}
عروض

"لا تشبه ذاتها": الإنسان المريض في عالم متدهور

فيصل دراج

21 مايو 2019
أنجزت ليلى الأطرش في روايتها ما قبل الأخيرة: "ترانيم الغواية"، العمل الأكثر تكاملاً واتساقاً عن مدينة القدس، منذ سنوات ما قبل الاحتلال إلى مآلها المأساوي الأخير. لم تبتعد في روايتها الأخيرة: "لا تشبه ذاتها" كثيراً عن المدينة المقدسة المحتلة، وإن جعلتها مستوى في رواية متعددة المستويات، تواجه عالماً خرباً غادر القيم والفضائل واستقر في أقاليم الخراب.
اتخذت الروائية من المرض مجازاً واسعاً تأملت به "دنيا جديدة" عوْلَمت فقراً طاغياً وغنى فاسداً، وعَوْلَمت أكثر ظلماً متزايداً وعدالة نشيطة الانحسار. ارتكنت إلى ساردة سطا عليها مرض السرطان وبحثت عن علاج في لندن وعمان، وفي روح صابرة متكتمة شغوفة بالجمال. بدا المرض ـ المجاز وباءً بصيغة الجمع، يلفّ أقاليم مختلفة ويوزّع التدهور، بأقساط متباينة، على بلدان متخمة بالفقر والمشقة وعلى أخرى تقتات ببلدان كانت "تعيش راضية" ذات مرة، حال أفغانستان وفلسطين اللتين استولدت منهما الكاتبة شخصياتها الروائية الأساسية. وإذا كان هذان البلدان شكلاّ روائياً، مرآة لعالم راهن، كلما تعوْلم تدهور، فإن في أحوال "مريضة السرطان" ما يعكس مرايا الروح الإنسانية في احتمالاتها المتعددة، الممتدة من الفقد والمعاناة إلى الأمل والألم والتأمل، وانتظار يوم تشرق فيه شمس دافئة.
أقامت ليلى بنية روايتها على متواليات من الأضداد، تحتضن ماضياً يعارض الحاضر، وخصباً سالفاً منعطفاً على خراب لاحق، وقلباً نابضاً بالعشق والمسرّة يغاير قلباً مطفأ، عانى الخذلان والخديعة. ولعل الجسد المريض، المحاصر بعالم بارد لا يحتمل، هو الذي أملى على الروائية: استراتيجية البوح، إذ القول يأتي لاهثاً، ويصدر متقطعاً، موزعاً بين المعاينة والشرود والصراخ والنسيان. كما لو كان البوح اعترافاً أملاه المرض، والاعتراف شهادة على المشتهى والمؤجل، وعلى عالم متدهور لا يؤجّل خرابه أبداً. تقول الساردة في مستهل الحكاية: "أكتب بلا ترتيب لأنني أروي قصة حياة، لا أشيّد عمارة بمواصفات فنية،... هي قصة امراة لا تشبه من أحبتك وغيرت حياتها من أجلك". تومئ الكلمات إلى روح تغيّرت، ففي المرض والحب المخذول ما يفضي إلى تغيّر لا اقتصاد فيه ويشير، بصفحات طويلة محتشدة بالوقائع الملموسة، إلى عالم فقد روحه، منصبّا القوة والمال والدين والتعصب والتكفير والهجرة القسرية والعنصرية الطليقة مرجعاً "لنظام كوني جديد"، نظامه سديم وجديده شرور "مقدسة".
لا يتكشف "الفعل الروائي"، في بعديه الذاتي المقهور والكوني المتدهور، إلا بالتوقف أمام
"الوثائق السياسية ـ الاقتصادية ـ البيئية"، التي أدرجتها ليلى الأطرش باجتهاد كبير في روايتها، كما لو أنها قرّرت أن الدخول إلى عالم "مريضة السرطان"، وهي مفرد محدود الأسى، لا يأخذ معناه إلا بنشر "فضائح الواقع الذي نعيش"، المتسع "لسرقات متعددة الجنسيات وتدمير التربة الزراعية للشعوب الفقيرة وهندسة خرابها الروحي والفكري والاجتهاد المسلّح في صناعة التعصب القاتل والعقول المغلقة وملكوت السلع الأنيقة المبني على ’جماجم المحرومين’".
أنجزت الروائية "شخصنة السلب في هذا العالم"، إذ لكل خراب معادل روائي يحيل عليه، ولكل قهر شخصية تعبّر عنه. يتكاثر "ملالي أفغانستان" بلا وجوه، فوجههم قائم في أرض بور ونساء مغتالات وفنون منتهكة، ويحضر اليهودي بشوشاً لطيفاً ويظل تاجراً، ويصل التضليل اليهودي إلى قبائل البشتون الأفغانية، إذ في "التهوّد" ما يمنح فيزا ويسهّل الهجرة إلى "أرض النعيم"، ولمهندس تربة الفقراء اسمه وشركته، التي تسقي المضطهدين وأرضهم بمطر غريب يقتل البشر ويبيد الزرع، وللفلسطيني الثري مكانه في الزمن المتعوْلم، يتاجر ولا يدقق بمصدر ربحه، كما لو كانت فلسطينيّته العتيدة ذكرى بعيدة، أو صفة موروثة أقرب إلى لقب يتآكل مع الزمن، و"للعَيْن الأفغاني" المهيب المقام، المنتسب إلى رموز دينية أثيلة القداسة، موقع تجاري فسيح التسامح، يشعل النار بالسياسة والإيديولوجيا وينصرف سعيداً إلى ريعه الوفير.
قد يوحي نص ليلى الأطرش الروائي بشخصيات ـ مقولات ما يختصر البعد المتخيل إلى درس تربوي، دون أن يكون الإيحاء سليماً، ذلك أن المادة المعرفية ـ الوثائقية المدرجة في النص، تمثل شخصية أساسية من شخصياته الروائية. بل إنها شخصية شاهقة، تخبر في حضورها المتناوب، عن الحب الخائب والمرض النشيط، كما لو كان زمن الرواية المتعدد الأبعاد لا يسمح بالحب ولا يعترف به، فهو زمن مريض يستولد المرض ويغذيّه. لذا لا يتجسّد السرطان في مريض مفرد، إنما هو مرآة عالم فارقته القيم، "حال عالم" يبدو فيه الفن والحب "بُقْيا" من زمن يجتهد في رحيله.
تتعين أفغانستان، الواسعة الحضور في الرواية، مجازاً يحيل، من ناحية، إلى بلد أتقنت عصاباته المسلّحة صناعة الموت والكراهية، ويحيل، من ناحية ثانية، إلى "عبث الدنيا"، حيث يتراجع التسامح ويتصاعد التعصب، وينسحب الرقيق والرهيف والجميل، ويعلو الغليظ المتوحش المشدود إلى تجارة السلاح وصنع المبيدات وقطع الأشجار ومحاربة "الخضرة"، التي يدافع عنها "الخضر"، الذين يأتي ذكرهم في الرواية أكثر من مرة. ولهذا ترزح الأنثى تحت ثقل المرض والذكورة وسطوة المال الحرام، وأحكام فقهاء الظلام، وعبدة الأحادي المستبد الذي يختصر الجماعة إلى فرد والاجتهادات إلى اجتهاد زائف والإسلام المتعدد، المسامح في تعدديّته، إلى إسلام ظالم وحيد، يعلي من شأن الجهل ويسوّغ القتل السريع منتهياً إلى إسلام فقير، يكاثر المسلمين الفقراء ويعدهم ينعيم قريب.
أقامت الروائية، وهي ترسم عالماً مريضاً، موازاة لا تلعثم فيها، بين خراب أفغانستان، الذي أشرف عليه جهل مسلح وخبراء "متحضرون" ينصرون الجهل المقدس، وبين مأساة فلسطين، كما لو كان الصهيوني القاتل "ملّا" خاص مجاهداً بين "الملالي"، يطرد الفلسطينيين خارج
أرضهم، مثلما يطرد "الملالي المجاهدون" الأفغانيين إلى الخارج، أو يدفعون بهم إلى "داخل بين الجبال"، مواده سلاح مستورد و"نسب مقدس قديم"، وتجارة حشيش بينهما.
اختارت ليلى الأطرش مريضة بالسرطان أفغانية، تبادلت العشق مع فلسطيني من القدس، ولد في الكويت وأرسلته عائلته، التي أغتنت في المنفى، إلى الولايات المتحدة. تقاسمت الأنثى الأفغانية والذكر الفلسطيني العشق والمنفى، التقيا في لندن، والتآلف مع الثروة، فوالد المعشوقة ثري وزعيم من زمن مضى، ومرّا على مدينة عمان، دون أن يتقاسما الصدق والإخلاص، فالفلسطيني انتهازي متكسّب عشق العائلة الموسرة وشارك رأسها في "مشروع خاص بالتربة المسمومة"، توسل "العون والثورة" من شركاء "حضاريين" ينفتحون على إسرائيل، ذلك أن الربح انتهازي لا وطن له ولا قضية.
اتكأت الروائية على مجاز المرض وساءلت مصائر الضعفاء أمام الأقوياء. رثت في حكايات متلاحقة أفغانستان قديمة، كان لها تربة خصيبة وصناعات يدوية متقنة، وجيل من الشباب الطموح المتعلم أراد دولة جديدة، لولا تدخلات "دعاة الحضاة" الذين استولدوا تعصباً دينياً مسلحاً، في لحظة، وعادوا وحاربوه في لحظة أخرى. ورثت مع أفغانستان فلسطين قريبة وبعيدة، قاتل أهلها وهزموا، و"ترسبّت" هزيمتهم في نموذج فلسطيني "متعوْلم"، لا يقصد "حيفا"، بل ثروة سريعة مع شركاء إسرائيليين.

