}
قراءات

تحولات الإسلام السياسي.. بين نجاح "النهضة" وإخفاق "الإخوان" (2/3)

حسام أبو حامد

27 يونيو 2019
لا يزال النظام السياسي الإسلامي المنظّر له، أيديولوجيا، يتعارض مع الديمقراطية في نموذج الدولة الوطنية الحديثة التي يسود فيها الشعب لا الشريعة. وإذ تقف الديمقراطية على مسافةٍ واحدةٍ من جميع الأديان، يقدّم مسلمون إسلامهم على أنه دينٌ ودنيا، شريعة وحياة، والثانية وسيلة للأول. أما مفهوم "الأمة"، كما استقر في الشرع الإسلامي، فيقوم على الرابطة الدينية، ولا يدخل فيه غير المسلم، ولو حمل جنسية البلد نفسه، والنظرية الديمقراطية تهدم أصلاً في الإمامة العظمى بالمفهوم الشرعي، وهو اشتراط إسلام الإمام. كذلك لا يتقبّل هذا الإسلام الحزبية، سيما الأحزاب التي تتعارض أيديولوجياتها مع الشريعة، بوصفها مرجعيةً عليا وحيدة لـ"الدولة الإسلامية".
لذا يرفض كثير من الإسلامويين الديمقراطية جملة وتفصيلا، ولا تتعدى الشورى أن تكون بالنسبة لهم معلمة وليست ملزمة، فالحكم للوحي وليس من وضع الشعب. واجتهد آخرون، انطلاقا من مبدأ الشورى، ليوفّقوا بين الإسلام والديمقراطية، بوصفها وسيلة لتداول السلطة، ولكفالة حق التعبير عن الرأي، ولمنع استبداد الحاكمين، وحسن اختيارهم ليؤدوا مهامهم في الحكم، مع تمييزهم بين السلطة والحكم؛ فالسلطة في الإسلام هي للشعب الذي يُولّي الحاكم، أما الحكم فهو لله، وعلى من يختاره الشعب الحكم بشريعة الله. وعلى الرغم من أن الوظيفة الدعوية هي السمة الأبرز للحركات الإسلامية، انخرطت حركاتٌ منها، تحت ضغط المطلبية السياسية، في المنافسة الحزبية، إدراكا منها، بعد عقودٍ من الصدام مع أجهزة الدولة، ودورات العنف والعنف المضاد، أن بقاءها في المجال العمومي بات مرتبطا بقدرة تلك الحركات على الفصل بين الدعوي والسياسي.

"النهضة" التونسية في مسار تاريخي
من المفيد أن نعرض لمسار حركة "النهضة" انطلاقا من التاريخ التونسي، الذي ربما فتح

