}
قراءات

"عندما تشيخ الذئاب".. الواقع بحدقة البصيرة

راسم المدهون

8 ديسمبر 2019
تعد رواية الراحل جمال ناجي "عندما تشيخ الذئاب" نتاجاً صادقاً لنظر طويل وعميق في الزوايا المتوارية والمسكوت عنها في حركة المجتمع، فالكاتب برؤيته الواقعية إذ يحدق في العناوين الكبرى يرى جزئياتها وتفاصيلها الصغيرة، المتوارية أو المسكوت عنها والتي نعرف جميعا أنها تمثل راهننا العربي وما يعيشه من أحداث وتطورات بل ونكبات كبرى تعيد تشكيله أمام نظرنا كل يوم بل كل ساعة وعلى نحو لم نكن نتخيله يوما ما.

"عندما تشيخ الذئاب" (القائمة القصيرة لجائزة البوكر 2010) تستدعي من الظل شخصيات تحمل تعبيريتها الحارَة عن الأبيض والأسود وما بينهما من ظلال هي ظلال القسوة والجشع، الحب والفقد في حالاتهما القصوى والأهم، الرغبات الجامحة حين تنبع من شهوات محمومة تستنزف أرواح بشر يعيشون حيواتهم اليومية مثقلين بأقنعة لا تحصى، أقنعة متناقضة من الورع والفجور، النزاهة والخسة، دون أن تغيب من تلك الثنائيات صراعات محمومة عنوانها المال وجاه السلطة والرغبة في إزاحة المنافسين من خصوم وأصدقاء بالقسوة ذاتها وبالجنون ذاته.
جمال ناجي يعود مرَة أخرى الى عوالم روايته القديمة والهامة "حياة على ذمة الموت"، ولكنها عودة أكثر نضجا خصوصا في انتباهها الى بنية روائية تقوم على تقديم شخصيات تعبر بعمق وواقعية عن تكوينها الداخلي وانتمائها الاجتماعي في زمن التحولات الكبرى والمتسارعة التي تعصف بالمجتمعات العربية. هنا بالذات تستقصي الرواية محنة الأيديولوجيات كلها وتعرِي عجزها وشكليتها التي تدفع إحدى شخصيات الرواية لطرح سؤال بالغ الخبث والدلالة: ما الفرق بين أيديولوجية وأخرى حين يصبح صاحبها وزيرا؟ وهي العبارة التي تراها السلطة عنوانا للنفعية التي يتساوى خلالها الساعون للحكم والسلطة مهما تباعدت إدعاءاتهم واختلفت شعاراتهم ومفاهيمهم الفكرية والسياسية والتي لا تعني سوى التضليل والتعمية.
هي أيضا رواية وجع التحول الاجتماعي العاصف حين تنكشف آثار سكينه في أرواح البشر وتأخذهم الى تبدلات تجعلهم لا يشبهون وجوههم القديمة، حيث تنتصر الرغبات في انفلاتها على أية ضوابط أو كوابح من أي نوع أو لون. سيشيخ "الذئاب" إذن في سعيهم الجنوني نحو الثروة والجاه وسنراهم "يكتبون" هم روايتهم أمامنا دون تزيين أو تمويه زائفين: شخصيات مثل "الجنزير"، "سندس" و"عزمي" بالذات يبرع جمال ناجي في بنائها بأبعاد متعددة بل وبظلال لتلك الأبعاد في صور واقعية نعثر بيسر على من يشبهونها في الحياة، وهي في الوقت ذاته تحمل وجوهها الرمزية التي تكشف أقنعة التخفي اليومي، فرهان الرواية الأهم هو في تقديرنا سعيها لاستقصاء مرايا الأرواح الداخلية لأولئك الذين يستخدمون الأيديولوجيا (على اختلافها) في تأسيس وضعهم الاجتماعي. سنتوقف طويلا أمام شخصيات الرواية جميعا، ولكننا سننتبه بصورة أكبر للثلاثي "الجنزير" و"سندس" و"عزمي" حيث تجتمع فيهم أكثر من غيرهم أقصى درجات الجموح للرغبات ونوازع الشر وتتجلى قدرة تلك النوازع على سحق أقنعتهم الأيديولوجية وإفراغها من زيفها لنراهم عراة سوى من تلك الرغبات المحمومة. جمال ناجي يحقق تلك الحالة الفنية البارعة من خلال وضع الشخصيات الثلاث أو بدقة أكبر وضع رغباتهم في حالة تناقض وصراع.


