}
قراءات

"جوار الماء".. بصمة الأنثى

رزان إبراهيم

13 نوفمبر 2019
"القصص باحة حرية، واحة ورد، ارقصي وسط الباحة.. ثمة مطر يغسل ما يعيق الخيال".

أن تكون مبدعا في مجال القصة القصيرة يعني بالضرورة أن تكون قادرا على التقاط واصطياد لحظات عابرة خاطفة في الحياة، وهو ما تفعله أماني سليمان في مجموعتها القصصية "جوار الماء" الصادرة عن منشورات ضفاف 2018 والتي نتلمس في ثناياها حفرا في شخصيات مدروسة بعناية تطرحها وقد انقسمت بين الوعي تارة واللاوعي تارة أخرى، مع توزع لافت بين المألوف واللامألوف، ليصبح بإمكاننا متابعة حالة من الانبساط أحيانا والانطواء أحيانا أخرى، تتماشى وأقنعة ترتديها الشخصيات في قصص تشير أكثر مما تصرح، وتميل باتجاه تكثيف شديد مع مضمون غني مستتر، تغلفه صيغ تعبيرية مفتوحة على الرؤى والاحتمالات.
عموما فإن قارئ هذه المجموعة يلاحظ أن صاحبتها تستبق ردة أفعال القراء المتغايرة تجاه فعل التجنيس في عمل يتراوح بين أن يكون سيرة أو مشروع رواية، ولربما تجد فيه قصدية جعله عملا تمحي معه حدود الأجناس الأدبية، وهي الحيرة التي من شأنها إبقاء القارئ على الحافة كما يرد في إحدى القصص التي يظهر فيها رجل يمشي جوار الماء "كي لا تمس قدمه الماء خوفا من البلل". ليصبح بإمكاننا القول إن العمل تختلط فيه معالم أكثر من جنس أدبي، يعزز حكمنا هذا لغة شعرية مجازية تكون لها الغلبة في كثير من الأوقات، كما حين تحمل الذات مسؤولية ما يقع لها بما في ذلك موتها فتقول: "لم يكن ثمة مقصلة. أنا اختلقتها ومنحتها رقبتي". وهو ما يمكن تلمسه في قصة "الشيخ البحر" حيث التعابير الصوفية اللافتة. وقد تجد في النص توظيفا للقطة السينمائية والخاطرة واللغز، ولربما تقترب أحيانا من قصيدة النثر، كما حين تقول: "الحب أن تجن لا أن تتزن، أن تتلوث بالفوضى لا تترتب، أن يعيث القلق فسادا في أعضائك لا تسكن، أن تتبعثر لا تتلملم، تحتار لا تستقر، أن تحب يعني أن تحب بكلك لا تتنازل عن حق لك في الحب، وأن تعتقد أن لا شيء يعيدك إليك إلا من تحب". 
لا يفوت قارئ هذا العمل بصمة الأنثى الواضحة في قصص تحكى من وجهة نظر امرأة كما في قصة "دوران" حيث انحياز المرأة اللافت لجانبها الأمومي وإن كان على حساب الزوج، وهو ما عبرت عنه النهاية بكلمتين حاسمتين "أبقيه عندي" قاصدة الابن، وهو شعور الأمومة نفسه الذي يرد في قصة "جنين" التي تصف فيها خروج الحياة من المرأة. عموما هناك تفاصيل ترد في المجموعة لا تلتفت لها على الأغلب إلا المرأة كما في قصة "حذاء امرأة" حيث الحذاء الذي يحضر ليكون مدار حكاية تحكى أثناء انعقاد إحدى الندوات العلمية. في السياق نفسه، أقول: إن كان لا يجوز لي الحكم بأن ما يحصل في المطبخ هو أمر محصور بجنس المرأة وحسب، لما يتضمنه من قولبة للأدوار، إلا أن للمرأة علاقتها الخاصة بالمطبخ بحكم دور نمطي تقليدي عبرت عنه الكاتبة في قصة لها من خلال خلطة خاصة للخروج من الألم تبدت على النحو التالي: "تطحن الخيبة. تضعها في وعاء. تحضر ماء فاترا. وقليلا من الملح والخميرة. سكبتهم في وعاء. عجنت الطحين بهم. غطت الوعاء بالقماش". ليندفع بعدها العجين الذي تخمر أكثر مما يجب كسيل نحو الراوية.