أبوابا لتطورات الحركة اللاحقة، فمنذ القرن التاسع عشر، تبلورت حركة التحديث، في إطارها الإسلامي، بتحالف شيوخ الزيتونة فكرياً مع خير الدين التونسي، والذي أثمر عن كتابه "أقوام المسالك في معرفة أحوال الممالك"، وكان دستور 1864 أبرز شاهد على إنجازاتها. واستبق الحبيب بورقيبة إعلان الاستقلال، ليعلن نيته في بناء دولة حداثية على الطراز الغربي في تونس، وما أن تولى الحكم، حتى بدأت العلمانية تُدّعم إجرائياً بدءاً من العام 1957 (قانون أحوال شخصية مدني، إلغاء الأوقاف العامة والتأريخ الهجري، ومنع التعليم الديني، والهجوم على الطقسية الإسلامية). وأدركت "الجماعة الإسلامية"، منذ نقاشاتها التأسيسية في 1972، صعوبة الدخول في مواجهة مع المجتمع التونسي الموغل في أفكار الحداثة، بغض النظر عن مستوى ما تحقق منها.
مبكراً، انطلقت المراجعات الفكرية لما يعرف اليوم بحزب "النهضة". تنازعت "الجماعة الإسلامية" ثلاثة تيارات أساسية؛ الديني التقليدي ذو الصبغة الفقهية المالكية والعقيدة الأشعرية المتمسكة بتربية صوفية، والتيار الإخواني السلفي الوافد من المشرق والمتأثر بأفكار سيد قطب، والتيار العقلاني، الذي تبلور حديثاً، ليتبنى عقيدة الاعتزال التي ألحت على حرية الإرادة الإنسانية، ومسؤولية الإنسان عن أفعاله، وتمسكّت بالابتعاد عن الفهم الحرفي للنص، لصالح التأويل العقلي، بما يتوافق مع مقاصد الشريعة، ليبدو التيار العقلاني والتيار السلفي الإخواني على طرفي نقيض، فبينما أكد التيار السلفي الإخواني شمولية الإسلام ومبدأ الحاكمية، وتمسك بمنهج فكري، يقدم الجانب العقائدي الأخلاقي على الجانب السياسي، رأى التيار العقلاني في التيار السلفي الإخواني عائقاً في طريق نهضة الإسلام، ودعا إلى إحلال الفهم المقاصدي بدل الفهم الحرفي للنصوص، وإلى الاستفادة من الغرب وثقافته وتنظيماته وعلومه الإنسانية، ورفض المقياس العقيدي الإخواني الذي ينتهي بتقسيم الناس إلى إخوة وأعداء وكفرة ومسلمين، لما فيه من تهميش للصراع، وأن التقسيم ينبغي أن يكون على أسس سياسية واجتماعية.
بدأ النقاش يتسع داخل الجماعة، أفقياً وعامودياً، وعلى الرغم من انشقاقات في صفوف الحركة، إلا إن هذه النقاشات مثلت مراجعات حقيقية ومستمرة، احتدمت لتخرج بوسطيةٍ، ضُبطت منهجياً وفكرياً، ساعدت الحركة على حسم موقفها في قضايا كثيرة في مقدمتها الحداثة والديمقراطية والعنف. ومع تراجع التدين السلفي الإخواني مقابل ضغط الواقع والتدين العقلاني والمراجعات الفكرية، قبلت الحركة في العام 1980 الحوار مع أحزاب شيوعية وعلمانية، من أجل تدعيم

الحريات في تونس. بعد شهرين من إقرار النظام التونسي للتعددية السياسية، وفي يونيو/حزيران 1981، سارعت "الجماعة" إلى تشكيل حركة سياسية عرفت بـ"الاتجاه الإسلامي"، تبنى بيانه التأسيسي الديمقراطية فكراً وتطبيقاً، ورفض العنف أداة للتغيير، والتأكيد على رفض الانفراد بالسلطة الأحادية والإقرار بحق كل القوى الشعبية في ممارسة حرية التعبير والتجمع. وفي فبراير 1989 غيرت الحركة اسمها إلى "حركة النهضة" للتقيد بقانون الأحزاب الذي يمنع إقامة أحزاب على أساس ديني، إلا إن السلطات المختصة رفضت طلب الحركة بالترخيص لها.

