}
عروض

"الخروج من مصر": السيرة الذاتية.. التاريخ.. الذاكرة

إلياس فركوح

31 مايو 2019
أخالُ أنَّ كلَّ واحد منا يطمح إلى الحديث عن نفسه، ويبتغي الكشف عن جانبٍ منه يراه جديراً بأن يُعْرَف. كما ألاحظ أنّ معظمنا يتقصَّد تسريب مواقفَ له، عبر إيراده لأحداثٍ مرَّت به كان شاهداً عليها فقالَ ما قال، وفعلَ ما فعل! إنَّ هذه وغيرها من طُرُق التحادث الشفاهي المباشر، أو "الدردشة" العابرة، ما هي، في التحليل المتأني والحصيلة الناتجة، إلّا حَكْيُّ منطوقٌ شفاهيّ متقطِّع عبر الزمن، يشير إلى سيرة أصحابها من غير الكُتّاب وأصحاب الحضور في جانبٍ من الحياة العامة، تبرز بين وقتٍ وآخر، في مناسبةٍ ما أو سياقٍ يحتمل ذاك الحديث.
ولقد استعدتُ عنواناً لمجموعة نصوص كتبها الصديق أمجد ناصر، هو "الحياة كسَرْدٍ متقطِّع"، بعد انتهائي من قراءة كتاب إيهاب حسن "الخروج من مصر: مشاهد ومجادلات من سيرة ذاتية"، واجداً فيه مرآة تجلَّى على صفحاتها معنى عنوان أمجد وعُمق دلالته. فإيهاب حسن، رغم اعتماده حلمَه بالخروج من مصر خروجاً نهائياً بلا عودة موضوعةً أساسية وتأسيسية للكتاب، وسرده لمجموعة تفاصيل عن طفولته، وأسرته، والمحيط السياسي والاجتماعي العام في مصر أربعينيات القرن الماضي؛ إلّا أنه واظبَ على إقحام مجموعة "انقطاعات" لهذا السرد أسماها "فواصل". فواصل يشتقها من قراءاته المتنوعة اقتباساً وتعليقاً، وكأنه يبتغي منها العطف على ما سبق، والتمهيد لِمْا يأتي. وهكذا ترانا إثر كلّ فاصل نطالع محطّةً جديدة من محطّات سيرته، أو عودةً لواحدة كان تطرق إليها من أجل المزيد من الحفر فيها.
في هذا الكتاب الذي ترجمه لنا سيد إمام بلغة مشرقة (صدر عن دار العين للنشر في 2018)، نراوح في حركة بندوليَّة، أو أقرب إليها، نعاينُ صوراً متراكبة لشخصيَّة كاتب السيرة، وفي كلّ واحدة من هذه الصور نقرأ "اقتراباً" يسعى من ورائه للوثوق مما "كان عليه" قبل عقود وعقود، والتأكيد عليه. التأكيد عليه لنفسه أحياناً، والتأكيد عليه لقارئ هذه السيرة تمهيداً لسبغ "الشرعية والمعقوليّة" على قراره الذي لم يحد عنه قيد أنملة: الخروج من مصر/ الخراب بلا تذكرة عودة إطلاقاً! وأنَّ "النجاة" لم تكن لتتحقق من دون هذا الخروج! والنجاة هنا ليست مسألة ذات بُعْد تفكّري وجوديّ وحسب؛ بل هي إجابةٌ صريحة عن "مصير شخصيّ" خالص! مصير ومآل رجل اسمه إيهاب حسن، صاغه بإرادته الواعية ورؤيته للعالم من حوله، وما زال قانعاً مقتنعاً به.
من خلال الكتابة، كتابة سِفْر السيرة هذا، نرى صاحبها يفصح عن عدم قبضه على يقين الإجابة عن سؤال العلاقة بين الذات في سردها لسيرتها من جهة، والتاريخ الذي احتواها من جهة
أخرى. سؤالٌ يتشكك في "دِقة" تلك الأحداث وما جرى في لحظات استعادتها، عبر الكتابة المدفوعة بذاكرة قد تخون! بذاكرة تتعرض هي نفسها لخيانة الزمن لها! ولذلك نجده يقول: "ليس من اليسير علينا في عالمنا الراهن رؤية أين يبدأ التاريخ، وتنتهي السيرة الذاتية. إنّ الشقوق تتخلل كليهما، تتخلل الوجود المعاصر كلّه، وجوداً نكداً، يمتلئ بالصمت والغضب، التضليل والرعب. لقد أقحمتُ مقالات مختصرة في حكيي – صفحة، صفحتين – فيما يبدو، لملء هذه الشقوق".
ليست هذه "الشقوق" سوى الخيانة التي يقترفها الزمن بحق ذاكرتنا حين نستنهضها، فنعاينها تتأرجح أو تترنح، فنسارع بإسنادها بالكلمات. بكلماتنا نحن الطالعة مِن كياننا الشخصيّ، وأيضاً بالكلمات المستخرجة من كتابات سِوانا، علّها تسعفنا في "ترميم" المتآكل والمنقوص مِنا، وعَـنا، وفينا، وحولنا! وربما لأنَّ حال "الإظلام النصفي" هي حال كلّ ما نحن بصدد استعادته، فإنَّ سؤال المصداقية، أو "الموثوقية" – بحسب تعبير إيهاب حسن – يظل سؤالاً غير محسوم، يظل رهن "الثقة المتبادلة ليس غير"، كما يُنوِّه في الجملة الأخيرة لتصدير كتابه.

