}
عروض

"تابعوا التاريخ": القيم العالمية ليست فقط غربية

يبدو أن تحليل عالمنا المعقّد، والذي يزداد تركيباً وتعقيداً، يحتاج إلى دراسات متواصلة من قِبل أهل التاريخ والاقتصاد والسياسة والتعدّد الثقافي. وتزداد أهمية هذه الدراسات التفكيكية مع تزايد "وهم النصر" في معركة التاريخ. وهذا الوهم هو المسؤول عن رغبة الأمم الكبرى في الحكم والتحكّم. فتذوب الأمم الصغرى وتجد نفسها صاغرة وممتثلة للقوانين الكبرى التي تضعها الأمم الكبرى. من أجل تحليل هذه القضايا وضع الباحث الفرنسي، هيبيرت فيردين، رهن إشارة المنتصرين والمتضرّرين، الرابحين والخاسرين، في معركة التاريخ المتواصل، دراسة قيّمة عنونها بـ"تابعوا التاريخ"، وكأنه يحُث كل الأطراف والقوى على مواصلة هذه اللعبة الخطيرة التي إذا ما توقّفت، توقّفت الحياة على الأرض. وهي دراسة موضوعة لكل من اعتقد أنه انتصر، ولكن من تراجع ظانّاً أنه انهزم. إن ذلك يحدث منذ ليل الأزمنة، لكن الكتاب يقف عند هذا المسار المخيف والمعقّد منذ "سقوط جدار برلين"، حين ظنّ الغرب أنه ربح معركة التاريخ، وأن قيّمه ستُفرض على الجميع في الغرب والشرق، في الشمال والجنوب. ويضع تاريخاً مفصلياً لهذا الوهم هو بداية تسعينيات القرن الماضي، حين هيمنت روح القوّة
على الأميركيين، والشعور بالضعف على الأوروبيين. من هذه النقطة التاريخية بالضبط ظهرت معالم عالم صعب، غير مستقرّ ومثير للقلق، كما بدأت مقولة "عالم متعدّد الأقطاب" تبتعد عن حلمنا الجمعي.
ولأن الغرب ظنّ، مع نهاية الاتحاد السوفييتي، أنه ربح معركة التاريخ وباستطاعته من الآن فصاعداً الحكم مثل سيّد، فإنه فقد الاتجاه في عالم يُرسم أمام عينيه، قليل التطابق مع آماله.
في بداية التسعينيات، بعد النصر الكامل نتيجة حرب باردة مخيفة دامت خمسة وأربعين سنة بين الشرق والغرب، استسلم الغرب للشعور بالاغتباط. اتخذ هذا المزاج، في الولايات المتحدة، شكل احتفال بالنصر. وحسب جورج بوش الأب، إن "نظاماً عالمياً جديداً" سينشأ طيلة العقد في صالح الإنسانية جمعاء. وقد أعلن الكاتب الأميركي فرانسيس فوكوياما، وهو من المحافظين الجدد، "نهاية التاريخ" فقط لأن الغرب انتصر، وليست هناك قوة ولا إيديولوجيا تستطيع أبداً أن تقف أمامه. هذه القيم - اقتصاد السوق، الديموقراطية - ستمتدُّ قهراً إلى باقي دول العالم. وعلاوة على ذلك، فقد سبق لدينغ سياو بينغ أن أصدر قراراً في الصين، في نهاية السبعينيات، أعلن فيه الانعطاف الجذري نحو اقتصاد السوق. لقد أصبح جامحاً توحيد الديمقراطية والليبرالية.
يؤكّد هـ. فيردين أن التحذيرات الصادرة سنة 1993 من طرف البروفسور صمويل هانتغتون، الذي اعتبر، بالعكس من ذلك، أن العالم مهدّد بـ"صدام الحضارات"، لم يتم سماعها، لأنها كانت جدّ مقلقة، وخاطئة جدّاً من الناحية السياسية، ومناقضة تماماً لليقين الأميركي كما للتفاؤل الأوروبي. لقد ميز بين تسع حضارات: غربية، لاتينو أميركية، أفريقية، إسلامية، صينية، هندية، أرثوذكسية، بوذية، يابانية. وقد ثار جدال تافه في تصنيفاته، وفي مفهوم "الحضارات" نفسه وعدائها المزعوم. فهل كل الناس لم يكونوا إخوة ذات يوم؟ يتساءل فيردين.
