}
عروض

"سنوات الأزمة".. من النكسة إلى أيلول الأسود (2/1)

حسام أبو حامد

26 يوليه 2019
في أبريل/ نيسان الماضي، وعن سلسلة "ذاكرة فلسطين" في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، صدرت الطبعة الأولى من كتاب "يوميات أكرم زعيتر: سنوات الأزمة (1967- 1970)"، إذ يحتفظ المركز، بالإضافة الى رسائل زعيتر المتبادلة مع العشرات من الزعماء والأدباء والقادة، بيومياته التي دونها بخط يده وتغطي الفترة ما بين عامي 1949 و1984، يعمل المركز على تحقيقها ونشرها تباعا، وقد قام بإعداد هذا الجزء من اليوميات التي تغطي فترة تمتد ثلاثة أعوام كل من: معين الطاهر، نافذ أبو حسنة، وهبة أمارة.
ولد أكرم زعيتر في نابلس عام 1909، ودرس الابتدائية فيها ليكمل دراسته الثانوية في كلية النجاح، ثم انتسب إلى الجامعة الأميركية في بيروت، ليلتحق بعدها بكلية الحقوق في القدس. درّس في ثانويات نابلس، لكنه استقال إثر اندلاع ثورة 1929 بعد تنكيل الاحتلال البريطاني بالثوار العرب، ليتفرغ للعمل في الحقل الوطني، فعمل في الصحافة، وترأّس عديد من الصحف. ونتيجة عمله الصحافي قبض عليه عدة مرات في فترات مختلفة، نفي بعد أول اعتقال عن نابلس عاماً كاملاً، وبعد تنقل عاد إلى نابلس، وأسس حزب الاستقلال العربي.
شارك زعيتر في تأسيس عصبة العمل القومي في سورية، وكان نائباً لرئيس مؤتمرها التأسيسي الذي انعقد في بيروت عام 1933. رحل الى العراق، وهناك شارك في ثورة رشيد عالي الكيلاني العام 1941، ثم إلى سورية بعد الاستقلال ليصبح مستشارا للرئيس شكري القوتلي. توفي في منزله بعمان إثر إصابته بسكتة قلبية يوم الخميس في الحادي عشر من نيسان/ أبريل سنة 1996 تاركا وراءه إرثا هاما من مؤلفات في التاريخ، وتاريخ الحركة الوطنية
الفلسطينية، ويومياته التي عنى بكتابتها منذ ثلاثينيات القرن الماضي.
كان زعيتر مثقفا واسع الاطلاع وديبلوماسيا ربطته بالساسة علاقات جيدة، وخلال سنوات الأزمة كان زعيتر عضواً في مجلس الأعيان الأردني، ثم وزيراً للبلاط عقب حرب حزيران/ يونيو 1967، مما مكنه من تقديم الكثير من الوقائع، والوثائق، التي نقلت ما دار في كواليس بلاط الملك الأردني، وغيره من الزعماء العرب، والنشاط الديبلوماسي العربي، تأكيدا للمعلن منها، وكشفا للمخفي، وتوضيحا وتفسيرا للمسار الذي اتخذته الأحداث عشية الهزيمة وخلالها، وما أعقبها من نتائج، وتداعياتها فلسطينيا وأردنيا وعربيا، مروراً بتصاعد حركة المقاومة الفلسطينية بعد حرب 67، واصطدامها بالنظام الأردني في أيلول/ سبتمبر 1970.

