}
عروض

"طوق أوسلو"... تعزيز السيطرة الكولونيالية

حسام أبو حامد

24 أكتوبر 2019
في العام 1948 تم طرد الفلسطينيين من الجغرافيا تمهيداً لطردهم من التاريخ، واستكملت عملية التطهير العرقي للفلسطينيين في العام 1967. سياسة التطهير العرقي انسجمت مع طبيعة إسرائيل بوصفها دولة احتلال كولونيالي استيطاني. تكاثفت قرارات مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة، وبدأت الأسرة الدولية تدفع باتجاه التوصل الى حلول سلمية للصراع في الشرق الأوسط والتي بلغت ذروتها في اتفاقية كامب ديفيد بين دولة الاحتلال ومصر. 

في ظل الاهتمام الدولي باستقرار المنطقة، لم يعد بإمكان إسرائيل، بعد العام 1967، السيطرة على مزيد من الأراضي عبر ممارسة التطهير العرقي على الطريقة الكلاسيكية، لكن ذلك لم يدفعها إلى التخلي عن سياستها الاستيطانية التي باتت في خدمتها عملية تطهير عرقي غير تقليدية ذات نفس طويل، واستغلت غطاء العملية السلمية التي بدأت في مدريد 1991، لتكسر حلقتها المفرغة في أوسلو 1993، لتنتزع تنازلاتٍ سياسية، عبر نهج تفاوضي مفروض من أعلى إلى أسفل، يعيد تدوير الاحتلال الإسرائيلي لأراضي الفلسطينيين، وانتهاك حقوقهم.
من خلال "طوق أوسلو"، تم إشغال الفلسطينيين بالمعركة البيروقراطية من أجل إقامة "الدولة" على حدود العام 1967، ثم حصارهم سياسيا وديمغرافيا وتقطيع شرايين حياتهم اليومية، لتركيعهم، وإصابة أكبر قدر منهم بالإحباط واليأس والإحساس بعدم الجدوى، لدفعهم للتنازل عن حقوقهم الجمعية، والاهتمام بمصالحهم الشخصية المباشرة، أو دفعهم للرحيل بعيدا عن أراضيهم.