كيف يتبدّى الرجل؟
يبدو من الطبيعي ونحن نتحدث عن بصمة المرأة في هذه المجموعة القصصية أن نبحث عن الرجل من منظور المرأة نفسها. كيف يتبدى؟
كثيرا ما تستخدم "ليلى والذئب" في إطار علاقة سيميائية تركز على الذئب باعتباره رمزا للرجل. هنا تقوم القاصة بعملية تخالف ما درجت عليه القاصات من خيار متعمد للذئب ممثلا للصيغة الذكورية القاسية، فنجدها قد اختارت الصياد الوسيم الذي يفتح الباب متحفزا لإنقاذ حفيدة الجدة من بين مخالب الذئب. إلا أن الصورة الإيجابية الآنفة لم تكن هي السائدة في نصوص المجموعة كلها، وإنما على العكس تماما، فلدينا عنوان "صقيع" الذي يجسد شعورا ينتاب أكثر من امرأة سببه رجل، بل إن الرجل الشرقي يطل علينا في ثنايا إحدى القصص "حصانه" قيدا تتوق المرأة للخروج من دائرته التي تطوقها، وهو الرجل ذاته الذي ترصد ردة فعله السلبية الرافضة حين تمد له المرأة يدها لتنتهي بسؤال تعجبي "أي جنون يدفعها لتمسك يده الشرقية"؟! كذلك تحضر الصورة الفوقية نفسها في العلاقة الثنائية بين الجنسين في قصة "مدرج" مع رجل لا يرتضي للمرأة أن تفوقه مكانة يحركه في هذا منطق ذكوري مجحف يستدعي منه تحركا، كما حين نرى الرجل في إحدى الحكايات وقد اغتاظ من امرأته، فما كان منه سوى دعوتها للهبوط من حيث هي كي يصل معها في اللحظة ذاتها، كما في الحكاية الشعبية المعروفة "الثعلب وسباقه مع أبو جلمبو".
إن كانت الكتابة فيضا تلقائيا وتعبيرا صافيا عن النفس، فإننا لا نعدم في هذه المجموعة بصمة الكاتبة التي تقدم رؤيتها وتفسيرها للعملية الكتابية، والتي تتماشى مع ذاتية ما تكتبه المرأة والتي تشكل هنا نفس تجربة الكاتبة/ المرأة كما في "نحيب" التي تعكس حالة صراع تنتاب الأديب حين يتراءى له شخص يدفعه باتجاه الكتابة، أو كما يرد في "عطر" من حديث حول حرية الكاتب وحقه في الخوض في معان لم يخض بها أحد من قبل فتقول:"القصص باحة حرية، واحة ورد، ارقصي وسط الباحة.. ثمة مطر يغسل ما يعيق الخيال". والكاتبة شأنها شأن كل مبدع يبحث عن جديد يقدمه، وهو ما عبرت عنه من خلال عبارة: "لن ترضيني أي قنينة.. لم تعجبني الروائح"، بكل ما تحمله هذه العبارة من توق لروائح مختلفة تختبر حواسها الجديدة.
تمضي الكاتبة في هذا الشأن إلى أبعد مما ذكرنا حين يتجاذبها شعوران؛ الأول تبدو معه الكتابة ملاذا أو كهفا تلوذ إليه، أو حجرة خاصة بها كما تقول فرجينيا وولف، والثاني شعور بلا جدوى الكتابة التي تشبه عبثية دون كيشوت وهو يبارز طواحين الهواء، وتتراءى في لحظة يقف فيها الرسام وفي ذهنه تحطيم لوحاته بالعصى وهو يردد: "سموني بالمبدع. لم أفهم دلالة الألوان التي نثرتها". ولعل سؤال اللاجدوى يمتد ليشمل إحساسا بالعبث الكلي تجاه الحياة كلها في بعض الأوقات. ومن تجليات ارتداد العمل نحو الذات الكاتبة أيضا لغة تأوي إلى ذاتها عبرت عنها هذه الكلمات: "ليس لي إلا أنا آوي إلي"، وشبهتها بـ"عواء الذئب" بما تحمله من بوح لما يعتمل في الصدر، كما في حالة تعود فيها إلى طفولة مبكرة تستعيد فيها صورة الجد الغائب المختلطة مع صديق متخيل.


