يُتاح لعطايا مرة أن يتحرر من كوابيسه، لكنه سرعان ما يصطدم بواقع أشد هولاً ورعباً مما يكابده في الكوابيس، حيث يعي ذاته على سرير، وقد فقد واحدة من قدميه، وإذا ما تطلع إلى وجه زوجته ظبية، يكتشف مقدار عدد السنين التي ضاعت من عمرها، بينما في كوابيسه، كانت امرأة تتمتع بالحيوية والنشاط، ولا تكف عن محاولة تخليصه من أوجاعه وهمومه، وفي الواقع غدت أحوج ما تكون للشفقة والرثاء. كذلك حال أم سليم، تلك المرأة التي كانت تخشى
هذا التنقل والتأرجح بين ما هو واقعي، وما هو كوابيسي، أشبه ما يكون بصخرة سيزيف، حيث لا فكاك من المعاناة، ولا إمكانية لتحرر الشخصيات من جحيم ما هي به، وهو تماماً ما آل إليه مصير السوريين، فهم من شدة هول ما أصابهم، ما عادوا قادرين على تمييز الواقع من الكوابيس.
سفير جميع المعذبين والمقهورين
استطاع عطايا أن يكون سفيراً لجميع المعذبين والمقهورين على هذه الأرض، وكأن تلك الرصاصة التي اخترقت جسده على يد رجال ما يسمى بالدفاع الوطني التابعين لميلشيات الأسد، كانت بمثابة الزورق الذي أبحر به إلى عوالم المغيبين والموتى والأشقياء، ومن هناك استمد طاقة خيالية رهيبة، أتاحت له الإحساس بالضحايا ومعرفتهم واحداً واحداً، بكل تفاصيلهم وأسمائهم وأسرارهم وعذاباتهم، يستحضرهم من خلال أغراضهم وأثاث بيوتهم، وكأنه يعيد خلقهم من جديد، ويعيد الاعتبار إلى ممتلكاتهم المنهوبة، لئلا تتحول إلى مجرد جمادات صامتة خرساء، والأمر لا يقتصر فقط على ضحايا أبناء جلدته من السوريين بل يمتد إلى جميع المقهورين على هذه الأرض، إذ يكفيه أن يبصر أياً من أغراض أو أشياء الضحايا، حتى يتعاطف معهم وينبري ليحدثنا عنهم وعن تجاربهم، كما حدث مع آنيا تلك المرأة الألمانية التي عانت ما عانت من عذابات تعنيف ابنها لها، فغدت كائناً حاضراً في صيرورة أحداث الرواية، وبالمقابل كانت أم سليم، من خلال سريرها، تتقاسم مع آنيا معاناة عطايا. أم سليم كانت هاجساً رافق عطايا طوال وجوده الكابوسي في سورية، وآنيا رافقته أثناء وجوده الكابوسي في ألمانيا، حينما سكن الشقة التي كانت تسكنها قبله، فتشابكت خيوط أحداث الحكايتين مع حكايات الآخرين، في محاولة تسعى إلى دمج المآسي الإنسانية فيما بينها وكأن الضمير الإنساني الذي أصابه الوهن، قد عاد ليحيا في وجدان عطايا، وما تعاطفه مع آنيا الألمانية على الأرض الألمانية إلا من هذا المنطلق، بينما رالف الشاب الألماني يشكك في كل ما يرويه عطايا أمامه، وتأبى كاميراته إلا أن تصور ما هو منطقي، وما يتمتع بحدود ومقاسات. وتلك هي كناية عن ماكينة الإعلام التي لا تلتفت إلى الضحايا والأحداث إلا بغرض صناعة مادة إعلامية، بينما عطايا يتغلغل في نسيج المآسي الإنسانية، رافضاً تحويل الضحايا إلى مجرد أرقام، فهو يستحضرهم، ويستعيد أرواحهم عن طريق أسرتهم وثيابهم وأغراضهم المنهوبة والمباعة في أسواق التعفيش التي انتشرت في المدن السورية، جاعلاً من تلك المسروقات مرآة تعيد أنفاسهم وأرواحهم وحكاياتهم، وكأن تلك الاشياء الجامدة، الصامتة، باتت أكثر حياة من هذا الصمت والحياد الذي استغرق به الكون تجاه الإجرام المتفشي. أو كأنها لا تفعل ذلك، إلا نتيجة غياب من يروي ويتحدث عن الضحايا، ولهذا يعيد عطايا لهم أرواحهم
الإفتراضية، فنراهم يمارسون النشاطات المشابهة لنشاطاتنا نحن الأحياء، فيتحول موتهم، مع ملامحهم وحكاياتهم تلك، إلى موت حاضر في كل منا نحن الأحياء، بل يغدو عالمهم هو الأرحب والأوسع، حتى يخيل لنا أننا بتنا نحن الهامشيين وهم الأساسيون، وكأنما اعتماد المؤلف على فضاء الكوابيس، ليس إلا محاولة لتشريح الواقع المعاش، وفضح زيفه ونفاقه، وكذلك سعياً منه إلى تدمير العلاقة الاستهلاكية بين الإنسان وأغراضه، فتركنا وجهاً لوجه أمام شخصيات كابوسية، تعبر أمامنا في شريط سينمائي، أو كأننا نحن من كنا نعبر أمامهم بخوفنا وخجلنا من خلال هذا الشريط، مما يثير شفقتهم لحالنا، وحال صمتنا قائلين إنه ليس بينكم ضمير حي إلا ضمير عطايا.
وأخيراً، ولشدة حساسية عوالم وأحداث الرواية، غالبنا شغف أو تمن لو أن المؤلف لم يكشف سر هذا السحر الكابوسي بمنطق الواقع في نهاية أحداث الرواية.