}
عروض

إعادة قراءة سوزان سونتاج على ضوء تناقضاتها

عماد فؤاد

11 نوفمبر 2019
"لو قُدّر لسوزان سونتاج أن تطّلع على السّيرة التي كتبها بنيامين موسر عن حياتها وأعمالها، فلن تكون سعيدة بها أبداً"- بهذه الافتتاحيّة اللافتة قدّم الملحق الثّقافي لصحيفة NRC الهولنديّة ملفّاً نقديّاً عن السّيرة التي صدرت ترجمتها الهولنديّة مؤخّراً عن دار نشر "De Arbeiderspers" بأمستردام في 742 صفحة، وإن كنّا نجد احتفاء نقديّاً بالسّيرة ذاتها لدى كُتّاب آخرين، حيث حمل الغلاف الدّعائي للكتاب بعض مقولاتهم، مثل ستيفن فراي الذي قال: "إنّها القصّة العجيبة وغير المؤكّدة، والبسيطة رغم التزامها الفكريّ، لإحدى أهمّ الشّخصيات الأدبيّة البارزة التي ظهرت في أميركا في القرن العشرين". وكتبت ريبيكا سولنيت تقول: "إنجاز مذهل يحبس الأنفاس لبنيامين موسر، لديه إلمام شامل بكلّ تفصيلة كبيرة كانت أم صغيرة عن سونتاج ومشوارها وكتابتها وأفكارها وأصدقائها وعائلتها". فيما اعتبر مايكل كننغهام السّيرة التي وضعها موسر عن سونتاج خطوة ضروريّة، ذلك لأنّه "من الصّعب بالفعل تخيّل الثّقافة الأميركيّة من دون مساهمة سونتاج البارزة في تشكيلها، وسيكون من الصّعب علينا لاحقاً تخيّل حياتها من دون العودة إلى ما كشف عنه بنيامين موسر في هذه السّيرة الذّكية. حياة كبيرة مثل حياة سونتاج كانت تتطلّب سيرة مهمّة. وقد تمّت الآن تلبية هذا الشّرط بدقّة ووفرة بفضل موسر".

 

ظاهرة فريدة
شكّلت سوزان سونتاج (1933-2004) ظاهرة فريدة وسط الكُتّاب الأميركيّين في القرن العشرين، وكانت أشبه ما تكون بالأساطير التي أُسيء فهمها على الدّوام، هي التي أسهمت في ضخّ إبداعاتها ومناكفاتها الأدبيّة والنّقديّة في صور عدّة: روايات ويوميّات ومذكّرات ومقالات عن الفنّ والإباحيّة والسّياسة والنّسويّة والمثليّة والشّهرة والموضة والفاشيّة والشّيوعيّة والحروب الأهليّة المدمّرة وغيرها، وهو ما لم يستطع أحد من كُتّاب أميركا مجاراتها فيه حتى وفاتها عن عمر يناهز الـ 71.
يحكي بنيامين موسر قصّة سوزان سونتاج الحياتيّة كما يعيد قراءة منجزها الأدبيّ والنقديّ والنّضاليّ الذي استندت إليه سمعتها. ويكشف أمامنا عدم اليقين الذي كانت تخفيه خلف ملامحها في الفضاء العام، حيث العلاقات الإنسانيّة المبتورة، والصّراع المستمرّ بين قناعاتها وميولها الجنسيّة المثليّة، باحثاً عن الدّوافع الأوليّة التي أوصلتها إلى عالم الكتابة، وكيف أثّرت حياتها الشّخصيّة على مشوارها الأدبيّ.
كان موسر هو الشّخص الوحيد الذي سُمح له باستخدام الأرشيف الخاصّ بالكاتبة في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس، والذي ظلّ محظوراً على الجمهور الاطّلاع عليه لعقود طويلة، وأجرى لأجل كتابة هذه السّيرة مئات المقابلات والحوارات مع مثقّفين وكتَّاب وناشرين وصحافيّين وأفراد عاديّين من جميع أنحاء العالم، من بينهم الكثيرون الذين لم يسبق لهم الكلام عن علاقتهم بسونتاج، وعلى رأسهم حبيبتها الأخيرة المصوّرة الفوتوغرافيّة الشّهيرة آني ليبوفيتز. ولعلّها فرصة جيّدة كي نبدأ حكاية سوزان سونتاج من المشهد الأخير في حياتها.