الحنين إلى الماضي
وتبقى تأملات الكاتبة حاضرة من خلال الحنين إلى ماض آخذة معالمه بالتبدل والتحول، وكذلك من خلال تأملات في ثيمة الموت التي هي جزء لا يتجزأ من القلق الذاتي الوجودي الذي لا يغادرها "نهض القبر خلفي ومشينا"، فنراها في "إنعاش" وقد نقلت وجع موت الأب والأخ الذي يبدو كما "دمعة طويلة لا تنتهي... نبع آه يمتد من أول الحزن إلى أول البهجة. النهر هو نهر الحياة الذي مضى سريعا متدفقا على طرفي حياتنا كان أناس يفرحون، وآخرون يندبون، وأناس يعيشون طويلا جدا وآخرون تقصف حياتهم مبكرا"، لكن هذا لم يمنع هذه الذات من الانخراط في المشهد الخارجي كما في "نقطة" وجولتها في المشهد العراقي الذي خلف معه السؤال "هل كنا نرى أم نعيش رؤى"؟
جدير بالذكر أن الحكاية الواحدة في هذه المجموعة عمادها صور دقيقة مرتبة ترتيبا هندسيا ترتكز على تقابلات وانتقالات مدروسة غير عشوائية، كما تلك التوترات بين ثنائية العقل والقلب التي تعبر عنها مواقف متعارضة من مثل: "مرة وضعت رأسها تحت المقصلة. خلعته كي تشرحه. وحين وصل الحافة بات الجسد يلاحق رأسا هاربا في الفضاء. ومرة خلعت القلب المتعب.. لحظة عناق القلب مثل عاشقين في رقصة صوفية فوق المنضدة. بور.. أرض بور تنتظر القلب". أو حين تعرض لمفارقات متنوعة من خلال التضاد والتقابل كما في قصة "عيد" حين أعلن الحداد، بينما ظلت أجراس الكنائس تدق لأجل العيد، وكما في "وقت" حيث المثقفة التي لا وقت لها للقراءة، أو في "بتر" حيث كان الغياب الوحيد الذي اتفق الحبيبان أن يفرقهما هو الغياب بالموت، لتحصل القطيعة بسبب الاهتمام بالشأن العام الذي بتر روحيهما. أو حين تتحول الرغبة في قصة "كرمى" من توق للرنين إلى عكسها فتقول: "لا لا ترن كرمى لهذا الحب". تأكيدا على اشتعال الحب مع الغياب.
جدير بالذكر أن هذه المجموعة القصصية التي تنوعت فيها الأساليب بين سرد وحوار، وبين فصحى وعامية وإن على نحو بسيط (دحش، بنصة، تلغمطنا) تتحقق فيها وحدة الأثر والاهتمام من البداية إلى النهاية، كما تمتاز بتوفر عنصر الإدهاش فيها في أكثر من موقع، بمعنى أنها تكسر أفق انتظار متلقيها مما يجعل القارئ في حالة اشتباك ذهني حركي متواصل تساهم في تكثيفه غزارة في فعل الأنسنة والترميز المحمل بدلالات إنسانية متعددة، كما في قصة "سلة" حيث التماهي مع عصافير يتضاعف موتها حين لا تجد الأجساد ما يحتويها ويحرسها، وكما في "سرير" حين تنقل لنا ومضة حياتية يومية أشبه ما تكون بقصة طفولية خلقت معها عالما متخيلا تحت السرير، وكما في "شجرة" حيث روح الجدة التي ظلت مقيمة فيها تحرسها.
يبقى أن الطابع الأنثوي لأماني سليمان في "جوار الماء" هو امتداد لما سبق أن قدمته في شخوص الكاتبة وتلمسناه مع سعي روحي دأبت فيه على التجذر في الطبيعة فيما يشبه سعيا روحيا هو سمة لامرأة تبحث عن السكينة كما حين تقول: "لم يعد أمامي غير الحمام أقضي ساعات طويلة في مراقبة أسرابه، تموج في سماء سطحنا الزرقاء، تتداخل وتتباعد في لوحة لم أجد أجمل منها حينذاك". وهو الملمح الذي رأيناه في قصة "عرافات شهريار" المعبرة عن سلطة تقليدية قامعة، ستتضاءل أمام شهرزاد التي نجحت عبر الحكاية في تأجيل قتلها قرابة عامين وتسعة أشهر، وهو ما ولد حالة من الغيظ الشديد لدى مستشاري شهريار الذين أودت شهرزاد برجولتهم كما فعلت بشهريار الذي سيحقق نبوءة العرافة في أنه سيعوي مثل ذئب في ليلة ماطرة؛ وهو ما كان في نهاية رأينا فيها شهريار حين "راح زاحفاً على يديه ورجليه عاوياً باتجاه السرير". 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.