عشية النكسة
توقع العرب حربا مع إسرائيل العام 1967، ولكنهم تفاجأوا بها في الوقت نفسه، ولم يوفّق العرب لا استراتيجيا ولا تكتيكيا في تلك المواجهة. ويضع زعيتر يده في يومياته التي دوّنها على بعض أسباب ذلك الفشل، وسجل في مفكرته قبيل الحرب خشيته من انكسار جديد تتصاغر أمامه هزيمة العام 1948، فبالرغم من أن الجميع توقع الحرب وكانت الحماسة لها تفوق الوصف، تساءل زعيتر عن حقيقة التعبئة العامة المعلنة، والتي يفترض أن يمارس فيها كل فرد دوره في الكفاح، أما في الواقع فكان الجميع، باستثناء القوات المسلحة، والدفاع المدني، قد حصر جهده في حمل أجهزة الراديو وادخار المؤن. ووجد في التصريحات النارية غير المدروسة، لبعض القادة والزعماء العرب، حافزا لأميركا، وغيرها، لدعم إسرائيل، ومدها بالسلاح، من ذلك أن عبد الناصر في خطاب له في 4/ 6/ 1967، عقب حفل توقيع اتفاقية الدفاع المشتركة بين كل من الجمهورية العربية المتحدة، والأردن، والعراق، رفض دعوة قوات الطوارئ الدولية، وقال للقلقين على حرية الملاحة في خليج العقبة أن العرب استعادوا حقوقهم فيه، وأنهم على أحرّ من الجمر بانتظار معركة الثأر من غدر 1956. أما مصطفى طلاس، وقبل خطاب عبد الناصر بيوم، وكان حينها قائدا للمنطقة الوسطى في سورية، فصرّح أن باستطاعة سورية ومصر القضاء على إسرائيل في 4 أيام.
استهجن زعيتر مهاجمة الإذاعة السورية للملك حسين، وتساءل عن جدّية الحاكمين في سورية بمحاربة إسرائيل "وقد أطلقوا أبواقهم تلك"؟ كما أدرك زعيتر في حينه خطورة الفكرة التي تزعّمتها مصر في تقسيم الدول العربية إلى رجعية وعميلة وخائنة، وأخرى ثورية تقدمية تحررية، ورأى فيها تفرقة بين العرب، وبعثرة لجهود المواجهة مع إسرائيل.

ستة أيام من الحرب
يدوّن زعيتر في يومياته التناقض في البلاغات بين الإذاعات العربية التي أوحت تقاريرها بانهيار إسرائيل امام الضربات العربية المتصدية للعدوان، وبين بلاغات الإذاعة الإسرائيلية، التي تبين في النهاية أنها كانت أكثر مصداقية بكثير في نقلها لمجريات المعارك. ففي التاسعة الا عشر دقائق أعلنت "صوت العرب" بدء إسرائيل هجوم على مصر، وبدأت البلاغات التالية تبشّر بالنصر، وتحصي خسائر بالعشرات لسلاح طيران العدو، بينما أعلنت الإذاعة الإسرائيلية أنها شنّت غاراتها في التاسعة صباحا على جميع أنحاء الجمهورية المصرية، وأنها في العاشرة إلا ربع أسقطت عشر طائرات مصرية من نوع ميغ 21، وأبادت عددا كبيرا من الطائرات المرابطة في المطارات المصرية، وأعلنت في العاشرة والدقيقة 47 أنها دمّرت 120 طائرة مصرية دون أن تنجح طائرة مصرية واحدة من اختراق الأجواء الإسرائيلية. سارت باقي الإذاعات العربية على خطى الإذاعات المصرية وأسلوبها، وعلى عكس ما أذاعته "صوت العرب" صباحا من أن إسرائيل على وشك أن تمحى من الخريطة، جاء البلاغ الرسمي

المصري عن المعارك بلهجة ومحتوى وأسلوب مغاير، مكتفيا بإعلان إسرائيل بادئة بالعدوان، وأن عليها تحمّل العواقب.
في اليوم التالي (6/ 6/ 1967) استيقظ زعيتر على إذاعة القاهرة تتحدث عن أميركا وتواطؤها مع إسرائيل، فاستشعر من هذه النغمة الجديدة أن ميزان القتال بدأ ينقلب لصالح إسرائيل، وادّعت القيادة العليا للقوات المسلحة المصرية أن لديها ما يثبت اشتراك أميركا وبريطانيا في العدوان الجوي، وأن القوات المصرية تخوض معارك ضارية، لكن طبعا على أراضيها. في الساعة الثانية عشرة والدقيقة 45 أعلن الناطق بلسان الجيش الإسرائيلي أنه تم احتلال غزة، ووجهت الإذاعة الإسرائيلية نداء إلى المناطق التي يتقدم نحوها الجيش الإسرائيلي، بأن يعلّق سكّانها قطعة قماش بيضاء فوق البيوت تعبيرا عن الإذعان لتعليمات الجيش الإسرائيلي.

