}
عروض

"العينُ الأَرِقَة".. جوان قادو يواصل شَغَبَهُ الشِعريّ

تتميّز قصيدة الشاعر الكُردي جوان قادو (مواليد 1980)، بمُفرداتها المُغايرة والإشكاليّة؛ ثمّة منطقة لغويّة بدتْ مُغيّبة عن الشعر الكُردي الحديث، يُدخلنا إليها بهدوءٍ ودونَما مواربة. لُغةٌ حادّة وبسيطة حدّ الهشاشة، فيها من الحنكة والمتانة، بقدر ما هي رقيقة وعذبة، عدا عن أنها صادمة أيضاً: "رأسي مليءٌ بعيون الموتى"، "عنق الشيطان"، "حياتي كسحليّة جائعة"، "الكليجة (نوع من المعجّنات)"، "طفلٌ مُصابٌ بالحصبة/ يعدو في رأسي"، وغيرها الكثير من المُفردات والعبارات نجدها بين ثنايا قصيدتهِ، ويكاد أن يؤسّس لمعجمٍ خاصّ بهِ.
كأنما يريد الشاعر أن يوسم أعماله بأسلوبٍ لغويّ جديد، عايشه منذ طفولته وصباه، متأثراً في ذلك بالمكان– مسقط رأسه، فضلاً عن تأثره بالملاحم والأغاني التراثية الكُردية، تلك المنتقلة شفاهاً إلى الأجيال أو المحفوظة على أشرطة التسجيل القديمة، حيث لا تخلو تلك الملاحم من التغني بمفردات الطبيعة والموروث الفكري الشعبي، وبالتالي فالشاعر هنا يعيد إحياء بعض من ذاك التراث الكردي، مختلفاً في ذلك عن الكثير من مجايليه، وهذه إضافة أخرى إلى جانب توحّده الذاتي مع ماضيه.

اللغة الإيمائيّة
في مجموعتهِ الشِعريّة الأحدث "العينُ الأَرِقَة"، الصادرة باللغة الكُرديّة عن منشورات هنار في

القامشلي 2018، يواصل الشاعر جوان قادو شَغَبَهُ الشِعريّ، وذلك بالنحت الحثيث في جوانب حياتيّة غير مطروقة، جنباً إلى جنب مع عنايته باللغة المشهديّة، تلك اللغة الإيمائيّة، والإلمام الدقيق بجماليّاته، ما يُمهّد لحساسيّة جديدة، لم تألفها الشِعريّة الكُرديّة من قبل. يقول: "إنْ رحلتُ دونَ وداع/ ضعوا قلبي، على حجرٍ أملس، تحت الشمس../ ليذهب الحنينُ هباءً/ وليتكوّم النحلُ عليهِ/ انزعوا موضع عسلٍ حنقٍ ومشاكس/ وأعِدُّوا الحلوى من بقاياه، الحلوى../ حلوى اللاطمأنينة".
النبرة الحميمة، في المقطع السابق، ينسحب على معظم قصائد المجموعة، سواء من جهة تناوله لاستعارات غير مألوفةٍ، أو من حيثُ التداخل السلس والمزج ما بين ثنائيّات عدّة، جُلّها متناقضة: "الحجر" و"الأملس"، "العسل" و"المشاكس"، "الحلوى" و"اللاطمأنينة"؛ ثمّة تقابل جليّ ها هنا، تقابل غير متشابه وغايةً في التضاد.

التحرّر من أسر العنونة
يكتب جوان قادو وكأنّه في حالة حبّ دائمة، يكتبُ حنينهُ وصمته، وجعه وفرحه، أمسه وغده؛ ثمّة كتابة متواصلة، لا نهائيّة، ومفتوحة على العديد من الاحتمالات. قصائدٌ قصيرة، بعضها لا تتجاوز أسطراً عدّة ومتحرّرةً من أسر العنونةِ، تماماً كخيول البراري. حيثُ يرقّمها الشاعر بأرقام تشبه الفواصل إلى حدّ ما، للاستراحة فقط لا أكثر، لتبدو المجموعة وكأنها عبارة عن قصيدة واحدة طويلة وذات نَفَسٍ واحدٍ، عميقٍ وآسر. جُملٌ قصيرةٌ هنا وأخرى طويلةٌ هناك، أصوات هارمونيّة، عديدة وجمّة، يقول: "وسط فوضى الخراب/ تقدحُ شرَرَاً/ تلك العيون الخائبة والنادمة../ والجمال يلفظُ، حيثُ هو، أنفاسهُ الأخيرة".
الصيغة التصويريّة، في المقطع السابق، تضيفُ المزيد من البراعة والإدهاش على أجواء

القصيدة، ما يجعلها قصيدةً مرئيّةً للنظر والتأمّل، أكثر من كونها قصيدةً مكتوبةً وحسب.

تدوين اليوميّ
مجموعة "العينُ الأَرِقَة"، والتي جاءتْ في مئة وأربع صفحات من القطع المتوسط، هي الإصدار الشِعري الثالث للشاعر جوان قادو، وفيها نقرأ عن توثيق تفاصيل الحياة اليوميّة، من حبّ الحياة والرغبة في تدوين كل ما هو آني وأزلي، وفي الآنِ معاً؛ "بعيني سجينٍ/ لا تفارقُ وجههُ أثرُ شِباك النافذة/ أنظرُ إلى الخارج/ الخارج الموجود لأجلي/ والذي هو صوتُ داخلي/ المبحوح والمُرتعش".
قصائدٌ ذكيّة وشفيفة، تقول كلّ شيء وبمنتهى البساطة والمرونة، إنّهُ "الشاعر الذي يكتب بلغةٍ، تستدرج الشِعر دون تكلّف أو عناء، بل بمهارة من يحوك العطر، بنفس رهافة الشذى"، على حدّ تعبير صلاح بوسريف.

جوان قادو: شاعر كُردي سوري، من مواليد مدينة عامودا سنة (1980)، مُقيم في ألمانيا منذ العام (2010).
شارك في العديد من الأمسيات والمهرجانات الشِعريّة في كل من سورية وألمانيا، كما نشرت قصائده في عدد من الكُتب والأنطولوجيات الشِعريّة، وباللغتين العربيّة والكُرديّة، من أبرزها: أنطولوجيا "البهجة السريّة" (2013)، وكتاب "المخلوقات لا تعرفك" (2018).
صدر له: "الأفاعي العمياء" (شِعر، 2003)، "خِلسةً غنّيتُ في سرّي" (شِعر، 2008)، و"العينُ الأَرِقَة" (شِعر، 2018).

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.