التزمت الأسرة الدولية بحلّ الدولتين وسيلةً لإنهاء الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي. لكن "أوسلو"، بوصفه صيغة عملية لتطبيق ذلك الحل، وضع الفلسطينيين، أمام سيناريو غير عادل، حين كان ثمرة انسداد الأفق فلسطينيا، واستغلال إسرائيل تفوقها الاستراتيجي والإقليمي وفائض قوتها، لتعيد صياغة الصراع انطلاقا من العام 1967، ما يبتسر تاريخ الصراع، ويهدر معه معظم حقوق الفلسطينيين في الداخل والشتات.
فك الارتباط الكامل لإسرائيل عن الأراضي الفلسطينية المحتلة، وقيام كيان جيوسياسي فلسطيني بحدود واضحة كان مقرّرا في عام 1998. ولكن منذ ذلك الحين، لم يتغير شيء يذكر. تم نقل مناطق محدودة إلى السيطرة الفلسطينية، وبقيت الغالبية العظمى من أراضي الضفة الغربية الحيوية، بذرائع مختلفة، تحت السيطرة الإسرائيلية الحصرية، المدنية والعسكرية. استمرّت المستوطنات الإسرائيلية تقضم أراضي الفلسطينيين، ليبلغ عدد المستوطنين، اليوم، نحو 700 ألف مستوطن في الضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية، يقيمون في 196 مستوطنة، و120 بؤرة استيطانية. تخضع جميع نقاط الدخول إلى المناطق الفلسطينية لسيطرة إسرائيل التي تدير التجارة الفلسطينية، وتجمع الضرائب، وتسيطر على حصص الإعاشة، بينما تقيّد وصول الفلسطينيين إلى مناطق واسعة من الأراضي.
مر أخيراً ربع قرن وعام على "أوسلو" الموقّع في 13 أيلول/سبتمبر 1993، وصلت معه مفاوضات السلام بين حكومات الاحتلال المتعاقبة والسلطة الفلسطينية إلى طريق مسدود بالكامل، وبقيت الخلافات الرئيسية قائمة حول قضايا الوضع النهائي، وبقي الفلسطينيون دون نيل حقوقهم. والعديد من الدراسات تناولت "أوسلو" بالتحليل والنقد، لكنها كانت، في معظمها، مقاربة فلسطينية لمسار "أوسلو"، وربما نادرة تلك الدراسات التي سلطت الضوء على المقاربة الإسرائيلية لذلك المسار، ومن بينها دراسة أنطوان شلحت المعنونة بـ "«طوق أوسلو: تعزيز السيطرة الكولونيالية الإسرائيلية- قراءة في السجال الإسرائيلي حول مسار "أوسلو«"، الصادرة العام الماضي، كواحدة من سلسلة إصدارات ضمن "مشروع "برنامج دراسات إسرائيل" (1) الذي أطلقه المركز العربي للدراسات الاجتماعية التطبيقية- مدى الكرمل، في حيفا.
استنادا إلى المقاربة الإسرائيلية، يقدّم شلحت، في هذه الدراسة المكثفة، عرضا تحليليا لأبرز الوقائع والإحداثيات المرتبطة بتلك الاتفاقيات التي تكاثرت على مسار "أوسلو" ومنطلقاتها وصيرورتها، بهدف تحليل ماهية المفترق الراهن لقضية الفلسطينيين في علاقتهم بدولة الاحتلال وصراعهم معها، خصوصا وأنه تواترت مع حلول هذه المناسبة المذكورة، في إسرائيل ووسائل إعلامها، دراسات وتحليلات أكدت أن ما تضمنه أوسلو من اتفاقات لم تعد، هنا والآن، ذات صلة بالواقع السياسي والميداني المتشكّل.
الأطروحة المركزية في هذه الدراسة هي أن إسرائيل حولت "أوسلو" وسيلة أكثر احكاما لتعزيز السيطرة الإسرائيلية الكولونيالية على فلسطين، وشرعنتها، وترسيخ خطاب يعتبر أن حل قضية فلسطين محصور في إزالة آثار احتلال أراضي عام 1967 ولا يمت بأي صلة إلى ما سبق هذا الاحتلال.



تسوية تاريخية: فرضيتان لـ"إنهاء الصراع"