 

صورة لتخليد الموت
بعد عام واحد فقط من وفاة سوزان سونتاج سنة 2004 بعد معاناة مريرة مع سرطان الدّم، نشرت آني ليبوفيتز كتاباً بعنوان "حياة مصوّرة". وتضمّن العديد من صور مشاهير الفنّ والسّينما في العالم، بأسلوب ليبوفيتز الشّهير في التقاط الصّور الذي تجمع فيه بين الحسّية ورصد ملامح الجمال في الوجوه التي تصوّرها، وهي الطّريقة التي جعلت منها أشهر فوتوغرافيّة في أميركا كلّها. لكن الكتاب تضمّن كذلك صوراً صادمة ومؤلمة، من بينها صور التقطتها ليبوفيتز لضحايا الحروب الأهليّة في البوسنة ورواندا، لكن كانت إلى جوار هذه الصّور باقة أخرى هي التي أثارت جدلاً واسعاً في أميركا والعالم، حيث نشرت ليبوفيتز صوراً لسوزان سونتاج وهي ميّتة، وكانت صدمة من شاهدوا الصّور عنيفة، فكيف لليبوفيتز أن تنشر صوراً على هذا النّحو القاسي للمرأة التي دخلت معها علاقة عاطفيّة لأكثر من عقد من الزّمن؟!
في تلك الصّور، التي وجدها كثيرون خالية من الاحترام، بدا أن ليبوفيتز تعمّدت أن تجرّد سونتاج من أيّ سحر أو أُلفة عُرفت عن صورها الفوتوغرافيّة التي التقطت لها في السّابق، سواء من قبل ليبوفيتز ذاتها أو من قبل غيرها من المصوّرين المشهورين عالميّاً. بدت سونتاج في الصّور حُطاماً بشريّاً، مجرّد جثمان يُجرُّ على نقّالة طبّية في طائرة، كائن عاجز أمام الكاميرا؛ على النّقيض تماماً من حضور سونتاج الدّائم كامرأة يضرب بها المثل في الصّلابة والقوّة. بدا جثمان سونتاج الملفوف في ثوب باهظ الثّمن مختلفاً تماماً عن حضورها الذي عرفه العالم كلّه عنها، وقد تورّم وجهها بشكل مخيف جرّاء رحلة العلاج الكيميائيّ الثّقيلة التي خضعت لها قبل رحيلها.
لم يتجرّأ بنيامين موسر على أن ينشر هذه الصّور الموجعة من جديد في السّيرة التي نشرها مؤخّراً عن حياة سونتاج، إلا أنّه يدعو إلى إعادة النّظر من جديد في هذه الصّور، طالباً تفهّم ليبوفيتز كمصوّرة ورغبتها في تسجيل لحظة نادرة في حياة امرأة عظيمة مثل سونتاج، حتى ولو كان الأمر تطلّب منها أن تصوّر جثمانها. ولكن كلّ من سيقرأ السّيرة التي وضعها موسر عن سونتاج التي يعتبرها "آخر نجم أدبيّ كبير في أميركا"، سيفهم موقفه من عدم إعادة نشر هذه الصّور، إلا أن موسر لا يخفي تعاطفه بشكل أو بآخر مع ليبوفيتز: "ما الفائدة من إعادة نشر صور لجسد خاو من الرّوح؟ أعتقد أن هذه الصّور تمسّ بشكل أو بآخر جوهر عمل سونتاج الطّويل والمؤثّر على فنّ الفوتوغرافيا، صحيح أن هذه الصّور تزعجنا وتضايقنا، إلا أنّه الشّعور الطّبيعيّ النّاتج عن مشاهدة أيّ صور تقدّم لنا معاناة إنسانيّة حقيقيّة".
في إحدى مقالاتها حول التّصوير الفوتوغرافي المنشورة عام 1977، ذكرت سونتاج أن الفوتوغرافيا: "تتيح لنا إعادة رؤية النّاس والأشياء بشكل جديد ومختلف، لم نكن لنكتشفه إلا من خلال وجودهم في هذه الصّور، وبالتّالي يمكن لها أن تثير تعاطفنا، وفي الوقت نفسه تظلّ هذه الصّور حائلاً بيننا وبين حقيقة وواقع هؤلاء المتواجدين فيها، وهو ما يجعل بعض المصوّرين الفوتوغرافيّين قادرين على أن يحوّلوا النّاس في صورهم إلى أدوات يستخدمونهم لاستغلال واستثمار آلامهم".
ووفقاً لموسر، فقد شعر الكثيرون من مشاهير التّصوير في العالم آنذاك بأنّهم تعرّضوا لهجوم عنيف من قبل سونتاج في هذه المقالة، حينها كان هناك جدل حاد حول الطّبيعة الحقيقيّة للتّصوير الفوتوغرافي، ولكن بالنّسبة إلى سونتاج لم يكن هذا الموضوع ممارسة فكرية بحتة، بل كانت الصّور تنقسم لديها إلى قسمين؛ صور مجازيّة وصور واقعيّة، وهناك دائماً هذا الخطر المتمثّل في أنّ الاستعارة هي التي "تتولّى" تقديم الواقع، في حين أن سونتاج طالما اعتبرت أنّ الفوتوغرافيا لا تقدّم الحقيقة بقدر ما يمكن لها أن تشوهّها، فلكي نكون قادرين على فهم الواقع وإعطائه معنى، نحتاج إلى صور أو كلمات، لكن هذه الاستعارات يمكن لها أن تفسد سريعاً أيضاً، هي التي وصفت مرض السّرطان بأنّه "استعارة" وليس مرضاً بعد إصابتها بسرطان الثدي عام 1978.

