}
عروض

"المخلوقات لا تعرفك" لجوان تتر: الكتابة بوصفها موطناً

أشرف الحساني

19 مايو 2019
وداد نبي، خوشمان قادو، ميس الريم قرفول، جوان تتر، عارف حمزة... كل هذه تجارب شعرية مميزة تشكل في نظري أفقاً شعرياً مغايراً داخل الشعرية السورية الجديدة، وامتداداً عميقاً لما بات يعرف منذ تسعينيات القرن الماضي بالحساسية الجديدة في الشعر العربي المعاصر، فقد أبانت نصوصهم عن وعي شعري جديد ومغاير اخترق جسد "القصيدة" العربية المعاصرة، لما شهدته من إبدالات مفاهيمية بعد شمس الربيع الحارقة التي بزغت ذات يوم على وطننا العربي. وكان لهذه اللحظة التاريخية بما شهدته من فوران سياسي واجتماعي تأثير كبير ومباشر على جملة من المفاهيم والتصورات المتصلة بالمنظومة المعرفية والثقافية بما فيها مفهوم الشعر وخرائطه مع بروز أسماء شعرية جديدة استطاعت أن تخطّ لنفسها مساراً شعرياً جديداً مغايراً عن الأجيال الشعرية الأخرى، إذ أن الشعر الذي كتب في هذه المرحلة من الربيع العربي، أو حتى الذي يكتب اليوم داخل سورية، أكثر التصاقاً والتحاماً بالواقع المتشظي ومرآة له، عاملة تجاربه على تذويب الواقعي في الشعري وواضعة المسافة في آن واحد بين الواقعي والمتخيل، لتسمو به فيصير النص الشعري بذلك أكبر من الواقع اليومي المبتذل.

الشعر مرآة للواقع
حين شرعت في قراءة العمل الأخير للشاعر السوري جوان تتر الصادر ضمن منشورات

الموجة الثقافية بالمغرب والموسوم بـ"المخلوقات لا تعرفك" (وهو عمل يضم مختارات من الشعر الكردي الحديث) وجدتني حقيقة أمام شاعر خابر الكتابة الشعرية ممارسة ونقدا، شاعر لا يلقي الكلام على عواهنه كما يقال، بل يعرف كيف ينحت الكلمات وينسج للمخيلة السورية/ الكردية صوراً منتزعة من واقعه المتشظي والمنفلت من قبضة المنطق؛ وذلك بلغة شعرية بسيطة قريبة من لغة المحكي اليومي، وهي إحدى صفات ومميزات التجربة الشعرية الكردية الجديدة، إذ يصبح النص هنا مرآة للواقع البئيس، وما يعيشه من حروب وويلات، غير أن شعرية جوان تتر لا تعيد رسم الواقع ومحاكاته بطريقة نمطية، بل هو يعمل على مسرحة الواقع شعرا، وبالتالي يصبح الشاعر متأرجحا على تخوم واقع جديد لا أحد يراه غير عين الشاعر وهي تحدق في الخراب وترتق مرارة الحرب وما آلت إليه البلاد. وهو أمر يذكرني بما شهده المغرب خلال فترة السبعينيات من القرن الماضي، حين أصبح النص بمثابة وثيقة document تاريخية شاهدة على واقع مرير، فالنص آنذاك كان مصاباً بحمى الأيديولوجيا والصراخ والعويل، فلم يكن بعض الشعراء من هذا الجيل يحفلون بالبعد الجمالي الذي يميز الشعر عن غيره، حتى جاء الجيل الثمانيني فحاول أن يخرج القصيدة المغربية من ربقة الأيديولوجيا والخطاب السياسي المباشر، وإن كانت بعض النصوص الأولى لهذا الجيل أيضاً قد انتقلت لها العدوى، فأصيبت هي الأخرى بحمى السياسة، لكن النص عند الشاعر جوان تتر باعتباره أحد الأسماء التي تمثل التجربة الشعرية السورية الجديدة كان يشي بهذا النزوع نحو القيم الجمالية والحياتية الكبرى التي تمنحها لنا نصوصه، بما تحبل به من اشتغال فني على الصورة باعتبارها المحرك الرئيسي للنص "المتخيل" الذي سماه غاستون باشلار في معرض حديثه عن المكونات النفسية التي تحدد طبيعة الحلم الإنساني بالخيال المادي، الذي يحدد ويشرح أحلام اليقظة.
من هنا تتحدد وتنبني جمالية النص الشعري عند جوان تتر من خلال عنصر الخيال ومن قدرته على النفاذ والاختراق إلى عمق أشياء الواقع اليومي بغية اجتراح وخلق صيغ جديدة تموضع

