقاته وشوارعه وعناوينه، فقد كان الدخلاء والأصابع القذرة قد لوثوا الهواء، ومزقوا خارطة سورية، غير أن روح الأنثى ظلت تنهمر كما المطر في ثنايا سطور رواية ثائر الزعزوع، تلك الأنثى التي تشكّل المعادلة الموضوعية لروح الثورة التي لا تنطفئ.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.