*   *   *

أرى في كتاب "الخروج من مصر: مشاهد ومجادلات من سيرة ذاتية" احتمالاً، أو اقتراحاً في "كيف نكتب" سيرتنا على نحوٍ يتناسب وشخصياتنا، وخصوصية تواريخنا الخاصّة – تلك التواريخ المتولدة من تواريخ مجتمعاتنا في الأبعاد التي كانت ذات تأثير كبير في تشكيلنا وتكوين وعينا. وإيهاب حسن لم يكن إلّا واعياً لهذه المسألة تحديداً، حين قرر "تسجيل" سيرته: واعياً للسبب الأوّل الذي حدا به إلى هجر بلده أولاً، وإلى عدم العودة إليه أبداً، رغم توفر محيطه على إمكانيات تكفل له أن يحقق نجاحاً مهنياً ومعيشياً واجتماعياً: عائلة أرستقراطية بمعنىً ما، ذات حضور ونفوذ نسبيّ في الدولة، شبكة علاقات آمنة، ووفرة مالية بمقدوره البناء عليها!
كان هذا في أربعينيات القرن الماضي، مصر الملكيّة في مرحلة ذبولها وانحطاط قِيَمها وممثليها ورجالاتها. ذلك كلّه شكّلَ مشهداً حياً عاشه الشاب إيهاب حسن، مستنكراً له ورافضاً، ضافراً إيّاه برؤيا استشرَفَت ما يفيد بأنَّ مصر الحضارة أفُلَت منذ زمن، ولن تعود يوماً فتنهض! تلك هي الحالة التي استبدّت بخريج كلية الهندسة الكهربائية الحاصل على منحة للدراسة في الولايات المتحدة، البلاد المحلوم بها بوصفها الفضاء المشرع له، ولسواه، من أجل تحقيق الذات:

"الخروج من مصر، إلى المركز الذي تتبلور حوله الأحداث، وتتشعب السُبُل والآفاق.. نحو الزمن الحقيقي"! وأيضاً: "ما الذي كنت إذاً أطمح إلى اكتشافه في أميركا؟ ليست القداسة: بالأحرى، الأفق، انفتاح الزمن، تاريخ أكثر قابلية للبقاء. وكنتُ أيضاً أبحث عن فضاءٍ خاصّ ما أتغيَّر فيه، وأنمو؛ حيث أنني لم أكن أحبّ ما كان يمكن أن تؤول إليه حياتي في مصر الخالدة. ولذا رحلت – لا، هربت –".

هذا ما كان منه، وما فعلَه بالضبط؛ إذ داخل ذاك الفضاء/ المركز أعاد إيهاب حسن تشكيل

نفسه وجَبْل هويته، متحولاً من الهندسة إلى الأدب، ليصبح، بعد سنوات قليلة، أحد "آباء" التنظير لتيّار ما بعد الحداثة، ومرجعاً رئيسياً في فهمها وتحليل نصوصها!
هل يصحّ لي القول بأنَّ هجرة المكان الاختياريّة، في هذه الحالة تحديداً وشبيهاتها، إنما كانت غوصاً داخل الذات لاستخراج ما دفنته أوهامُ الأوطان الأولى، واشتراطاتها الثقافية؟ وهل لو بقي إيهاب حسن في مصر، أكانت تتاح له "الفضاءات" اللازمة لكتابة أكثر من اثني عشر كتاباً، ومئات المقالات في الأدب والنقد وما بعد الحداثة في الغرب، إلى درجة تسميته بـ"أبو ما بعد الحداثة"؟
من أشهر كتبه وأوسعها انتشاراً ومقروئية "تقطيع أوصال أورفيوس: نحو أدب ما بعد حداثي"، ولعلّ كلمة "تقطيع" أعادتني إلى مفتتح هذه الكتابة عندما أشرتُ إلى عنوان أمجد ناصر "الحياة كسردٍ متقطع"، لأجدد تأكيدي على أنّ هذه السيرة أرادها صاحبها متقطعة، لأنّ العالم نفسه لا يتسلسل! ولا يسلس! ولا يمكن ضبط ذاكرة مَن يتصدون بالكتابة عنه.. وعنهم!

*   *   *

بعد خروجه من مصر بأربعين سنة (1946)، نشر إيهاب حسن سيرته هذه (1986)، ليختمها بهذا الإقرار:

 أنا "أكتب" فقط بدون معرفة أو تذكُّر أوَّلي.

*   *   *

ولد في 1925، وتوفي في 2015 عن تسعين عاماً.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.