}
عروض

"الحداد لا يحمل تاجاً" لعباس بيضون: الشعر يخاطب الموت

تغريد عبد العال

15 يوليه 2019
يذهب الشعر عميقاً في قلب اللغة وينحتُ ندوبه الخاصة. وفي مجموعة الشاعر عباس بيضون الجديدة "الحداد لا يحمل تاجاً"، يضع الشاعر تاجاً خفياً للموت ويتركنا نراه بعين أخرى.
الموت الذي أكل كثيراً من جسد الشعر، ليس غريباً أن يترك لنا جمالاً خاصاً في قصائد الشاعر الذي اعتدنا على لغته المتأمّلة والخافتة.
يحاولُ الشعر أيضاً أن يواجه الحقيقة، أن يستسلم لها لكنّه أيضاً يلامس الأكذوبة ويتحقق منها. يقول الشاعر: ليس صحيحا أن الضحكة تشفي/ وأن القهقهة تبقى تدوي في الجبل/ بعد أن تنتهي الأكذوبة ويصمت المكان/ أن روحا ضالة تفشي الأسرار. ينظر الشاعر إلى هذه المهزلة الكونية ويسخر منها، ويسأل: ما الذي يضحك في هذه القصيدة؟ وفي نهاية القصيدة يعترف بذاك الموت الذي يقابلنا كل يوم في الشارع فيقول: ثمة ملاك يموت في صدرك/ كلما قطعت الشارع.
يخاطب الشاعر فكرة الخلود، ويختلف معها، يسخر من أن الشعر لن يكون شفاء للموت، فيقول: الكلمات الكبيرة التي تذوب لن تحيي، ويذهب بعيدا إلى ذلك السر في الموت فيتذكر أننا لا نعرف إذا كان الميت العائد يسمع وإذا كان لا يزال هو نفسه. ولكنه مرة أخرى يثق
بالكلمات فيقول: الكلمات قمح الموتى.
يقترب الشاعر من الألم، يحاوره ويصل إلى معناه الحقيقي، الألم الذي لا يذهب لا بأسمائنا التي ابتكرناها ولا بأطفالنا الذي لن يكترثوا بنا، سيتجمد الألم في الزمن ويأخذه الهباء الذي يملأ الحقائب فلا ينساه الزمن الذي يخصّصُ له الشاعر قصيدة يسميها 2018.
تتخفف لغة الشاعر من البلاغة وتقترب من الخفوت وكأنها أشبه بالهمس، ليواصل فيها صاحب (الموت يأخذ مقاساتنا) رحلته الشعرية في مسالك غريبة، تجعل لغته تأملية فلسفية. إنها لغة تبتعد عن التفاصيل وتقترب من أسئلة الوجود الواسعة، يستخدم فيها الشاعر معجما خاصا بمرادفات الموت والحياة والألم والدم.
ورغم أن الشاعر يبقى محايدا في الكثير من الأحيان، الا إنه ينهل من سيرته الشخصية الخاصة التي تشكل موردا شعريا له، فهو حين يرثي أخته، فكأنما يقدم قصيدة رثاء للعالم، يقول الشاعر لأخته: هكذا استقبلت موتك/ لم نكن جنبك لكننا متناك/ الآن أعرف أن ذلك ليس بلا معنى/ لقد نسينا الشعر/ والقصيدة اليتيمة خرجت من البيت.
تقف الأنا بعيدا في قصائد الديوان، رغم أن المجموعة تبدأ بـ(أنا شبه أب)، إنها دعوة صريحة للشعر أن يقول قوله، وللموت أن يقول كلمته لنا، هو تواضع ساحر يجعل للكلمات دورها وللحياة أن تسرد حكاياها. وفي نهاية المجموعة نقع على نص طويل لرثاء السنة الآفلة، الشيء الذي يسميه الشاعر (اختراع الزمن)، وينهي الشاعر مجموعته بلغة تتحدث بصيغة الجمع متأملا اللحظة بين عامين.
وبالرغم من أن الشاعر يذهب في العمق إلى سؤاله الشخصي عن الموت الا إنه لا يدعونا
للتفتيش داخل أنفسنا عن الإجابات، فنحن لن نستطيع كسر السؤال بأي إجابة قد تكون مجحفة بحق أنفسنا، فيقول الشاعر في شذرة بعنوان سؤال: لا جدوى من التفتيش في أنفسنا/ في العمق السؤال الذي لم نستطع كسره.
يكتب عباس بيضون الشعر كأنه يستمع، فالشعر بالنسبة له هو إصغاء للواقع والمحسوس والكلام وحتى الصمت، فيقول في قصيدة عن الكلام إنه يتزاحم، بحيث أنه لا يستطيع أن يميز كلمة واحدة، هكذا تغزو اللغات العالم وتصير مهمة الشاعر تفكيك اللغة، وتفكيك العالم. الشاعر مسكون باللغة التي تؤسس لصمت كبير، يصغي إليه الشاعر في محاولة لجعله صمتا ينطق، ولذلك يقول: الصمت يتكاثف ويغدو له جسم/ لغات تندمج لتؤسس صمتا.
هي دعوة مفتوحة للتأمل لا تحدها لغة ولا تكسرها قيود الإجابات، دعوة للإصغاء إلى الشعر والموت والحلم بلغة لا ترشد ولا تدعو بل تبحث وتحفر بصمت وخفر.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.