 سوزان سونتاج  


















تحليل ذاتي
هذه التّناقضات الحادّة في شخصيّة سوزان سونتاج اعتبرها كاتب سيرتها بنيامين موسر غير قابلة للحلّ، بل يكشف لنا أنّ هذه التّناقضات لم تقتصر على كتاباتها فقط، ولكن طالت حياتها الشّخصيّة أيضاً، وعلى الرّغم من كثرة التّحليلات الذّاتية التي لا تعد ولا تحصى في مذكّراتها، كانت سونتاج قادرة بالكاد على رؤية نفسها، وكانت غالباً ما تهدف إلى الاحتماء بحّس السّخرية اللاذع من نفسها في لحظات ضعفها، حيث يحكي موسر أنّها قالت ذات مرّة لإحدى صديقاتها في أثناء الحديث عن أمّها: "أنا لا أشرب الخمر لأنّ والدتي كانت مدمنة على الكحول"، بينما كانت تحمل كأساً من الخمر في يدها.
توصف طفولة سونتاج بأنّها دراما فرويديّة بامتياز، حيث أب توفّي عندما كانت لا تزال طفلة صغيرة، وأم جميلة متمركزة حول ذاتها بشكل كامل، ومدمّرة بالإدمان على الكحول، كانت دائمة الهروب من مسؤولياتها كأمّ. وعاشت الطّفلة التي حملت اسم "سو روزنبلات" منذ مولدها في نيويورك عام 1933 طفولة صعبة لبضع سنوات في توكسون بولاية أريزونا الأميركيّة، ووصفت سونتاج طفولتها في وقت لاحق بأنّها كانت: "عقوبة سجن طويلة". وفي توكسون أصيبت الفتاة الصّغيرة بالرّبو، وهو ما جعل حركتها محكومة بهشاشتها الصّحيّة، فاقتربت أكثر من عالم الكتب والقراءة، والتي شكّلت لها حينذاك هروباً من سجن حياتها التي كانت تراها بلا معنى أو هدف، وطورت سونتاج منذ هذه اللحظة بوعي كامل طموحها لأن تحقّق هدفين لا ثالث لهما: الكتابة والشّهرة.