كواليس الحرب وكواليس السلام
يكشف زعيتر بعضا مما أخفته كواليس السياسة، التي نقلها عن لسان الملك حسين، وغيره من المسؤولين الأردنيين والعرب، والتي إما كان شاهدا عليها بنفسه، أو نقلها عن معاوني الملك المقربين. عكست تلك الكواليس تناقضات السياسة المصرية بين ما تعلنه وما تسعى إليه من تحت الطاولة، من ذلك أن الملك حسين أخبر معاونيه أنه بعد موافقة الأردن على قرار مجلس الأمن لوقف القتال، بالاتفاق مع مصر، أعلنت مصر بلسان جمال عبد الناصر أنها لا توافق على القرار في برقية تلقاها الجانب الأردني، أعقبتها برقية أخرى للمشير عبد الحكيم عامر ترجو الأردن ألا يقطع علاقاته الديبلوماسية مع أميركا وبريطانيا، وأن يبذل جهده في وساطة ودية لديهما للضغط على إسرائيل، وحملها على وقف القتال، إذعانا لقرار مجلس الأمن.
وعن زيد الرفاعي سكرتير الملك، ينقل زعيتر أن هواري بومدين أبلغ الملك حسين أنه تلقى من ناصر صباح 5 حزيران/ يونيو برقية يعلمه فيها أنه تم تدمير الطيران المصري، مستنجدا به، وأن بومدين أرسل له 60 طائرة، وأن ناصر أطلع السوريين على ذلك لكنه أخفاه عن الأردنيين طيلة نهار ذلك اليوم، بل أبلغهم أن القوات المصرية سحقت القوات الإسرائيلية، ملحا أن عليهم احتلال أرض تمهيدا لتلاقي القوات الأردنية والمصرية في بئر السبع، حينها طلب مستشارو الملك منه التريث، وأن ينتظر وصول ناصر أولا إلى بئر السبع، وكانوا محقين في تلك النصيحة. كما أن الملك كشف عن معلومات لديه تقول إن ناصر أبلغ المبعوث الأميركي أن لا علاقة له بغزة، وتهمه سيناء فقط، وليس لديه من مانع بشأن تقسيم القدس إلى أقسام ثلاثة، وأنه حين عرضت أميركا على ناصر وقف القتال فورا مع تراجع إسرائيل إلى حدودها قبل 5 حزيران/ يونيو مقابل أن يفتح ناصر خليج العقبة حتى تبتّ محكمة العدل الدولية في الموضوع، رفض ناصر.
ويضيف زعيتر أن الملك الأردني حمّل إذاعة صوت العرب المسؤولية عن قصف القوات الإسرائيلية للجيش العراقي، ففتكت بكثير من أفراده، حين كشفت تحركاته في طريقه إلى الأردن، وأشارت إلى مواقع تمركزه فيه. كما نقل زعيتر عن سكرتير الملك زيد الرفاعي استغرابه من إصدار ناصر أوامرا لقواته بالانسحاب من سيناء، بعد ساعة ونصف ساعة من ضرب قواته الجوية، على حين كان يحرّض الأردنيين على المقاومة. أما بعض أسباب الخسارة الفادحة التي تلقاها العرب في تلك الحرب التي بينها الملك حسين: أن الامدادات العراقية لم تكن كافية، والأسلحة كانت من دون ذخائر، كما أن المعركة بدأت وانتهت دون أن تصل القوات السعودية، ورفضت سورية نجدة الأردن بغطاء جوي وضاعت استنجادات ناصر بسورية سدى. معاونو الملك شاركوه المرارة من موقف الكويت السابق من الأردن، وإحجامه عن مساعدته لاستكمال استعداداته العسكرية حتى حلت الكارثة، وتبيّن أنه بعد إعلان الكويت خلال الحرب قطع امدادات النفط عن الغرب، أبلغ مسؤولون كويتيون السفير الأميركي أن قطع النفط مؤقت قد لا يتجاوز مدة أسبوع.