ينقل شلحت عن يوسي بيلين أن "أوسلو" أتاح عقد سلام مع الأردن، وأوجد تمثيلا جديدا للفلسطينيين (السلطة الفلسطينية)، وأدى إلى ازدهار اقتصادي في إسرائيل وحسّن صورتها، وكسر عزلتها الدولية، معززا "تيار الوسط" في الخارطة السياسية الحزبية الإسرائيلية، لكنه أخفق في إحراز سلام دائم بين الفلسطينيين والإسرائيليين، الذي ظل، كما يستنتج شلحت، رهنا بالمحادثات التي استمرت عقب "أوسلو" وعجزت عن تحقيق أي اختراق حقيقي للموقف الإسرائيلي التقليدي.
يذهب شلحت إلى أنه ومنذ قمة كامب ديفيد يكاد كل من اليمين واليسار الإسرائيليين يجمعان على أن هدف أي تسوية مع الفلسطينيين هو "نهاية الصراع" بوصفه مصطلحا إسرائيليا يعني "وضع حد لأي مطالب فلسطينية". وقد رأى بيلين في العام 2013 أن "أوسلو" تبنى الى حد كبير مفهوم "الخطوات المؤقتة" الذي أوجده زعيم اليمين الإسرائيلي، في حينه، مناحيم بيغن، في إطار اتفاقيات كامب ديفيد المصرية الإسرائيلية 1978 ليتبناه من بعده إسحاق شامير في مدريد العام 1991. أما "معسكر السلام"، كما يصفه بيلين، فقد قبل بتلك الرؤية في أوسلو.
المفهوم الإسرائيلي المتعلق بالغاية الجوهرية من مسار "أوسلو" إسرائيل، يبيّن شلحت، لم ينحصر في معسكر اليمين فقط، فحتى اليسار لم ينظر إلى اتفاق أوسلو ولواحقه من خلال الفلسفة المرتبطة بـ "مقاربة الأخوة" لدى المهاتما غاندي، بل رغبة في تحسين حظوظ إسرائيل في البقاء المادي على المدى البعيد، وهو ما أكده حاييم آسا، مستشار رابين، في حينه، الذي اعتبر أن تشويه "إرث رابين" يكمن في الادعاء بأن رابين هو "فيلسوف سلام" لا "شخصية استراتيجية فذة" (2).
مع كل جولة مفاوضات، كانت تتضح أكثر المصالح الإسرائيلية الإقليمية والعالمية، التي أنيط بهذه المفاوضات الدفع بها قدما، واستنادا إلى رصده عموديا للتصريحات والتحليلات الإسرائيلية المتعلقة بسيرورة المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية منذ "أوسلو"، تبرز لدى شلحت فرضيتان إسرائيليتان:
الأولى: أن السلطة الفلسطينية، كعنوان جديد للتمثيل الفلسطيني في العرف الإسرائيلي، ستعمل على تطبيق حق تقرير المصير لهذا الشعب بإقامة دولة فلسطينية في أراضي العام 1967؛
الثانية: أنها، أي السلطة، سوف تتطلع إلى تلك الغاية في نطاق الاستعداد للتوصل إلى تسوية تاريخية وجغرافية مع إسرائيل والحركة الصهيونية، تضع حدا للصراع معها.
أما عناصر هذه التسوية من وجهة النظر الإسرائيلية فكانت: دولة فلسطينية على 22% من فلسطين التاريخية، وحل قضية اللاجئين الفلسطينيين بمنأى عن حق العودة، وتسوية خاصة بما يسمى "منطقة "الحوض المقدس" في البلدة القديمة من القدس. لكن في الوقت الذي تقبل فيه إسرائيل بهذه التسوية فإن الفلسطينيين لن يقبلوا بها كما ثبت في جولتين حاسمتين من المفاوضات (كامب ديفيد 2000، وجولات المفاوضات ما بعد أنابوليس 2007)، لذا يلحّ شلحت على أن تعبير "تسوية تاريخية – جغرافية" هو إشكالي للغاية.
وحين أبدى إيهود أولمرت رئيس الوزراء الإسرائيلي استعدادا غير مسبوق إسرائيليا لتدويل "الحوض التاريخي" في القدس القديمة (مما يعني التنازل عن السيادة الإسرائيلية على حائط المبكى والحرم القدسي وكنيسة القيامة وجبل الزيتون) اتهم الفلسطينيون في الأوساط الإسرائيلية، بعد رفضهم لاقتراح أولمرت، أنهم غير معنيين بتلك التسوية التاريخية الجغرافية، مما يسقط برأي شلحت أهمّ الفرضيات الإسرائيلية التي وقفت وراء أوسلو.
تحليلات إسرائيلية أخرى رأت أن الرفض الفلسطيني مرده إلى تعويل الفلسطينيين على عامل الوقت، ظنا منهم أنه يعمل لمصلحتهم بانتزاع اقتراحات إسرائيلية أبعد مدى من اقتراح أولمرت. لكن ذلك، يؤكد شلحت، لم يحدث، حتى في ظل الضغط الذي مارسه باراك أوباما على نتنياهو لوقف الاستيطان، وتسبّب بخطاب نتنياهو في جامعة بار إيلان (2009) الذي عكس، بكيفية ما، تآكل الموقف التقليدي لحزب الليكود من حل الدولتين.