 

سجن الزواج
في جامعة شيكاغو انتهى المطاف بسونتاج إلى الشّعور بأنها أصبحت أخيراً في البيئة الفكريّة التي تناسبها، كانت طموحة وعالية التّفكير، تركّز إلى حد كبير على الثّقافات الأوروبيّة. وهناك تعرّفت سونتاج سنة 1950 على عالم الاجتماع الأميركي فيليب ريف (1922 – 2006)، الذي قام بتدريسها وهي في سنّ السّابعة عشرة، وتزوجا بعد أسبوع من لقائهما لتنجب منه بعد عامين ابنها الوحيد والصّحافي لاحقاً ديفيد ريف. كان زواج سونتاج سجناً جديداً هربت منه سريعاً بالسّفر وحدها إلى أوروبا، قبل أن تدخل في نزاع قضائي مع ريف للطّلاق منه، وهو ما تمّ عام 1959.
ويكشف موسر في سيرته لسونتاج عن كشف أدبيّ آخر مثير، مفاده أن كتاب "فرويد: عقل الأخلاق" والذي كان أوّل وأهمّ كتب فيليب ريف ليس إلا دراسة قامت بها زوجته سوزان سونتاج حين كانت تعاونه في أبحاثه، ويحشد موسر العديد من الأدلّة والوثائق التي تؤكّد أنّ سونتاج كانت الشّريك غير الرّسمي وغير المعترف به في تأليف الكتاب الذي صدر عام 1959، وحقّق انتشاراً واسعاً وصنع شهرة ريف التي استمرت لسنوات.
ومن الوثائق التي اعتمد عليها موسر في كشفه هذا، ما عثر عليه في خطاب آخر كتبته سونتاج إلى والدتها في نهاية الخمسينيّات تقول فيه: "أنا في المرحلة الثالثة الآن من تأليف الكتاب وأعمل عشر ساعات يومياً تقريباً". وفي رسالة أخرى من صديق لها عام 1958 يسألها غاضباً: "هل تخلّيت عن حقوقك كمؤلّفة لكتاب فرويد؟ ستكون جريمة إذا فعلت"، وعندما ردت بأنّها تنازلت عن حقوقها في الكتاب بشكل نهائي قال: "أنا بلا عزاء.. لا يمكنك تقديم مساهمتك الفكريّة لشخص آخر على هذا النّحو، وسيكون ذلك أمراً مشيناً لفيليب إذا قبل نشر الكتاب دون ذكر اسمك كمؤلفة له".
ووفقاً لموسر، فقد أرسل فيليب ريف إلى سونتاج نسخة من الكتاب بعد 40 عاماً من نشره، مصحوبة بإهداء يقول: "سوزان، حبّ حياتي، والدة ابني، وشريكتي في تأليف هذا الكتاب.. سامحيني، فيليب ريف".
وفي الحوار الذي سنترجمه لاحقاً مع بنيامين موسر، يقول عن هذه الأزمة: "لم تطالب سونتاج بحقّها الأدبيّ في هذا الكتاب بشكل قانوني أبداً، والسرّ في ذلك أنّ الأمر كان مجرد مقايضة وصفقة طلاق، وكان الاتفاق على أن تتخلّى سونتاج عن الكتاب لينشره زوجها فيليب ريف باسمه، في مقابل أن تحصل على حقّها في رعاية ابنها ديفيد كي لا تُحرم منه مدى الحياة، لكنّها كثيراً ما كانت تتحدّث عن الظّلم. وهي تقصد في قرارة نفسها الغبن الذي أصابها جرّاء هذه المقايضة الرّخيصة".
تكمن القوّة الكبيرة لهذه السّيرة الضّخمة عن حياة سوزان سونتاج في رأيي الشّخصي في أنّها تمنحنا الفرصة من جديد لإعادة النظر في الإسهام المهم لواحدة من أبرز مفكري ونقاد القرن العشرين قاطبة، بل تجعلنا كذلك نعيد قراءة تناقضاتها الفكرية والشخصية من جديد على ضوء خبراتها الحياتيّة التي مرّت بها، والعلائق التي لا تحدّ بين حياتها وما قدّمته من أعمال أدبيّة ونقديّة لافتة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.