الدولة والثورة: تعارض بين منطقين
بعد فشل مشروع الوحدة العربية الذي حمل عنوان "الجمهورية العربية المتحدة" عام 1961م

أصيبت الشعوب العربية والفلسطينية بخيبة أمل جديدة. وربما عوّل الفلسطينيون أكثر من غيرهم على الوحدة العربية كطريق لتحرير فلسطين. هذا الإخفاق دفع الفلسطينيين إلى استبدال شعار "الوحدة طريق التحرير" بشعار "التحرير طريق الوحدة". تعزز هذا التوجه بعد هزيمة العام 1967 التي كانت فشلاً ذريعاً لحركة التحرر العربية ممثلة بالمشروع القومي الناصري، وكان على حركة التحرر الوطني الفلسطيني العتيدة أن تطرح نفسها كبديل ثوري حقيقي لحركة التحرر العربية المهزومة، وبدأ الوعي الفلسطيني يقر بضرورة انتزاع المبادرة من أيدي الأنظمة العربية، وألا يكتفي بحالة الانتظار التي عممت كأيديولوجيا عربية رسمية طالبت الفلسطيني بالانتظار ريثما تقوم الجيوش العربية النظامية بتحرير فلسطين وإعادته إلى أرضه. اعتبر العام 1965 لحظة الانطلاق الحقيقية للثورة الفلسطينية والتي قادتها حركة التحرير الوطني الفلسطيني التي عرفت اختصارا بحركة "فتح".
بدت "فتح" تيارا فلسطينيا معتدلاً(*)، لكن "الاعتدال الفتحاوي" لم يسيطر على الموقف، وما انتصر فلسطينياً في "أيلول" كان نظرية اليسار الفلسطيني ومفهومه حول الثورة المضادة. بينما ساد عربياً منطق التهديدات "الكيسنجرية" بتصفية أي نظام عربي يتساهل في تصفية الثورة الفلسطينية. وكان على منظمة التحرير وقواتها أن تخوض أول مواجهة عسكرية مع نظام عربي بعد تردد حال دون الاستعداد الكافي للمعركة.
بدأ نهج الكفاح المسلح يلقى الكثير من المعوقات التي تداخل فيها الذاتي والموضوعي، لا سيما حين يتعارض منطق الثورة ومنطق الدولة وحينما يصبح من الصعب ضبط العسكر والسيطرة على فوهات البنادق في ظل اضطراب تنظيمي وتضخم الأجهزة العسكرية لهذا الفصيل أو ذاك واستقلالها في أحيان كثيرة عن البنية التنظيمية الأم والقيادة السياسية، وفي ظل غياب التنسيق والقيادة الموحدة للأجنحة العسكرية التابعة للفصائل المختلفة، وعدم الاتفاق بين الفصائل المسلحة على شكل وأسلوب العنف الثوري بل وحتى على توقيته وحدوده، بل بقي السلاح الفلسطيني في حالة من الفوضى يجوب الشوارع جيئة وذهاباً وبشكل علني ومكشوف. وكانت الدول العربية موزعة بين متقاعس عن مواجهة العدو الإسرائيلي وأخرى، وإن لم تكن كذلك، فإنها لا تملك الإمكانيات اللازمة لهذه المواجهة. وفي كلتا الحالين لم تكن أي من الدول العربية راغبة في ترك زمام المبادرة في يد الفصائل الفلسطينية لتحدد زمان ومكان المواجهة، خصوصاً في وضع ديمغرافي يشكل فيه الفلسطينيون أكثر من 60% من مجموع السكان.
بالعودة إلى يوميات زعيتر، فإنها تعكس قلقا أردنيا مبكرا من الوجود الفدائي الفلسطيني، ففي اجتماع للملك في 10/ 9/ 1967 مع ضباط جيشه، دار الحديث عن إصلاح القوات المسلحة، وإعدادها لخوض معركة جديدة تبدو قريبة في حال فشلت مساعي السلام في استعادة الضفة الغربية. وأبدى الملك قلقه من نشاط الفدائيين الفلسطينيين، وأنه في غير أوانه، لأنه يعطي فرصة لإسرائيل لعدوان جديد، والفتك الانتقامي بأهل الضفة الغربية. كما ينقل زعيتر عن الملك في 13/ 2/ 1968 أن الفدائيين تقاطروا إلى الأردن واتخذوها نقطة انطلاق للقيام بعمليات في الأرض المحتلة ثم يعودون إلى نقطتهم تلك، وأن السلطات السورية البعثية تشجعهم ليسرحوا ويمرحوا في الأردن بينما تبقى الأمور هادئة على الجبهة السورية، وفي مرتفعات الجولان المحتلة، وأن الملك رأى في "الرّك" على الأردن مؤامرة تحاك للقضاء عليه، فالإسرائيليون يعتبرون الأردن شريكا للفدائيين ويصدرون تهديداتهم له.  بعد ذلك