اغتيال رابين والصراع حول "السلام"

من وجهة نظر أحد أعضاء الفريق الإسرائيلي المفاوض في أوسلو، المؤرخ رون بونداك، في كتابه "قناة التفاوض السرية: أوسلو، القصة الكاملة"، فإن العملية السياسية والسلام بحد ذاته كانا من ضمن أهداف مرحلية، فالغاية النهائية كانت استكمال إنشاء إسرائيل، وهو يرى أن مفاوضات "أوسلو" بقيت لعبة صفرية، بمعنى أن "مكسب هذا هو خسارة ذاك". لكن إنجازين تحققا تمثلا في: الاعتراف المتبادل بين حركتين وطنيتين؛ الصهيونية والفلسطينية (ممثلة بمنظمة التحرير)، والاتفاق على حل للصراع وفق مبدأ "الأرض مقابل السلام".
ومن ضمن عوامل عديدة أسهمت في انهيار أوسلو، يحمّل بونداك كل من بيرس ورابين المسؤولية عن زراعة بذور الفشل، فهما لم يقوما بإفهام الرأي العام الإسرائيلي والفلسطيني، فور التوقيع على أوسلو، أن تغيرا جذريا حصل في السياسة الإسرائيلية بهدف تطبيق حل الدولتين شرطا لنجاح الاتفاق الانتقالي عبر ترتيبات أمنية مُرضية، كما أن الأجهزة الرسمية الإسرائيلية لم تتلق أي توجيهات بتغيير سلوكها تجاه الفلسطينيين بما ينسجم مع هذه المقاربة الجديدة، ولم تتكيف سيكولوجياً مع الحقائق الجديدة على الأرض.
وعملياً أبقى الزعيمان عمداً الرؤية والمسار التفاوضي المتوخى ضبابيين، وصرّحا بما ينسف حل الدولتين. ومع أن رابين بدا قادرا على القبول بحل الدولتين، فإن بيرس كان ميالا لإحدى صيغ الخيار الأردني، مع أن خياراً كهذا كان قد سقط منذ إعلان الأردن فك ارتباطه عن الضفة. واستمر المشروع الاستيطاني بالتوسع مما أقنع الفلسطينيين أن إسرائيل لن تنسحب من أراضي العام 1967 وتواصلت معاملة الفلسطينيين على الأرض معاملة مهينة بوصفهم أعداء محتملين.
يضيف بونداك أن نتنياهو في ولايته الأولى كرئيس للحكومة (1996-1999) عارض فكرة اتفاقات أوسلو، وأعاق أي تقدم سياسي يفضي إلى تخلي إسرائيل عن أراضي العام 1967، مع حرصه على ألا تظهر إسرائيل وكأنها تخرق أوسلو. أما إيهود باراك (1999-2001) فأسهم في تدهور الحالة، وكان مردّ الفشل في كامب ديفيد إلى مقاربته التي تفتقد الخبرة، مما أشعل الانتفاضة الثانية (2000).
وبالنسبة لأوري بن إليعازر، في كتابه "حروب إسرائيل الجديدة - تفسير سوسيولوجي تاريخي"، يبدو اغتيال رابين قد وضع حدا للخلاف الداخلي الإسرائيلي حول عملية السلام، وعملت سياسة بيرس في احتواء تداعيات الاغتيال على بلورة بنية مؤسسية شجعت الوحدة الداخلية، والسلام الداخلي، على حساب السلام مع الفلسطينيين، وفعل المستوطنون ما يحلو لهم دون حزم من الحكومة الإسرائيلية.
فهل كان الإرث الباقي من اتفاق أوسلو وسياسة رابين هو ضرورة تقسيم الأرض وتخلي كل من الطرفين عن مطالبه التاريخية بكامل فلسطين التي تشكل السبب الجذري للصراع، كما يعتقد كثيرون؟
يذهب شلحت الى أن هذا الاعتقاد لا يمنع رؤية أن "إرث أوسلو وفقاً لمفهوم رابين يشمل العناصر الأساسية التي يتكون منها الموقف الإسرائيلي اللاحق إزاء التسوية"، وللبرهنة على ذلك يستدعي أهم ما ورد في خطاب رابين في الكنيست في 5 تشرين الأول/أكتوبر عام 1995، الذي رفض فيه الانسحاب إلى خطوط الرابع من حزيران 1967، وأن الكيان الفلسطيني ينبغي أن يكون أقل من دولة يصرّف على نحو مستقل شؤون الفلسطينيين، أما حدود الدفاع الأمنية عن دولة إسرائيل فسيجري تثبيتها في غور الأردن، وستبقى القدس موحدة تحت السيادة الإسرائيلية، مؤكدا تعهده بعدم اقتلاع أي مستوطنة في إطار الاتفاق المرحلي، وبعدم تجميد البناء والنمو الطبيعي للمستوطنات.
ومع نتنياهو، استمرت المؤسسة السياسية الإسرائيلية في تطبيق المدلول الحقيقي لـ "إرث مسار أوسلو"، حيث شدد في أكثر من مناسبة على وجوب أن تستند تسوية الصراع الى "حاجات إسرائيل الأمنية"، التي تركها مطاطة دون أن يحدد نهايتها. لقد حسم الصراع الداخلي بشأن السلام مع الفلسطينيين كما يقول شلحت: "بدفن الرسالة بشأن ضرورة إنهاء الاحتلال (لأراضي عام 1967) من أجل تحقيق السلام"، عميقا تحت "الوضع القائم" المتمثل بـ "السلام مع استمرار الاحتلال".
وفي استقراء للوضع الداخلي الإسرائيلي، يلاحظ شلحت أنه بعد عقدين على اغتياله، اختفى رابين الحقيقي لتسيطر شخصية خيالية على السردية المتعلقة به، ليوضع كل ما يتعلق به تحت جناحي سلام غائب، وأن هذا الاغتيال انعكس في لا وعي الساسة الإسرائيليين (إن لم يكن في وعيهم التام) هواجس بأن أي اخلاء للمستوطنات يستتبع ثمنا سياسيا باهظا قد يكلفهم أرواحهم، في ظل انعدام توافق على "إرث رابين" الذي بقي خاضعا للتأويل وفق المصالح السياسية الحزبية، وفي خدمة الصراعات الداخلية المحتدمة.