تونس: ما وراء الأيديولوجيا
يبحث عز الدين عبد المولى في الفصل الأول من كتاب "تحولات الإسلام السياسي في نظام إقليمي متغير" (مجموعة من الباحثين، تحرير محمد عفان، إسطنبول: منتدى الشرق، كانون الثاني/ يناير 2019) تحولات الإسلام السياسي في تونس ما بعد الربيع العربي متخذا من "النهضة" التونسية نموذجا، وهي الحركة التي بالرغم من حفاظها على صفة الإسلاموية إلا إن محتواها الفكري قد تغير كثيرا، أما هيكليا، ففصلت بين الدعوي والسياسي، متحولة الى حزب وطني ديمقراطي نمطي بدعوى الحاجة إلى التخصص. ويذهب إلى أن هذه التحولات ليست وليدة اليوم، بل حدثت بشكل متدرج داخل الحركة، ربما منذ تأسيسها، غير أن وتيرتها قد تسارعت بعد الانتفاضات العربية.
ومع ذلك، وقبل الوصول إلى الهيكلية الشاملة التي حدثت تحت مسمى الاختصاص، والتي كرستها "الوثيقة الاستراتيجية" التي أقرها المؤتمر العاشر للحركة العام 2016، كانت فكرة التخصص وفصل أنواع مختلفة من الأنشطة على أساس وظيفي موجودة في الحركة، فظهرت دعوات في العام 1988 من داخل الحركة إلى تشكيل حزب سياسي علماني يهدف إلى إقامة دولة العقل والقانون بعيدا عن دولة الوحي، وفي العام 2000 ناقش راشد الغنوشي تشوش الحركة الإسلامية بين الدولة والمجتمع، ومال إلى تفضيل فكرة الفصل الوظيفي بين مختلف الجبهات والأنشطة التي ينطوي عليها مشروع إصلاح الحركة. لكن قبل الثورة بأشهر قليلة أكدت "النهضة" على كامل مشروعها الإصلاحي بأبعاده الثقافية والاجتماعية والسياسية، لتعود إلى طرح فكرة التخصص للنقاش في المؤتمر التاسع العام 2012، إلا أن النقاش أحيل إلى المؤتمر العاشر العام 2016، الذي أقرّ الاختصاص خيارا استراتيجيا.
وبرأيه، فإن تحولات حركة "النهضة" جاءت نتيجة لعوامل ذاتية، تمثلت في سعي الحركة إلى بناء منظمة حديثة، وموضوعية، استجابة للواقع السياسي التونسي بعد الثورة حين تطلب الاعتراف القانوني بحركة "النهضة"، بوصفها حزبا سياسيا عام 2011، عددا من الشروط بما في ذلك الطابع المدني للحركة الذي لا يسمح بالجمع بين الأنشطة الدينية والسياسية ضمن نفس الهيكلية.
ويؤكد عبد المولى أنه يجب النظر إلى تلك التحولات في ضوء الديناميكيات الجديدة وأنها ليست مجرد تنميط معد مسبقا لتحقيق أهداف قصيرة المدى لغرض انتخابي. ورغم أن هذه العملية التحويلية غير مكتملة ومفتوحة على احتمالات عدّة إلا إنها وصلت إلى نقطة الـ"لاعودة"، فالتحول يحدث في جميع مجالات الإسلام السياسي في تونس دون استثناء، ويشمل الأيديولوجيا، والهيكلية، والثقافة، والمواقف السياسية، والاستراتيجيات، وإعادة التموضع الاجتماعي والسياسي. وإعادة موضعة مكانة الإسلام، وإعادة تفسير الشريعة، والتخلي عن الدولة الإسلامية، تشير إلى أن "النهضة" تتحرك بعيدا عن مجال الإسلام السياسي؛ من حركة اجتماعية غير قانونية تعمل سرا في هوامش السياسة والثقافة والاقتصاد، إلى حزب سياسي معترف به رسميا يقود الحكومة، أو يتقاسم السلطة.
إن تحول الحركة إلى كيان سياسي مفتوح، برأي عبد المولى، يمكن الوصول إليه من قبل مختلف قطاعات المجتمع لتضم أعضاء غير إسلاميين، هو من أهم التحولات التي تشهدها "النهضة"، إذ من شأنه إعادة تشكيل ديمغرافية الحركة الداخلية وتوسيع قاعدة عضويتها. لكن حتى الآن لم تجلب سياسة الباب المفتوح أعضاء جدداً وحركات اجتماعية جديدة تغيّر