الاجتماع بأيام، قامت القوات اليهودية (يستخدم زعيتر غالبا تعبير " اليهود" ونادرا ما يستخدم "إسرائيل") بتنفيذ تهديداتها، فجرى تبادل قصف مدفعي على طول خط وقف إطلاق النار، وأغارت الطائرات الإسرائيلية على القرى، والمواقع العسكرية الأردنية، والمخيمات الفلسطينية.
تم وقف اطلاق النار بعد ساعات بوساطة أميركية، وفي اليوم التالي أرسل الملك حسين بخط يده مسودة خطاب، وأوعز الى وزير الإعلام لوضع الخطاب في قالب مناسب، أدرك زعيتر الذي اطلع على المسودة خطورة ما فيها من تعريض بالفدائيين، ومن إنذار لكل منظمة أو جماعة تعمل على أرض الأردن وهي غريبة عنه، وأنها ستسحق بشراسة، فمن شأن ذلك أن يثير على الملك نقمة كبيرة، وحملات من الداخل والخارج، وفيه اعتراف مجاني لإسرائيل بصحة مزاعمها حول انطلاق الفدائيين من الأراضي الأردنية، كما يفهم الخطاب في سياق الإذعان للتهديدات الإسرائيلية، وأن الهجوم الإسرائيلي حقق أهدافه. أذيع البيان بعد أن حاول زيد الرفاعي سكرتير الملك تلطيف عباراته الا أنه أبقى على روحه الجوهرية.
بعد إذاعة خطاب الملك (18/ 2/ 1968) صرح وزير الداخلية الأردني حسن كايد شاجبا بصورة رسمية أعمال الفدائيين، لكن رئيس الوزراء بهجت التلهوني أوعز إلى الإذاعة بالكف عن إذاعة هذا التصريح السيء. كان عدد من المسؤولين الأردنيين قد نصحوا الملك بالتنسيق مع الفدائيين، وأن جماعة فتح على استعداد لذلك (منهم وصفي التل)، لكن عرفات، يذهب زعيتر، لم يكن يرغب بلقاء الملك، أما وزير الأوقاف الأردني كامل الشريف فروى لزعيتر كيف التقى بعرفات، وتبين له أنه وجماعته مصرون على استمرار القتال، وأن القوات العراقية الملحقة بالجيش الأردني تشجعهم، وأنهم مستاؤون من رسالة الملك، ومن تصريح وزير الداخلية، ومن مدير المخابرات العامة الذي زج بعضهم في السجن. وردا على سؤال الشريف حول إصرار الفدائيين على إحراج الأردن مجنبين سورية ومصر إحراجا مماثلا، أجاب عرفات أن المراجع العليا في سورية ومصر تقول بأنها تستعد للدفاع عن نفسها، لكن الفدائيين لم يلمسوا هذا الاستعداد من جهة الأردن، وأن الشعب الفلسطيني متصل بالحدود الأردنية، أكثر مما هو متصل بالحدود السورية والمصرية. وفي مقابل قلق الشريف من قيام إسرائيل باحتلال الأردن ردّا على أعمال الفدائيين لم يبد عرفات تأثرا حتى لو احتلت إسرائيل كل البلدان العربية، فبرأيه "إما أن تحيا هذه الأمة، أو تموت، لأنها غير جديرة بالحياة".