لكن ذلك لا يمنع أن الأميركيين يعتبرون زعامتهم وهيمنتهم "التي تريد الخير" ضروريتين لاستقرار وأمن العالم. أما بالنسبة للأوروبيين والكنديين فهم، في نظر صاحب الكتاب، أكثر سذاجة من الأميركيين وأقل صبراً على المساس بـ"أرباح السلم". ونهاية الحرب الباردة هذه
ستؤدي إلى ولادة مجموعة دولية حقيقية، بعد أن خابت الآمال المتكرّرة في المجتمع الدولي بعد الحرب العالمية الأولى، ثم بعد 1945، في الأمم المتحدة. في قلب هذه الأخيرة، اقتسمت كل الدول نفس القيم، المستوحاة من الغرب، لكن معترف بها من طرف الجميع باعتبارها قيّماً كونية، فبدأت جميع الدول تعمل حسب قواعد التعدّدية التي من المفروض أن تسمح حتى للدول الأكثر تواضعاً أن تسمع صوتها، وللأغلبية أن تحسم في المنفعة العامة. والدول القليلة المعاندة أو "السيئة السمعة" سيتمّ تهميشها وإعادتها إلى الرُّشد. سيتم استدراك الصراعات و"حلّ المشاكل الكبرى في قلب هيئة الأمم المتحدة أو بواسطة مجلس الأمن اللذين سيتمكّنان في النهاية من لعب دورهما على أحسن وجه كما نصّ على ذلك الميثاق، مثلما هي حالة حرب تحرير الكويت من الاحتلال العراقي، سنة 1991، بشكل قانوني وشرعي بقرار من الأعضاء الخمسة الدائمين بالإجماع". هذه الحروب القليلة ستخلّف "صفر قتيل"، على الأقل في الجانب الغربي. سترى عدالة دولية النور، وستعزل بعقوباتها أكبر المجرمين وتثنيهم، كما يأمل فيردين، عن الاستعداد لارتكاب جرائم جديدة. شيئاً فشيئاً سيتم الإحساس بتأثير "المجتمع المدني الدولي"، وسيجبر الدول على الشفافية، والقيم، والأخلاق، وستذهب أيضاً في بعض المجالات، بواسطة الجمعيات المدنية، إلى درجة أن تقوم مقامها.
أما بالنسبة للعولمة، يقول صاحب "تابعوا التاريخ"، فستكون سعيدة، حين تفتح عن طريق التجارة كل جزء من العالم على الكل. وبالإسقاط التدريجي للحماية التجارية، ستدفع الحواجز، وتزيل التوترات الهوياتية، والانكماش على الذات. ستُفيد كل الدول، كل الشعوب، كل الأفراد (في لغة العولمة الأميركية، ستصبح "رابح - رابح")، وستمنح الولادة لثقافة عالمية موافقة لصورة "كلمة طبخ" في الفنادق الكبرى بنيويورك أو شانغهاي أو ببعض أنماط الموسيقى.
يعود فيردين ويذكّر بدروس تاريخ غير بعيد، فخلال تسعينيات القرن الماضي عقدت هيئة الأمم المتحدة مؤتمرات مهمة، وتجمعات قدّاس ضخمة، جمعت بين مئة وتسعين عضواً لمناقشة البيئة (ريو، 1992)، التقدم الاجتماعي (كوبنهاغن، 1995)، مكانة المرأة في المجتمع (بكين، 1995)، وهلم جراً. لقد ترسّخ الاعتقاد في هذه المؤتمرات المتعاقبة بأن هذا التعدد هو الطريقة الوحيدة لرفع "التحديات العالمية". يتقاسم الأوروبيون، وكذلك شريحة مهمة من الديمقراطيين الأميركيين، فكرة أن العلاقات الدولية الكلاسيكية بين دولة ودولة أصبحت متجاوزَة.
