}
عروض

"قصّة الخطوط": الحياة كمسارات متقاطعة

سارة عابدين

8 يوليه 2019
الخط كأسطورة

العالم يبدأ بنقطة، ويقع بالكامل بين نقطتين. العالم عبارة عن خط، والحياة عبارة عن خط. تنمو الخطوط وتصبح مدناً ومسارات. الكتابة تتبع خطاً وتنتظم في سطور، الأرقام خطوط، الأحرف خطوط، مسارات الضوء خطوط.
في كتابه "قصّة الخطوط" الصادر مؤخراً عن هيئة البحرين للثقافة والآثار، يتناول المعماري الإيطالي مانليو بروزاتين تاريخ الخطوط في الحضارات المختلفة وطرق تواجد الخطوط المختلفة في الحياة، ليكتشف القارئ من خلال متابعة الكتاب، أن الحياة بالكامل عبارة عن خطوط متشابكة، بحاجة فقط إلى من يفك ذلك التشابك.
في ذلك الفصل من الكتاب يستعيد بروزاتين أساطير الخطوط، وكيف أن لكل حركة أساسية في الحياة سلطة سحرية تربطها بالخط الناتج عن الحركة في تجريده البدائي. وكيف أن على الفرد في لحظات معينة من حياته، أن يتقدم متحررا من كل العقد والثنايا مثل خط مستقيم. ويستعيد هنا أساور العشاق المضفورة بخيوط والتي بمقدورها تحقيق رغباتهم في البقاء معا، طالما العقدة مربوطة حول معصمهم مثل (عقدة غورديو) الأسطورية، وهي أسطورة قديمة تحكي أنه عندما شيد الفريجيون مدينتهم في الأناضول، قال لهم العراف إن من يدخل على عربة يجرها ثوران سيحكمكم. فجاء فلاح فقير اسمه غورديو نصبوه ملكا، ومنحوا اسمه للمدينة (غورديوم). بعد وفاته أهدى ابنه العربة للإله زيوس وربطها بحبل غليظ من لحاء الشجر إلى عمود بعقدة لم يستطع أحد حلها إلى أن جاء الإسكندر المقدوني وفعل ذلك.

الخط كنسيج ومتاهة
في ذلك الجزء من الكتاب يتتبع بروزاتين الخط كنسيج، ذلك الخيط المضفور أو المنسوج، ويحث القارئ على مراقبة العقد المحكمة لسجادة ما، وكيف تتحول تلك العقد إلى أشكال

وخطوط. ويراقب الاختلاف في ملامس تلك الخطوط بين خشونة السجاجيد الصوفية ونعومة الكتان المصري، والفارق بين إيقاعات وتحرر كل مجموعة من الخطوط أو انغلاق وتعقد مجموعة أخرى، لتتحول السجادة أو قطعة النسيج إلى متاهة رمزية، تتقاطع مع متاهات عقل الإنسان، أو ماندالا تحمل العديد من الرموز الميتافيزيقية تبعا لتصور كل شخص.
استكمالا لفكرة المتاهة الناتجة عن تشابك الخطوط، يستعيد بروزاتين المتاهات التي رسمت وكتبت على أحجار الكاتدرائيات القروسطية كأختام بسيطة عن الأخوة البنائية التي شيدت المبنى، والتي كان أعضاؤها حريصين كل الحرص على ألا يطأوا تلك المتاهات السحرية، التي تستند إلى أساطير غيبية تدعم ذلك التشابك المركب.
يذكر بروزاتين فنان عصر النهضة ليوناردو، وكيف كان يخضع النقطة الناتجة عن الرسم إلى المقارنة بالزمن ولحظته، ليصبح الخط جزءا من الزمن، وما دامت النقاط تمثل بدايات الخطوط ونهاياتها، فاللحظات هي نهاية وبداية كل مدى زمني. واليد التي تتقفى وتثبت خطأ ما تقبض على الزمن وتمنحه شكلا، ليتحول الخط إلى جوهر لحظة زمنية.
مع نهاية القرن السادس عشر لم يعد الحماس للرسم مصحوبا بنفس الحماس المتأجج للمنظور، وظهر ما يسمى بالرسم الخارجي والرسم الداخلي وظهرت المقارنة بينهما، الرسم الداخلي كمفهوم يتشكل في العقل لمعرفة الشيء المدرك أو المرسوم شكلا وفكرة وتعبيرا وخيالا، والرسم الخارجي الذي بنيت أعماله على الرغبة الموجهة والقصد دون الاهتمام بالخيال والاهتمام فقط بمحاكاة النموذج.