معركة الكرامة
تحققت المعجزة، أو على الأقل هكذا أريد لها أن تكون في اللاشعور الجمعي الفلسطيني، في بلدة الكرامة، التي عسكرت فيه قوات من الفدائيين الفلسطينيين. هناك تمكنت المقاومة الفلسطينية بمساعدة الجيش الأردني من الصمود وصد عدوان للجيش الإسرائيلي، وإلحاق خسائر في صفوفه وآلياته. وبالرغم من الخسائر الكبيرة التي مني بها الجانب الفلسطيني فإن ذلك كان كافيا ليعتبر انتصاراً بالنسبة للفلسطيني صاحب الإمكانيات العسكرية المحدودة، لكن المسلح بعزيمة وإرادة قويتين. آنذاك كان كل ما يتعلق بالعزيمة والإرادة سلاحاً جباراً في وجه الاحتلال، وكان كفيلاً وحده بالتعويض عن أية إخفاقات عسكرية.
يتبين لنا من يوميات زعيتر أنه في 18/ 3/ 1968 أبدى الملك حسين قلقه من معلومات عن تحضيرات إسرائيلية تشبه التعبئة العامة، وأن الحشود الإسرائيلية قد تزحف نحو مرتفعات الجولان المحتلة ثم نحو إربد لتطويق الأردن، في وقت ترفض فيه سورية التنسيق معه عسكريا، وتنشغل مصر بجبهتها وشؤونها الداخلية، في ظل احتمال انسحاب القوات العراقية من الأردن بعد تنامي الخطر الشيوعي داخل العراق. يضيف زعيتر أن الملك أقر بوطنية الفدائيين الفلسطينيين وصدقهم، الا أنه يعتقد أن هناك عناصر خفية مدسوسة عليهم، تدفعهم إلى العمل

بأسلوب يوفر لليهود حجة للهجوم، ويحقق مكتسبات جديدة، كأن تحتل مرتفعات استراتيجية في الأردن تستقر فيها باعتبارها حدوداً آمنة لدولتها. وفي صبيحة يوم 21/ 3/ 1968 أعلنت إذاعة إسرائيل أن قوات الجيش الإسرائيلي بدأت عملية عسكرية ضد تجمعات "المخربين" القريبة من خط وقف إطلاق النار مع الأردن، وحمّل الناطق بلسان الجيش الإسرائيلي الأردن المسؤولية كونه لم يمنع عمليات أولئك "المخربين" انطلاقا من أراضيه، بل شجّعهم.
في الخامسة والنصف صباحا وفق الإذاعة الأردنية اشتبكت القوات الأردنية مع القوات الإسرائيلية المعادية لمدة 15 ساعة، وبلغت خسائر العدو وفق زعيتر: 45 دبابة، و25 مجنزرة، و27 آلية مختلفة، وخمس طائرات، وحوالي 200 قتيل. أما خسائر الأردن فبلغت عشرين شهيدا، ودمرت له عشر دبابات، وعشر آليات مختلفة، ومدفعيتان. ويورد زعيتر حوادث عن بطولات الجيش الأردني، وبسالة جنوده وضباطه، لكن تغيب حتى الآن تفاصيل عن مشاركة الفدائيين في المعركة وإسهاماتهم بها، ويكتفي زعيتر بأن يذكر كثرة شهدائهم ويحصي ستة وعشرين شهيدا دفنوا في أرض المعركة، وعشرين آخرين جرى في اليوم التالي تشييعهم في عمّان، لكنه يذكر هجوم الكيلاني على الفدائيين الفلسطينيين زاعما أنهم لم يحاربوا، منتقصاً من تضحياتهم، بينما رد عليه الرئيس التلهوني مهدئا بقوله "إن الأمة الآن في نشوة الانتصار، فلا يجوز أن نعكر عليها نشوتها"، وبدأ ينتظر من زعيتر الكلام لكنه سكت (وهو الفلسطيني الوحيد في ديوان الملك) معللا سكوته بأنه كان متألما مما قيل.

