}
عروض

"قارب إلى لسبوس": التراجيديا الإغريقية ومحنة التراجيديا السورية

ضاهر عيطة

11 يوليه 2019
نخال أن ديوان "قارب إلى لسبوس" للشاعر السوري نوري الجراح ("دار المتوسط") ما هو إلا لوح نحاسي، نقشت عليه مرثيات وتعويذات فجائعية راح صداها يتردّد في أرجاء الكون، وقد تخلت فيه اللغة عن دورها التقليدي، وغدت أشبه ما تكون بفضاء مسرحي تجري فوقه أحداث جليلة، تنبعث من عذابات وويلات السوريين، على متن قارب يمضي بهم إلى جزيرة لسبوس: "تستقتلون على القوارب ويبتلعكم البحر دون لسبوس/ وأموت في صقلية هاربة من الموت/ لا تصدقوا بوسيدون، ولا قارب عوليس/ لا تصدقوا الرسائل ولا تصدقوا الكلمات/ لم يبق من قدموس الهارب بشقيقته من صُوْر المحترقة سوى حطام في قارب".
هي مشهدية مفجعة، تختصر ما آلت إليه مصائر السوريين، وقد تماهت مع مصائر أبطال التراجيديات الإغريقية، ومن هنا لم تكن رحلة نوري الجراح عبر قاربه مجرد استعارة لمرجعية أسطورية، إنما الأحداث المريبة هي من استدعت حضور الأساطير، خصوصاً وأن أجساد وأرواح السوريين المعذبة قد حلت فعلياً، وليس مجازياً، على أرض تلك الجزيرة، مما ألح على قارب الجراح ألا يكتفي بعبور الحدود الجغرافية، إنما أن يبحر  في عمق التاريخ، إلى زمن إلياذة هوميروس، وأحداث حرب طروادة، التي جرت وقائعها على جزيرة لسبوس، هذه الجزيرة التي تشهد في الوقت الراهن أحداثاً أشد هولاً ورعباً من سابقتها، استفاقت على أثرها الشخصيات الأسطورية من ثباتها، ليتاح لها، وللمرة الأولى عبر تاريخها الطويل، أن تجد فرصتها لتتطهر من آلامها ومراراتها، وتمارس شفقتها على السوريين الفارين من وابل
البراميل والصواريخ التي تصليهم بها طائرات الأسد وبوتين، فيساقون إلى حتفهم المأساوي، في عالم يبدو كمسرح مهجور، لا يوجد جمهور فيه ولا ممثلون، ليذرفوا الدموع على مصائرهم، ووحدها الأشنة والفقاعات ومن فرط وحدتهم وعزلتهم تلتفت إلى حالهم.. "شكراً لهذا الصمت/ سمعت الأشنة تغني/ والفقاعات تتخاطف هي والضحكات/ وجهي القديم..". لقطة مريبة تحبس الأنفاس، وتشير إلى وحشية سكنت عالماً بات لا يتقن سوى معزوفة الصمت والخرس، إزاء أحداث يصعب على العقل البشري تخيلها، مما يستدعي خروج أبطال الأساطير من بين سطور إلياذة هوميروس، ليكونوا شهوداً على مأساة معاصرة، قالباً الجراح بذلك المعادلة، مستحثاً الماضي على النهوض ليتاح له الإطلاع على الحاضر، فتتحرر سافوا، وهي من أشهر شاعرات الإغريق، من صمتها ووجودها الأسطوري، لترثي السوريين، في رتم أليم حزين: "أيها السوريون الأليمون/ السوريون الوسيمون/ السوريون الأشقياء الهاربون من الموت/ أنتم لا تصلون بالقوارب/ ولكنكم تولدون على الشواطئ مع الزبد/ تبر هالك أنتم/ تبر مصهور ومصهور مصوغ مصوح/ من لجة إلى لجة في خاصرة بحر الروم/ مع نجمة البحار وشقيقها الحبار التائه/ ترسلكم الأمواج في ضوء بنات نعش..".
هذا النواح الجنائزي على مصير السوريين، وعلى السوريات الفارات من موت إلى موت، ومن فقد إلى فقد، كحال شقيقاتهن بنات نعش، اللاتي يحملن جثة ولدهن، طالبات الثأر من قاتله، وكحال شقيقتهن أوروبا الهاربة من حريق صور، مع شقيقها قدموس، إلى أرض النجاة، إلا أن هذه الأرض، والتي تعمدت بخطواتها، وتكنت باسمها، تقسو على مصير أخواتها السوريات، فتتركهن يهلكن في قاع البحار، أو تائهات في قارب لسبوس: "كما تولد عرائس البحر تولد الحسناوات السوريات/ في ضوء راجف/ ويطأن براحة أقدامهن الرخصة المجرحة حصى لسبوس ورمالها الرمادي/ انزلن من فاكهة الشام/ إلى حجارة