ديمغرافيتها، وتعيد تشكيل هويتها، بل ساهمت في رعاية ثقافة جديدة أساسها الأخلاق والمبادئ والقيم الإسلامية.
اليوم يبرهن واقع حركة "النهضة" التونسية على إمكانية تحول الحزب الإسلامي إلى حزب سياسي يحترم المرجعية العلمانية للدولة، ويفصل بين الدعوي والسياسي، ويترك الأول لأجسام أخرى في المجتمع، متخليا عن أي خطابٍ لـ"مظلومية" لصالح خطاب ديمقراطي مدني. وبدت "النهضة" أكثر تمسّكا بالعقلانية السياسية مقارنة بغيرها من حركات إسلامية، رفضت التفريط بمكاسبها ورصيدها الشعبي، لكن ألم يكن ذلك أيضاً رهناً بسلوك غيرها من الأحزاب التونسية التي تحلّت بالعقلانية السياسية نفسها، فشاركتها الحرص على السلم الأهلي والاستقرار الاجتماعي، متمسّكة بالنظام الديمقراطي الذي توّج به التونسيون ثورتهم؟ ألا يشترط توافر إسلامويين ديمقراطيين توافر نظام ديمقراطي؟.

مصر: فاعلون قدماء وديناميكيات جديدة
نعتقد أنه من المهم التنبه إلى أنه بينما استطاعت حركة "النهضة" حسم موقفها من الديمقراطية، في أقل من ثماني سنوات على انطلاقتها، فإنه ومنذ أن أصّل البنا موقفه السلبي من التعددية السياسية (1)، احتاج "الإخوان" في مصر إلى نحو نصف قرن للقبول بها. عمل الإلحاح على التكامل بين الدعوي والسياسي في حالة "الإخوان المسلمين" على استعداء كل ما هو غير إخواني، فساد لديهم توجّهٌ يرفض الفصل بينهما، بحجة أنه لا يوجد، من ناحية الفكرة والرسالة، ما يسمى دعوي وسياسي، كأمرين متفارقين، فالسياسة دعوة، والمجال الدعوي يشمل كل الجوانب السياسية وغيرها. ووصلت الحركة إلى سدة الحكم بانتخاب الراحل محمد مرسي رئيسا، لكن استمرار الخطاب المتشدّد للحركة، وإقصاء كل من لا ينتمي إلى جماعة "الإخوان" في مؤسسات الدولة، ووسائل الإعلام، والنقابات، والمضي في عدم التمييز بين ما هو حزبي وما هو دولتي، وإغفال أن دولةً لجميع مواطنيها لا تُدار بالمطلق بأدوات الحزب ومنهجه وعقليته، أدت، إلى جانب عوامل أخرى (فمشكلات إدارة الدولة وسط أجهزة تعادي الإسلاميين، والعمل في بيئة دولية وإقليمية تخاصمهم، ووجود مطالب شعبية لا تهدأ تنادي بتحسين الأوضاع المعيشية...)، إلى فشلٍ إخوانيٍّ سياسي ذريع، وعجز عن استئصال الدولة العميقة مما مهد لنجاح انقلاب العسكر.
في الفصل الثاني من الكتاب تهدف لوتشيا أردوفيني إلى تحليل التحول المستمر لحركات الإسلام السياسي في مصر، وتتبعه في أعقاب الانتفاضات العربية، لتحديد ما إذا كانت قد دخلت في حالة من الجمود أم أنها تمر بعملية إصلاح ذاتي سيؤثر في هياكل تلك الحركات وأيديولوجياتها. وتذهب إلى أن الانقلاب العسكري في مصر على الإخوان المسلمين العام 2013، والصعود ثم السقوط السريع لتنظيم الدولة الإسلامية، كانا حدثين شكلا تحديا للنماذج الإسلامية السائدة للتغيير السياسي، فالجماعات الإسلاموية التي عملت في إطار السياسة المؤسسية (حركة الإخوان المسلمين) أزيحت من السلطة، وقمعت وفتتت من الداخل، بينما الجماعات التي ركزت على "بناء الدولة" من خلال الحكم القائم على الميليشيات بدلا من السياسة التشاركية أصبحت في نظر صانعي السياسة، والمراقبين الدوليين، تجسّد الإسلام السياسي.
بعد انقلاب العام 2013 تمت إعادة هيكلة الإسلاموية في مصر، وتنوعت مهام المجموعات الإسلامية بعد تقييد، وأصبحت أكثر تنظيما، وتأثرت بالفاعلين العابرين للحدود الوطنية، نتج عن ذلك صعوبات أمام تحليل العلاقة دائمة التطور بين الإسلامويين والدولة، وفرض على البحث العلمي في الإسلام السياسي مواكبة تطور تلك الحركات ما بعد العام 2011 التي انتقل عديد منها من المعارضة إلى السلطة، ثم إلى القمع والبحث عن هوية جديدة في فترة زمنية قصيرة جدا.
المدافعون عن ما بعد الإسلام السياسي(2) يرون في إزالة "الإخوان" من السلطة تعبيرا عن أزمة وجودية أوسع تشمل نهاية الإسلام السياسي ككل، فسقوط "الإخوان" كان مصحوبا بسقوط الإسلاموية، لكن أردوفيني ترى أن عزل جماعة الإخوان المسلمين أدى إلى إعادة طرح الأسئلة القديمة حول التوافق بين الإسلام والمؤسسات الديمقراطية، متحديا، في نفس الوقت، الفهم التقليدي للنماذج الإسلامية السائدة للتغيير السياسي، وأن هذه الادعاءات قد فشلت في إدراك تنوع الإسلام السياسي، وخبرات الجماعات الإسلاموية الأخرى بعد الانتفاضات العربية، فحركة "النهضة" في تونس شهدت أيضا تسييسا سريعا وصعودا إلى السلطة، ولم يكن الأمر مقصورا على جماعة الإخوان المسلمين. لذا توجه البحث في الحالة المصرية إلى النظر في الطرق التي تغيرت بها المنافسة التاريخية حول تمثيل المرجعية الإسلامية في البلاد في أعقاب انقلاب 2013، وكيف تتشكل التداخلات بين الأطراف الفاعلة القديمة من خلال ديناميكيات جديدة.