الخط في الفن والفلسفة والعمارة
عند نهاية القرن السابع عشر أصبح الخط يمثل خرائط المعارك في الحروب، وأصبح تنظيم الجيوش يتم وفق ترتيب حربي لجيش يتشكل من ثلاثة خطوط: الطلائعي، الجسم الرئيسي، المؤخرة. تكون المسافة بين الخط الأول والثاني 150 خطوة، و300 خطوة بين الثاني والثالث، لتسهيل إعادة التنظيم.
شهدت الصناعة الأوروبية إعادة تنظيم بنفس الطريقة، حيث أصبح النساج كما لو أنه جندي مستجد لتنفيذ الخطة، يرسم التصميم فوق ورقة مقسمة إلى مربعات، ويبدأ في التنفيذ وفق قانون يمثله الرسم لضمان النتائج النهائية. يمثل الرسم في هذه الحالة وفي العديد من الفنون الحديثة مثل الخزف والموضة، التوصيف الوحيد لتلك العمليات، والمصمم هنا ليس بالحرفي، إذا أن الحرفي القديم يبقى مقيدا ثقافيا ومكانيا وفق التقاليد القديمة للصناعة، والأدوات البدائية، بينما المصمم الصناعي الحديث يترجم معلومات فنية وحرفية، مختلفة ليصنع من خلالها سوقه الخاصة.
يستعيد بروزاتين بعد ذلك خط الجمال لدى الرسام والحفار الإنكليزي وليم هوغارث، وهو ما يمثل الخط الأفعواني الملتوي أو المتموج، والذي يعمل على إثارة انتباه المتفرج، كتضاد مع الخطوط المستقيمة المتوازية التي ترسخ للجماد والثبات، في الوقت نفسه الذي حطم فيه الفيلسوف البريطاني جورج بيركلي فكرة المادة واعتباره أن العالم مجرد فكرة في إدراك البشر، وكذلك المسافة ليست خطا، إنما رغبة في إدراك وفي إبعاد وتقريب الأشياء.
يقول بروزاتين "الخط للمعماري كالألوان للمصور، والصور للنحات". يحلل بروزاتين في ذلك الجزء علاقة المعماري بالخطوط، وكيف تتحول الفكرة في رأسه إلى خطوط على الأوراق، ثم

إلى مادة وحجر وطراز. عن طريق نقطة صغيرة يصبح هناك بيوت وحياة وأوطان. في الأساطير الأوروبية القديمة، يخشى المعماري إكمال عمارته كما يخشى الموت. وكأن حياته ستنتهي حالما يكتمل البناء. لذلك وجب أن تكون حياته التي سيضحي بها نظير إبداع متفرد، لا يمكن تكراره تماما كما لا يمكن تكرار الخلق. وبعد ذلك يبدأ المعماري حياة جديدة، بعد أن يمحو كل أثر قديم له، إذا قدر له الاستمرار في الحياة.

الخط كمشترك في الحياة
ربما لم يلتفت القارئ من قبل إلى تشعب وجود الخطوط في حياتنا وتراثنا الثقافي والحضاري والإنساني، وفي ممارستنا اليومية العادية. إلا أن قراءة ذلك الكتاب تفتح أبواباً كثيرة لمراقبة وتتبع الخطوط، وما هي الأشياء المشتركة بين النسيج والرسم والكتابة والحياة. يمضون جميعا على طول الخطوط. خطوط مترابطة أو متشابكة. قديمة أو معاصرة. من الصعب التخلي عن مراقبة الحياة والأشياء حولنا لفترة طويلة بعد قراءة هذا الكتاب. يبدأ القارئ في تتبع حياته وحكاياته الشخصية وأدواته وأفكاره، ليكتشف أن البشر وجميع المخلوقات والموجودات، تقوم بتكوين خطوط ومسارات طالما استمروا في رحلة الحياة التي هي أيضا عبارة عن خطوط ومسارات.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.