}
قراءات

"اغتراب حنين".. توصيف نفسي للأنثى العربيّة

محمد طه العثمان

18 نوفمبر 2019

يعد التشكيل والمؤثر الروائي من أهم المقومات التي تقوم عليها الرواية الحديثة، فالحاجة إليهما ليست حاجة ذاتية بقدر ما هي وليدة ظروف وشروط نفسية واجتماعية وتاريخية وسياسية وفكرية ثقافية؛ وبما أن الرواية التي يهتم كاتبها بإظهار الأبعاد النفسية للشخصيات هي كثيرة الحضور في السردية الحديثة، فغالباً ما يصر صاحبها على أن تكون هي المحرك والمؤثر الرئيسي الذي يدفع هذا الكاتب لتفريغ شحناته وطاقاته ورؤاه وفق إطار وتشكيل متناسبين مع هذا الحامل أو ذاك؛ إذ إن الاعتماد على بعض الآليات النفسية تساعده على التفريغ كالتصعيد مثلا. من هذه الكوة يبرز لنا العمل الجديد والأول "اغتراب حنين" للكاتبة الشابة ديانا صهيوني الصادر مؤخراً عن دار إسطنبولي في حلب ضمن هذه الأطر؛ فهل نجحت الكاتبة في جعل حاملها ذا بعد هندسيّ وتشكل يساهم في إمتاع القارئ؟
منذ البداية وتحت عنوان "اغتراب حنين" نجد أن في الرواية ما يحمل رسالة واضحة المعالم بأننا سنخوض في مشاعر إنسانية طياتها الغربة والتشتت في عوالم لا متناهية، فتشاكل العنوان مع اسم بطلة الرواية الذي يتناسب مع معنى الكلمة نفسه (حنين) يعطي ازدواجية إضافية في تقديم المعنى للقارئ.
البطلة حنين هي فتاة من بيئة ساحلية وبالتحديد من مدينة اللاذقية تعيش مع والدتها بعد موت والدها؛ فتجبرها الظروف على ترك عزف البيانو؛ تلك النافذة التي كانت تطل من خلالها على ذاتها وروحها، ثم تتوالى على حياتها صفعات الفقد، الأصدقاء المقربون ثم الحبيب، فتبرر الروائية انفصال بطلتها حنين عن هذا الحبيب بسبب طول الاغتراب في مدة زادت على الست سنوات؛ وهذا ما يعطي إيحاءً واضحاً على قوة تأثير الحرب غير المباشر في حياة المجتمع السوري والتشتت الذي حصل في مكوناته. دخولها في متاهة من فقدان الشعور والمشاعر تجلت في حالات متعددة من الاغتراب كان آخرها فقدان الهوية، ثم يأتي الموت ويفقدها أقرب من تبقى لها وهي قطتها "لوليا" ثم "أم نضال" المرأة الشامية التي كانت نافذة أخرى للنقاء والبياض في هذه البشاعة، فيشكل غياب كلُّ واحد من هؤلاء على حدة رمزية معينة من حياة البطلة وحياة السوريين، لكن على الرغم من كل هذه الخيبات تحاول حنين أن تستعيد روحها؛ يساعدها على ذلك مكالمة من المايسترو جمال الذي يذكرها عند سماع صوته بماضيها الجميل الذي افتقدته، وهنا تقدح في دواخلها الآمال والأحلام التي كانت تعيشها في مرحلة لاحقة، لتبقى أسيرة حياة مليئة بالذكريات تقتات منها في حياتها المشبعة بالفقد، لتبقى هذه الشخصية تعيش بين واقع مرير تشظى كل ما فيه وتحول إلى سواد واغتراب، وبين إصرار ورغبة في التحدي للعودة إلى حنين المفعمة بالحياة والتألق.