وتحدد صوراً أخرى متخيلة من الواقع السوري المخيف. يقول غاستون باشلار في هذا الصدد "مثل كثير من القضايا السيكولوجية، فإن الأبحات حول الخيال اضطربت بالاضاءة الخاطئة للأيتمولوجية l’étymologie، نريد دائماً من الخيال أن يكون ملكة لتشكيل الصور، إلا أنه بالأحرى ملكة لتغيير الصور التي يقدمها الادراك، وخاصة ملكة تحريرنا من الصور الأولى، تغيير الصور. إذا لم يحدث تحول للصور وامتزاج غير متوقع لها، فليس ثمة خيال، وبالتالي ليس هناك من فعل متخيل". وهو الأمر عينه الذي فطن إليه جوان تتر في عمله الشعري "هواء ثقيل" الذي عمل فيه على تجاوز الصورة الأولى لواقعه محاولا اجتراج أفق جمالي وتخييلي يقيم علاقة بين الواقع والمتخيل، لأن الخيال كان وما زال بمثابة "الجوهر الثابت والدائم في الشعر" بتعبير جابر عصفور، لذلك حرص جوان تتر على أن لا يستعيد هذا الخيال باعتباره بنية متعارضة مع الحقيقة والعقل، كما جاء ذلك على لسان النقد العربي القديم، بل عمل ببراعة على وضع الواقع داخل بنية الخيال لأن النص الشعري عنده ليس مجرد صدى لما يجول في الواقع السوري من تشرذم وشتات، فيصبح الخيال هنا بمثابة مرآة مشروخة تعيد ترتيب تخييل للواقع لا لإعادة محاكاته، بل لاعادة صياغته وتشكيله وخلقه من جديد وفق صورة شعرية أكثر حلمية.
إن قراءة المنجز الشعري عند جوان تتر بوصفه أحد الشعراء المنتمين إلى الشعرية العربية الجديدة في سورية يضعنا أمام سؤال جد مهم طالما شغل الدارسين في الخطاب الأدبي، بل وأسيل عنه الكثير من الحبر في بعض الكتابات الفلسفية المعاصرة، خاصة مع جوليا كريستيفا، وهو سؤال مرتبط بحدود العلاقة بين الإبداع والإنتاج، فالنص الشعري هنا لا يتأسس على الفراغ بقدر ما يظل محملا بشذى نصوص شعرية أخرى ومسكونا بالآخر الذي يتملكه لحظة الكتابة، لذلك فاننا لحظة الكتابة نكون في حضرة الإنتاج أكثر من الإبداع بتعبير كريستيفا، لأننا نكتب انطلاقاً من لغة مترسبة في ذواتنا، وبالتالي تصبح الكتابة هنا مجرد عملية تروم إلى استكناه المترسب في دواخلنا إبداعيا. لكن الأمر الذي لم تنتبه إليه كريستيفا في نظري، هو هذا الإسقاط النظري المعمم على مختلف مشارب الكتابة الإبداعية، علماً أن الأمر يختلف حين نكون في حضرة الشعر، الذي يتسم بميسم يجعله مختلفا عن الأجناس الأدبية الأخرى وهو: بنية الصورة.
نستنتج من هنا أن النص الشعري عند جوان تتر يتحول إلى بؤرة تتجمع فيها نصوص متعددة ينتمي بعضها إلى الموروث الشعري العربي كما هو الشأن في قصيدة "لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي"، لكن دون أن يعني أن نص جوان يقوم بتجميع تلك النصوص أو يعمد إلى اجترارها بشكل واضح ونمطي، لأن الأمر هنا مرتبط بما سمي أحيانا بالتصادي مع الموروث. غير أن المسألة هنا رهينة ما قد يحدثه نص جوان تتر من تغيير جدري في الموروث الشعري المستلهم حتى يتحقق شرط التصادي المنشود، فيصبح النص المستلهم في هذه الحالة مجرد أثر أو وشم شعري على جسد النص الشعري الجديد. فهذا الامتداد الشعري والجمالي الذي يحاول الشاعر جوان تتر أن يقيمه مع الموروث نابع بالأساس من قدرته على جعل نصه يتنفس بأكثر من رئة واحدة، فضلاً عن رغبته في ابتداع نص ينضح بزخم ثقافي، وهو الأمر الذي نفهمه مع رولان بارت أن النص الشعري يظل سجيناً لنصوص الغير، لكن وفق ممكنات واشتراطات شعرية سبق ذكرها ولا يتحقق ذلك إلا بها.