ما بعد "الإخوان"
تذهب أردوفيني إلى أن حركة الإخوان المسلمين اليوم بحاجة إلى تحديد الدور الذي ترغب في لعبه في المستقبل، فالاختيار بين إعادة هيكلة نفسها كحركة اجتماعية بحتة، أو البقاء في مكانها خامدة إلى أن تتغير الظروف بشكل جذري، يعكس مسارين مختلفين تماما. وترى أنه بعد انسحاب "الإخوان" من المشهد السياسي المصري، برز لاعبون جدد يصوغون السرديات والتصورات المرتبطة بالإسلام السياسي في البلاد، مثل حزب النور السلفي، ومثل الأزهر ذي الاستقلال المتزايد، وهذا يعني استمرار الأطراف الإسلامية وسردياتها فاعلة، وعلينا الأخذ بها عند فحص التحولات المستمرة للإسلام السياسي ما بعد الربيع العربي، وعدم الاكتفاء بدراسة حركة الإخوان المسلمين.
مثّل حزب النور تحولا أيديولوجيا واستراتيجيا غير مسبوقين، وسلّط الضوء على ديناميكيات جديدة تشكل المنافسة التاريخية حول تمثيل المرجعية الإسلامية في البلاد، فتسييس الدعوة السلفية هو تحول تاريخي نحو شكل معدّل من السلفية، يقدم إجابات حول ما إذا كانت حركة الإسلام السياسي المتشددة يمكن أن تندمج في أساليب حوكمة تعددية. لكن السلفية لا تزال تواجه تحديات استراتيجية وتكتيكية، وأخرى تتعلق بالهوية، ويبقى السؤال قائما حول قدرتها على طرح نموذج سياسي قابل للتطبيق، في سياق سلطوي، فبينما كان "الإخوان" متواجدين دوما في السياسة، شهد حزب الدعوة السلفية تسيسا سريعا بشكل ملحوظ، أدى إلى صعوبات استراتيجية وهيكلية.
أما بالنسبة للأزهر، الذي كان عنصرا مركزيا في العلاقة دائمة التغير بين الدين والدولة في مصر، فكانت علاقاته مبهمة مع الجماعات الإسلامية، وتميزت بالتنافسية، بعد أن غيرت الفترة الانتقالية، الناجمة عن انتفاضات عام 2011، ديناميكيات التنافس التاريخي حول تمثيل