إن "السياسة الواقعية"- وهي، حسب معجم روبير، "السياسة الدولية التي تعتمد على قاعدة علاقات القوة والإمكانات الملموسة، بدون تأثير إيديولوجي"- تم رفضها بسخط كما لو أنها هي من كانت وراء كل الرّعب في القرن العشرين. وبالتالي وجب استبدال "حكامة" الرهانات العالمية بنظام متعدّد، بـ"الفاعلين الجدد" (المجتمع المدني، الجمعيات المدنية، الإعلام، العدالة الدولية، إلخ...)، بالتبادل الحر ودبلوماسية حقوق الإنسان.
هذا التفاؤل بلغ أوجه مع ما أُطلق عليه "إعلان الألفية"، الذي تمّ اعتماده في 8 سبتمبر/ أيلول من سنة 2000 من طرف كل الدول الأعضاء في مجلس الأمن. يذكّر هذا الإعلان الذي يتكوّن من اثنين وثلاثين نقطة، بأن "مجلس الأمن هو مكان الاجتماع الذي لا غنى عنه للإنسانية جمعاء، حيث تعمل الأمم بكل قواها على تجسيد آمالها الدولية في السلم، والتعاون والتقدّم". إن هدف هذا النص (إعلان الألفية) هو تنزيل القيم الأساسية التي يجب أن تربط العلاقات الدولية في القرن الواحد والعشرين، ألا وهي: الحرية، المساواة، التضامن، التسامح، احترام الطبيعة، اقتسام المسؤوليات. إنها لائحة من المبادئ والدعوات من غير الممكن رفضها، حسب الكتاب.

اللجوء إلى القوة
يلجأ الغرب اليوم إلى القّوّة كما يلجأ إلى تقوية الأوهام نفسها حول القيم العالمية والديموقراطية، وتحديداً حول طابع هذه القيّم (شرعيتها وفعاليتها)، من أجل فرضها على الخارج. لا يتعلّق الأمر هنا بالادّعاء بأن الحقوق الأساسية المعبّر عنها في الولايات المتحدة، وفي بريطانيا

العظمى وفرنسا في نهاية القرن الثامن عشر، والتي استعيدت في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان سنة 1948، لا تترجم الطموح العميق لكل الرجال والنساء في العالم. فلا أحد في أي ثقافة يرغب في أن يُحرم من الحرية، ويمارس عليه العنف، ويرتكب في حقّه الإجرام. لكن في العمق، هناك عدّة شخصيات، ليست غربية، من كل القارّات يقدّمون الدليل على ذلك، ويقدّم الكاتب الدليل على الفائزين بجائزة نوبل للسلام: أمارتيا سين، وهو فيلسوف ورجل اقتصاد هندي، ومحمد يونس، وهو رجل اقتصاد من البنغلاديش، أو شيرين عبّادي وهي قاضية إيرانية، واللائحة تطول.
لكن الغرب يتجاهل أن هذه القيم منظور إليها من زاوية ما كان يُسمّى في فترات سابقة بدول "الجنوب" فهذا "الجنوب" يصارع كل من ينفي صفة النسبية عن هذه الحقوق ويدافع عنها باعتبارها قيماً مطلقة، فالمسلمون يضعون في الاعتبار القيم الإسلامية، والآسيويون يدافعون عن القيم الآسيوية، والروس يدافعون عن القيم الأرثوذكسية. إن القيم العالمية، حسب هذه الرؤية، هي قيم عالمية تضم خليطاً من القيم والمُثُل، وليس فقط من قيم يفرضها الغرب كي يفرض سيطرته ويجعلها دائمة. إن الشعوب المعنية بهذا الصراع ذاكرتها ليست قصيرة مثل ذاكرة الشعوب الغربية، وبالتالي فهي لن تسمح، كما حدث في الماضي، بنشر "وباء التوبة". إن هذه الشعوب لم تنسَ بأن الغرب سبق أن خان قيمه الخاصة. وبالتالي على الجميع الإنصات لأفكار الفيلسوف الإيراني رامين جاهانباغلو ولألكسندر سولجينيتسين، التي تؤكّد أن العالمية يجب ألا تُبنى فقط على القيم الغربية.
إن هذه الدراسة الغربية العميقة هي مجموعة أفكار ودوافع مقاومة، تدعو جميع الشعوب والنخب على هذه الأرض لمتابعة التاريخ والسهر على سيره وفق كل القيم الموجودة، وإن الغرب هو أكبر الأطراف الساذجة إذا لم يؤمن بذلك.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.