فتنة الترجمة
أما عن إمكانية الترجمة فتجدر الإشارة إلى أن عملية ترجمة نص من لغته الأم الى لغة أخرى  لا تكاد تخلو من بعض المطبات خصوصاً حين يتعلق الأمر بالشعر، لذك حتى وإن كان المترجم ذا معرفة كبيرة بالكلمات والمفردات والسياقات الأدبية التي أنتجت ذلك النص الشعري، فهو يظل قاصرا على الإلمام بذلك. لكن حين يتعلق الأمر بالشعر يصبح الأمر أكثر صعوبة مقارنة مع الأجناس الأدبية الأخرى، باعتبارها عملية تنبني على تبادل إبداعي لا نقليّ، ثم إن مترجم الشعر يشترط فيه أن يكون ذا ذائقة فنية وجمالية تمكنه من فك ميكانيزمات الصورة الشعرية ونقلها الى اللغة العربية دون أن تفقد بريقها الشعري والجمالي، وهي عملية تكاد لا تخلو من بعض اللبس، خاصة المشكل المرتبط بانحراف المعنى، فاذا لم يع جوان تتر أو مترجم آخر خصوصية المعاني وإمكانية تصنيفها يصعب عليه نقل النص من اللغة الكردية إلى العربية. وذلك على الخلفية الفلسفية للغة باعتبارها رؤيا للعالم، وبالتالي فإن تلك اللغة هي

بمثابة روح ومخيال جمعي لأمة ما، وكل خلل في "النقل" يحرف المعنى المراد الوصول إليه، فيتناقل القراء المعنى الذي يرفرف بأجنحته حول المعنى الأصل ويغلف بحقائق واهية يصعب قلبها وتغييرها داخل البحث العلمي وفي المجال التداولي بين المثقفين بعد مرور سنوات عليها.
لذلك فإن ترجمة جوان تتر لا تعمد إلى نقل النص إلى لغة أخرى، بل إلى إعادة بناء وترميم عوالم النص لحظة ترجمته، فتصير الترجمة هنا نشاطا كتابيا تنمحي معه الحدود بين النص الأصلي والنص المترجم، إذ يقترب في ممارسة شغبه وتمنعه إلى ما يشبه كتابة الشعر نفسه، خاصة إذا علمنا أننا إزاء مترجم هو في الأصل شاعر يعرف كيف يجيد تركيب المفردات ويعرف بحدسه خبايا الجمل الشعرية وما يسري في جسد النص من صور، ناجحاً في ترجمة المحتوى الشعري والاعتناء بالشكل الأسلوبي للنص، لذلك فان أنجح ترجمات الشعر في نظري هي التي تتضمن الكثير من التوليد والخلق والابتكار داخل النص المترجم، خاصة تلك التي تترجم على أيدي شعراء، كما هو الشأن عند الشاعر أدونيس في ترجمته سنة 1976 لقصائد سان جون بيرس وما أحدثته من ثورة معرفية داخل أوساط المترجمين العرب، مستندا في ترجمته على التأويلية المعاصرة التي تروم إلى إعادة بناء عالم النص الشعري المترجم وكتابته إلى درجة يستحيل معها تمييز النص الأصل عن النسخة. وهو الأمر عينه الذي ذهب إليه بنيامين في تمييزه بين النص والترجمة، فالنص ينصاع للترجمة وإعادة الترجمة مرات عديدة بينما يمتنع النص المترجم عن الترجمة بدوره.
شيرو هندي، خوشمان قادو، جوان قادو، حكيم أحمد، أفين شكاكي، جوان نبي.. كل هذه أسماء شعرية عمد جوان تتر في كتابه "المخلوقات لا تعرفك" إلى ترجمتها ببراعة من اللغة الكردية إلى اللغة العربية إيماناً منه بقيمتها الجمالية وتفردها في المشهد الشعري الكردي المعاصر. وهي تجارب تحتفي بشرودها وتمردها على اللغة وتعمل على بناء شعريتها من الأشياء الصغيرة التي تخلفها الحرب في ذواتنا، إنها بمثابة نداء خفيّ حول ما يجري اليوم من قتل وتعذيب وترحيل في بقعة عربية تشهد عرساً من الدم داخل شعب طالما ظل يحن منذ شمس الربيع العربي إلى بعض من الهواء النقي.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.