المرجعية الإسلامية بشكل جذري، ولعب الأزهر في تلك المرحلة الانتقالية دور منتدى للحوار الوطني، ودور مرشد خلال العملية الانتقالية المضطربة، مما خدم، في نفس الوقت، سعي الأزهر للاستقلال الذي تكلل بمنحه من قبل المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية عام 2012 رخصة الانفكاك رسميا عن سيطرة الدولة (تعديلات القانون 103)، ولم تمنع العلاقات الجيدة مع "الإخوان" الأزهر من تأييد انقلاب السيسي، الذي تعدّه الباحثة مؤشرا على حدوث تغير كبير في العلاقة بين الدولة والدين في مصر، ورغم التعاون الأولي مع السيسي، رفض الأزهر محاولات السيسي السيطرة على الأمور الدينية، فبات اليوم أكثر استقلالية عن الرئاسة التي سعت دائما للحصول على شرعنة دينية، وترى أنه من غير المرجح أن يسعى السيسي لتجريد الأزهر من دوره الكامل، فشرعية المؤسسة الشعبية تظل أساسية لشرعنة النظام السياسي.
إن استقلال الأزهر المتزايد وعلاقته المتبدلة مع النظام يعيدان صياغة العلاقة بين الإسلام والدولة، أما مشروع حزب النور السلفي فسيؤثر على التصورات تجاه حركات الإسلام السياسي في مصر، ويطرح تساؤلات حول قدرتها على تشكيل صورة جديدة للسلفية تتوافق مع السياق السياسي المعقد، والواجهة المتغيرة بين الدين والدولة في مصر. وتخلص الباحثة إلى أن الإجابة مطلوبة على سؤال: هل ما يزال من الممكن مساواة الإسلام السياسي بأجندة سياسية واضحة وملموسة؟
ختاما، نقول: حتى مع انسحاب الإسلامويين (أو مع إقصائهم من السياسة)، وتخليهم عن حلم الدولة، فإن فرص الحد الأدنى لاستمرارهم لا تزال قائمة، باستبدالهم قضية الإصلاح الاجتماعي بمحاولات السيطرة من خلال صناديق الاقتراع، أي منح الإصلاح أوّليةً، وأولويةً، على السياسة، وتقديم "الأمة" على الدولة. لكن أليس هذا هو ذاته المشروع الإصلاحي لمحمد عبده، بعد أن استعاذ بالله من السياسة، ومن كلمة سياسة، قبل أن يتجاوزه حسن البنا لصالح راديكالية جمال الدين الأفغاني، ليمضي أبعد من ذلك؟

هوامش:
(1)  في "مجموعة الرسائل" يذهب البنا إلى أن "الإخوان" يعتقدون "أن النظام النيابي، بل حتى البرلماني، في غنى عن نظام الأحزاب بصورتها الحاضرة في مصر، وإلا لما قامت الحكومات الائتلافية في البلاد الديمقراطية، فالحجة القائلة بأن النظام البرلماني لا يتصور إلا بوجود الأحزاب حجة واهية، وكثير من البلاد الدستورية البرلمانية تسير على نظام الحزب الواحد وذلك في الإمكان". ويضيف "يعتقد الإخوان أن هناك فارقاً بين حرية الرأي والتفكير والإبانة والإفصاح والشورى والنصيحة، وهو ما يوجبه الإسلام، وبين التعصب للرأي والخروج على الجماعة، والعمل الدائب على توسيع هوة الانقسام في الأمة وزعزعة سلطان الحكام، وهو ما تستلزمه الحزبية ويأباه الإسلام ويحرمه أشد التحريم، والإسلام في كل تشريعاته إنما يدعو إلى الوحدة والتعاون".
(2) من أبرز المبشرين بما بعد الإسلام السياسي انطلاقا من تسعينيات القرن الماضي: أوليفييه روا، جيل كيبيل، ثم الأميركي آصف بيات في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.