السلام المكسور وأزمة "اليسار الإسرائيلي"
ما أنجزه الفلسطينيون والإسرائيليون ما بين عامي 1993 و2003 لم يكن أكثر من عملية انعكست في اتفاقات وتسويات، وحققت القليل من مضامين السلام ذات الدلالة. هذا ما يذهب إليه يورام ميتال في كتابه "سلام مكسور: إسرائيل، الفلسطينيون والشرق الأوسط" (2004).
فهناك العديد من الانكسارات في مسار التسوية إذ كبح اغتيال رابين جماح العملية السياسية، ولم يوفر قرار بيرس، من بعده، الحفاظ على السيادة الإسرائيلية على الخليل، الحماية المطلوبة للعملية السياسية، واستمرت إسرائيل في خرق الاتفاق عبر الاستيطان الذي كانت غايته ولا تزال خلق وقائع على الأرض، تحول دون تقسيم البلد، ودون قيام دولة فلسطينية مستقلة ومتواصلة جغرافيا، واستمر المستوطنون عنصرا شديد التأثير في الساحة السياسية الإسرائيلية. بيرس ساير النواة المتطرفة من الإسرائيليين، لكن ذلك ليس الانكسار الأخير، اذ كانت ولاية نتنياهو (1996-1999) نقطة انكسار إضافية حين بذل جهده لحرف أوسلو عن مساره، ولم يكن باراك مكملا لمسار رابين، كما كان يعتقد، والذي هدف إلى إدارة مفاوضات مباشرة بين الطرفين حول الحل الدائم، وإجماله خلال فترة 12-15 شهرا، لترتسم نهاية الصراع في نظره هدفا رئيسيا، يراه ميتال هنا هدفا غير مسبوق من الناحية التاريخية، ويفتقر الى أي سند من وجهة نظر القانون الدولي، لذلك افتقدت الاتفاقات الموقعة بين إسرائيل والأردن إلى بند يتطرق إلى "إنهاء الصراع"، ولا يأخذ على محمل الجد ما يوصف بـ "العرض السخي" الذي قاده باراك، لأن ممثلو باراك عرضوا في مباحثات طابا لاحقا اقتراحات متطورة جدا عن تلك التي عرضت على الفلسطينيين في كامب ديفيد.
فترة إيهود باراك، وعلى وجه الخصوص في أعقاب قمة كامب ديفيد، كشفت النقاب، عن أزمة ما يعرف بـ "اليسار الصهيوني" الذي على خلاف اليسار في دول العالم كافة، لا يتميز عن اليمين إلا بموجب موقفه من "عملية السلام"، إلا أنه انقاد وراء الرواية التي صاغها باراك وسيطرت بكثافة على الخطاب الإعلامي، ليتقاسم كل من اليمين واليسار، بعد فشل كامب ديفيد، جملة مزاعم تبسيطية، ليشكلا إجماعا في الخطاب السياسي الإسرائيلي. أما النقاش المعمق حول الأسئلة الأساسية التي تزيل ضباب الرؤيا، فكانت من نصيب قلّة ضاعت أصواتهم هباء في الزحام. و"يساريو الظاهر"، كما يصفهم ميتال، أعلنوا عن استفاقتهم من ضباب أوسلو. وهكذا أعادت عملية بناء صورة الشريك اللحمة بين "أبناء القبيلة الواحدة".