جنون الهوس بالسلطة
نحن في "عندما تشيخ الذئاب" نرى الحد الأعلى لجنون الرغبة وجنون الهوس بالسلطة وحمَى المال فنكتشف كيف تستدرج الأيديولوجيا الدينية وشعاراتها أموال المحسنين والمتبرعين ولكنها لا تستطيع أن تحجب الشراهة للجنس والمال المحرم، فيما تبدو الأيديولوجيا اليسارية بدورها ليست سوى "ذكريات" قديمة يجري استدعاؤها في صورة شكلية يتواطأ الجميع على تداولها باعتبارها شيئا برَاقا لا قيمة ولا مدلول حقيقيا لها، أي أنها تجيب بالنفي على السؤال السابق لإحدى شخصيات الرواية : "ما الفرق بين أيديولوجية وأخرى حين يصبح صاحبها وزيرا"؟
في "عندما تشيخ الذئاب" عناوين أحداث سياسية كبرى عصفت بالمنطقة العربية في العقود الثلاثة الأخيرة وهي تحضر كإشارات للزمن الذي تمَ خلاله وقوع تلك الهزَات الاجتماعية الكبرى والتي أعادت تشكيل الأرواح واستبدلت العادات والتقاليد القديمة بأخرى لا تشبهها إلا بالكاد. رؤية تزدحم بصور لا تحصى لمآلات القيم والمثل السابقة وانحسار معانيها الى حدود ضيقة، شكلية وذات طابع وعظي إنشائي لا يقدم ولا يؤخر فيما تنكشف صورة السلطة العربية بدورها عن إفلاس سياسي واجتماعي كامل أو شبه كامل وتتحول إلى أداة للنهب والقمع والتزوير.

هل شاخت الذئاب كلها وتعيش المراحل الأخيرة من أعمارها؟
لا تقول رواية جمال ناجي عنوانا فجّا وفاقعا كهذا، وهي قد فعلت حسنا أنها لا تقدم مآلات تبشيرية بل تدفع شخصياتها الرئيسة للتعبير عن ذلك من خلال سلوكهم، ومن خلال صور الصراع "الصفري" بينهم، وهي هنا صور يرسمها ناجي بفنية عالية ويديرها بتشويق يجعل من الرواية فصولا يتناوب على الحديث من خلالها كل أبطال الرواية في سرديات مكثفة ودقيقة ما يجعل الرواية "ألبوم" حيوات قصية الطموح، جامحة الرغبات وتطفح بولع للحياة تفهمه وتفسره كل شخصية منها على هواها وهوى رغباتها بل ونزواتها.
نتوقف طويلا خلال القراءة أمام "سندس" وهوس الجنس وأمام "الجنزير" وما يحيله اسمه من تعديل يجعله "الخنزير" دون تجن، أما "عزمي" فهو إذ يرمز للقوة ومرحلة الشباب والمغامرة والملذات نراه هو الآخر في حالات لا تحصى من التناقض والعبثية المحسوبة والقفز فوق المحرَمات والإخلاص لذاته وما تحمله من غايات نفعية. الكل هنا سواء، وهم يتناقضون في سعيهم وفي رغباتهم ولكنهم رغم ذلك يتشابهون في تلك الحمَى التي تعصف بنفوسهم وأرواحهم وتجعلهم مجرَد ذئاب ليس إلا.

صدق المخيلة
رواية جمال ناجي "عندما تشيخ الذئاب" هي أهم أعماله الروائية، وفيها نجح في الاستحواذ على سردية روائية واقعية وذات مصداقية وتمتلك قدرة على إطلاق حرية الشخصيات بدرجة عالية من الديمقراطية حيث الكاتب يتوارى، بل لا نلمحه ولا نلمح تدخله في سلوك أحدهم. هي رؤية فنية تتكئ بفاعلية على صدق المخيلة حين تحترم الواقع، بل حين تراه كما هو بنظرة عميقة. قارئ الرواية سينال متعة القراءة بالتأكيد، وهي متعة يوفرها "السرد الفاخر" إذا جازت العبارة، حيث تزدهي الأحداث وتتلون بسلاسة وحرارة وقوَة حضور سواء في تعبيراتها المباشرة أو حتى في أبعادها الرمزية التي تجعل القارئ قريبا من موقع كل حدث، ومن دلالة كل جملة وفي سياقات سردية متدفقة.
استحقت هذه الرواية أن تصل إلى القائمة القصيرة لجائزة بوكر العالمية بما امتلكته من هذا كله، وهي تستحق ذلك أكثر بقدرتها على مواكبة حياتنا العربية المعاصرة وما تعيشه من أهوال وهزَات كبرى تتوالى في زمن يشهد فيه العالم بدوره تطورات علمية وتكنولوجية هائلة تجعل العالم قرية صغيرة وتجعلنا في فضائه عراة مكشوفي العورات والعيوب مهما تحايلنا على تضليل العالم وتضليل أنفسنا بالأقنعة الخادعة والألاعيب المضللة إذ سيرانا الآخرون مجرَد ذئاب شاخت وهي في طريقها الى الغياب النهائي.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.