الالم". هو رثاء على من كن يتربعن فوق فاكهة الشام، إلا أن الحتمية التراجيدية ألقت بهن إلى حجارة الألم، إلى أرض مصبوغة بآلام بنات نعش، ومحنة ضياع أوروبا "شكراً لأوروبا السعيدة/ بأساورها/ لمعت أسنان العبيد/ ويداها المغللتان بالأفكار/ تنزفان/ ذهباً وفضة". هنا تبدو المخيلة وكأنها ترجلت عن عرشها الأسطوري، لتتربع التراجيديا السورية فوقه بدلاً منها، وربما بهذا المعنى افتتح الجراح ديوانه بعبارة "إلى من سيأتون غداً" ليخبرهم أنه قد "رأى البرق شرقيا/ ولاح في لمح/ وكان غريباً/ ورأيت الشمس في دمها مبلولة/ والبحر مضطرباً/ والأمس منهوباً من الكتب". هو الحداد إذاً على فاجعة يلوح لهيبها من الشرق، خصوصاً وأن الجراح قد نقش تلك المقاطع فوق صفحتين سوداويتين، ساهم في الاشتغال عليهما، كباقي اللوحات والغلاف، الفنان خالد الناصري، والفنانة ريم يوسف، التي خطت بريشتها لوحات ورسومات بدت وكأنها
خرجت من رحم أنفاس العبارات، فساهمت بقدر كبير في تأويل وترميز عوالم المقاطع الشعرية، وأضفت عليها بعداً جمالياً وفنياً، حيث الأطفال والنساء يحلقون مع العصافير والطائرات الورقية، ضمن فضاء مغرق في شفافيته وضبابيته، وكأن هذه الطائرات في لوحات يوسف تقف على النقيض من الطائرات التي تلقي بحممها على السوريين لتسحقهم، كذلك نلمح في تلك الصور واللوحات، وعلى غرار المقاطع  الشعرية، انقلاباً للمفاهيم والمعاني، حينما تغدو العصافير أداة نجاة للضحايا السوريين التائهين في المجهول، محتضنة إياهم بهذه الشفقة والرأفة، غير أن مصائرهم دائماً تكون نهايتها مباغتة ومفجعة "أرسلت شقيقاتي يحملن الماء/ ذهبن بالماء العذب إلى الشاطئ/ ورجعن بصبي/ قلن إنه نائم/ ولما مددنه في الملاءة/ رأيناه بلا  وجه".
تزدحم ملحمة الجراح الشعرية بعذابات السوريين، والتي بقدر ما يصوغها بلغة شاعرية فخمة جليلة، بقدر ما تكون نهايات المقاطع صادمة، وتعزز الإحساس بوطأة المأساة "سافوا/ يا مدلهة الفتوة/ ها هم عشاقك الصغار من سوريا/ يصلون إليك صامتين/ خفافاً/ وجمالهم برق مقيم في النوافذ/ أعدي لهم المائدة/ وصارحيهم بأن هذا عشاؤهم الأخير". هي مشهدية موغلة في الحاضر، يسردها الجراح على نحو أسطوري، فمعظم ألواح وأناشيد الجراح ليست مجرد استعارات من عوالم المتخيل، إنما هي إبداع المخيلة في معالجة المصاب الواقعي، والتراجيديا الواقعية، بلغة تحاول وضع المأساة السورية في بؤرة الحدث، مستعيرة معاني وصوراً ورموزاً يتم إنتاجها وخلقها على نحو جديد لتغدو أدوات توثيق للحدث المقتلة السورية. وبقدر ما أضفى استحضار الأساطير طاقة جمالية، وبعداً سحرياً على عوالم ديوان "قارب إلى لسبوس" بقدر ما كان الهدف منه تأسيس لوعي مختلف فيما يخص هذه المقتلة، والتي تواظب سافوا على رثاء ضحاياها "أيها السوريون الأشقاء/ السوريون المتدافعون مع الموج/ السوريون المقتولون في الضفاف/ المحمومون المتلهفون على السواحل المعتمة بوجوه صبيحة/ هنا/ في لسبوس التي طالما أبكتها طروادة../ تعالوا لأقبل خدودكم المتوردة من الجزع". وكأن صوت سافوا هذا ليس إلا صوت جوقات في مسرح إغريقي ينحن على مصائر السوريات والسوريين، بالمقابل نسمع صوت الضحايا السوريين "دمي لا يريدني حياً/ دمي يهرب مني/ يتسرب من شراييني ويريني ارتجافي/ دمي يملأ يدي/ ويلطخ الحجارة والنوافذ والأشجار"، وبذلك نلمح مدى عمق المأساة التي تحف بالسوريين، متجاوزين في محنتهم هذه معايير وقوانين أرسطو فيما يخص التراجيديا المكتملة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.