***

بعد معركة الكرامة، ستشهد فصائل العمل الوطني المسلح إقبالاً جماهيريا وشعبياً فلسطينياً وعربيا واسعاً، لكن نتيجة لتدفق أعداد الكبيرة على الفصائل الفلسطينية المختلفة لا سيما على حركة "فتح"، ستعاني هذه الفصائل من اضطراب تنظيمي نتيجة لكون البنية التنظيمية لتلك الفصائل غير مهيأة أصلاً لاستقبال هذه الأعداد الكبيرة، التي احتاجت إلى التأهيل والإعداد دفعة واحدة. وستكون تلك بداية لأهم الأزمات التي ستشهدها الفصائل الفلسطينية المسلحة، والتي ستتمثل في رجحان الجانب الكمي على الجانب النوعي في عملية الاستقطاب الجماهيري، وفي تضخم البنية العسكرية على حساب البنية التنظيمية السياسية لهذه الفصائل، وسيلعب هذا الخلل دورا هاماً في هزيمة "أيلول الأسود". وهو ما سنستأنفه لاحقاً في قراءتنا ليوميات زعيتر.

 

(*) كانت "فتح" قد قدمت نفسها كحركة لا كحزب سياسي، وتسلحت بفلسفة تجريبية لا عقائدية. ومع هذا الحياد العقائدي لم تقدم "فتح" مضموناً اجتماعيا واضحاً للثورة الفلسطينية بل اختزلته في شعار" الأرض لمن يحررها". وبالرغم من توجهاتها الإسلامية حمل خطابها العديد من مفردات توصف عادة بالتقدمية. ورأت "فتح" أنه ليس هناك من يمين ويسار في المعادلة الوطنية طالما أن ممارسة النضال الوطني المتمثل في الكفاح المسلح غير معنية بهذا الفارق. وكانت هذه المرونة العقائدية كافية لتحيّر خصوم الحركة قبل أن تحير كوادرها، فوصفها البعض بأنها جماعة من اليساريين المتطرفين في مرحلة البدايات، وفي مصر نعتت بالإخوان المسلمين، وصنفت أردنياً في خانة "العملاء الناصريين". ولقيت حركة "فتح" رواجاً واسعاً بين الطبقات الفلسطينية الأكثر فقراً والتي غلب عليها طابع التدين، لكن هذا لم يمنع من احتضانها لشرائح واسعة من الكوادر ذوي التوجهات العلمانية واليسارية والقومية. واقتنعت حركة "فتح" أن التناقض الرئيس عملياً هو مع العدو الصهيوني وينبغي تأجيل التناقضات الثانوية إلى مرحلة لاحقة، فاختارت سياسة عدم التدخل في الشؤون العربية وتوقعت أن يكون المقابل عدم تدخل الأنظمة العربية في الشأن الفلسطيني. واعتبرت أن تحرير فلسطين مسالة فلسطينية بامتياز، وأن الكفاح المسلح مبدأ استراتيجي لا مجرد مبادرة تكتيكية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.