هوامش:
(1)  يعلن المركز، عبر موقعه الرسمي على الإنترنت، أن "برنامج دراسات إسرائيل" هو مشروع بحثيّ جديد يتركّز حول دراسة الدولة الإسرائيليّة – مجتمعاً، وتاريخاً، وسياسة- ويشكّل أحد برامج "مدى الكرمل" الرئيسيّة. ويهدف الى دراسة متعمّقة للمجتمع والسياسة في إسرائيل وشرح الصيرورات السياسيّة والاجتماعيّة بمنهجيّة تعتمد البحث العلميّ وتنأى عن الأسطرة التي تتراوح بين عملقة إسرائيل وتقزيمها؛ وبين عرضها كأنها قادرة على كل شيء أو غير قادرة على أي شيء. ويهدف البرنامج الى عرض تحليلات أمينة للواقع الإسرائيلي بآفاقه ومحدوديّاته، مبتعدةً عن الأدلجة، التبسيط أو التشويق. ولا يعتمد البرنامج توجه "اعرف عدوّك" أو "اعرف جارك"، بل يهدف إلى فهم الدولة الإسرائيليّة وشرحها من موقع يستطيع أن يسبر أغوار بعض الصيرورات أكثر من أي موقع آخر.
(2)  يشير الكاتب إلى أن إسحاق رابين استغل انهيار الاتحاد السوفييتي وبروز عالم القطب الواحد بزعامة الولايات المتحدة الأميركية، وعزلة ياسر عرفات الدولية لتضامنه مع الرئيس العراقي صدام حسين خلال حرب الخليج الثانية العام 1991، لإنجاز تفاهمات مع السوريين والفلسطينيين، من شأنها أن تضمن تحييدهما في سياق مواجهة محتملة بين إسرائيل وكل من العراق وإيران.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.