طرح تساؤلات
الرواية اعتمدت في أسلوبها على طرح التساؤلات لتجعل القارئ يخوض فيها بدلاً من القراءة فقط، بل وتجعل نوعاً آخر من القراء يتساءلون حول ماهية هذا الطرح الذي يخاطب القارئ بشكل مباشر، فتشعر أنك أمام تساؤلات وجدانية ولست أمام عمل سردي روائي. هذا المنطلق يجعل من العمل ذا منحى مختلف قد يكون إيجابياً للبعض وقد يكون سلبياً للبعض الآخر، والقارئ إما سيختار المواصلة لمعرفة ما ترغب بطرحه الكاتبة وإما سيتوقف لأنه سيجد نفسه متخبطاً يخوض في بحر التساؤلات تارة أو متابعة سرد الحكاية، ثم العودة إلى تساؤلات جديدة ستربك القارئ في بعض الأحيان مرة أخرى. ومن مآخذ هذه التساؤلات أنها لم تكن جميعها موجهة على شخصية الرواية بشكل واضح بل كانت تساؤلات تطرحها الكاتبة أحياناً بربطها وأحياناً أخرى دون ربطها ببطلة الرواية نفسها.
عناوين الفصول كانت "زلزال" وعددها (10) اختارتها الكاتبة بما يتناسب مع رؤيتها الخاصة، وعلى الرغم مما توحي به هذه العتبة إلا أنها لم تترك للقارئ مجالاً في أن يتلقى الصدمة أو الزلزال الحقيقي بعد قراءة عنوان الفصل؛ أو حتى جعله متأهباً نسبياً لما قد يحدث؛ مع ذلك فقد أجادت الكاتبة في بعض الفصول من حيث التأثير النفسي وتحريك المشاعر والعواطف الشخصية في مشاهد إنسانية عميقة للغاية كان بوابتها الموت والانبعاث، الضياع ثم إيجاد النفس، مع الانصهار مع الهدف الأكبر  وهو "إيجاد الذات الضائعة من خلال إيجاد الآخر التائه" لتكتمل حياتها وكأنما تريد الكاتبة إيصال العديد من الرسائل للقارئ أبرزها أن "الإنسان هو وحيد دائما ما لم يجد ما يكمله عند الآخرين".


توصيف نفسي للأنثى العربية
البيئة التي أظهرتها الكاتبة شهدت تفاوتاً من فصل إلى آخر وكأنها ومضات من حياة البطلة خلال تلك الفترة الزمنية التي عانت فيها من كل الآلام؛ وقد تنقلت هنا وهناك بحثاً عما فقدته. ففي كل فصل من الفصول تكون البطلة في مكان ما، حيث تنوعت البيئات التي أظهرتها الكاتبة لنا (المنزل، مكان العمل، شاطئ البحر في اللاذقية، حارات وشوارع دمشق القديمة، بيت أم نضال الدمشقي، الجنازة، المستشفى، طريق السفر منفردةً مرة؛ ومرةً أخرى مع اشخاص آخرين، خشبة المسرح، ذكرياتها التي لا تنتهي) وهو ما يجعل القارئ يشعر بالضياع نوعاً ما عند قراءة الأحداث التي من الصعب ربطها مكانياً؛ لولا تدخل الكاتبة بإيضاحات مباشرة أو غير مباشرة حول ماهية وأسباب وجودها في هذا المكان أو ذلك.
لكن السؤال الذي يراود المتتبع لسرد القصة ما هو الهدف من المتاهة النفسية التي خلقتها الكاتبة في هذه الرواية، هل كانت مقصودةً لجعل القارئ يفهم حالة التشظي النفسي في داخلها؛ أم للفت انتباه القارئ بأن الهدف ليس القصة؛ وإنما تسليط الضوء على كل تلك الأزمات النفسية التي تختلج الأنثى من الفقد، الضياع، الحنين والغرق في بحر الذكريات، ثم إبراز مشاعر الأنثى في خضم حرب لم ترحم؛ فيتجلى هذا الفقد إما موتاً أو سفراً، أو بحثاً عن حبيب مجهول لم تجده بعد. ومن اللقطات المثيرة التي خلقها الفقد موتا، هي ما صورتها الكاتبة عند موت أم نضال بين ذراعيها، الذي يعبر عن رمزية دمشق التي تموت، ولكن ما تلبث أن تنبثق دوماً من بعد موتها كطائر الفينيق، وكانت ذلك حال ولادة صديقتها سناء في المشهد الذي يليه، حيث تقول: "حضنتها وقبلت رأسها، حضنها دافئ وقلبها مليء بالحنان والوفاء، أدمعت عينها وضمتني، شعرت وكأنها طفلة تتعلق بحضن أمها، كانت تشدني بقوة، جسمها كان ثقيلا ولم أستطع إبعادها عني، كُسِرَ الصمت، رجفت، ارتعش جسدي رهبةً.. فارقت الحياة، فارقت الحياة بين أحضاني!".. "صورة الأمومة تلك أم الحياة، سناء تمنح طفلها الحياة والأمان، قطعة لحم صغيرة لا تعرف إلا الصراخ".
في النهاية يمكننا القول إن هذه الرواية كعمل أدبي هي أقرب ما يكون إلى توصيف نفسي للأنثى العربية عموماً والسورية على وجه الخصوص والتي تعيش في خضم صراعات لا تنتهي.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.