اختصرت الروائية صورة الفلسطيني الخرب في صور قليلة، كما لو كان في مساره المريض ما يصرّح بحقيقته الكاملة، وفي بؤسه الوطني ما لا يحتاج إلى تعليق.

أدرجت ليلى الأطرش، في روايتها الجديدة، خطابات ثلاثة: عولمة الخراب في عالم جديد، المأساة الأفغانية الأقرب إلى صناعة "غربية" متقنة، ومآل فلسطين مريضة ذاهبة إلى مجهول. كانت في روايتها "ترانيم الغواية" قد رسمت مآل مدينة القدس بأسى كبير. صاغت الخطاب الثلاثي الأبعاد بلغة مقتصدة، متوتّرة، تصرّح بقلق الروح لا بالتعاليم المدرسية. ووطدت القلق بضمائر متداخلة، يتصارع فيها المتكلم المباشر والمخاطب والغائب، موحية بقلق الحقيقة، الذي يلامس العالمين الداخلي والخارجي ويظل محتجباً.

انزاحت رواية "ترانيم الغواية"، التي وصفت تاريخاً قديماً وحاضراً لا يعوّل عليه، عن روايات ليلى السابقة، انزاحت الرواية الأخيرة عن سابقتها، واستدعت الروايتان معارف تاريخية موثقة، أملت على الروائية تغيّراً مبدعاً في البناء واللغة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.