}
قراءات

"عين الشرق".. الرواية بمنظور مختلف

خيري الذهبي

11 أكتوبر 2019
الشرق، ككل الأشياء العظيمة، كدمشق، التي تبدأ من الشعر، وتنتهي إليه... دمشق تلك المدينة الشعرية، سحريتها قادمة من هناك، من شعريتها، لغتها شعرية، وعمارتها شعرية، أشجارها مرسومة كما ترسم الأشجار في القصائد، وأنهارها السبعة مقاطع شعر، مصائر كائناتها مصائر شعرية لا مصائر روائية. ولأنها كذلك، كانت دلالاتها وإشاراتها شعرية أيضاً.


هل يصنع المكان التاريخ
؟
في رواية "عين الشرق" لإبراهيم الجبين، يتبدى ما يكتبه أشبه بكتاب في التاريخ للتوثيق والإحالة، أو بكتاب عجيب مواز للتاريخ، ولكنه أشبه بالرواية في التحليق والتعليق. وهو من ناحية أخرى أشبه بالتاريخ في صرامته وتوثيق كل ما جاء فيه، وخاصة حين يسمي الشخوص بأسمائهم الحقيقية، ويضعهم في مواقف حقيقية، فإن شك القارئ في صدقية ما يقرأ، فما عليه إلا مراجعة كتب التاريخ المتخصصة.
هذه الرواية، أو - كتاب التاريخ – الأحجية، المتداخلة ما بين البطولية والحياة العادية، ما بين تاريخ سورية الكلاسيكية، وتاريخ سورية المعاصرة، وضع فيها إبراهيم الجبين كتابه المربك، الذي لن تستطيع له فهماً إلا بعد الانتهاء من قراءته. فإبراهيم يحمل هماً، وهذا الهم هو تاريخ المكان، سورية المتنقلة رغماً عنها ما بين الإمبراطوريات الشرقية والغربية، وما بين محاولات الاستقلال الهشة، وما بين الثأر للتاريخ من الاضطهاد، والتربع على العرش، وما بين حكايات الجدات الباكيات على حلم العزة، وواقع المطاردة في الخروج عن الدين  الرسمي.
في هذه الرواية، قرر المؤلف أن يكتب عن مدينة، أو بلد، استباحها الفرس حين استطاعوا، ولو بعد أربعة عشر قرناً كانوا فيها عاجزين عن اجتياز العراق إليها، فلقد كانت الإمبراطورية العثمانية واقفة لهم بالمرصاد منذ بدايات القرن الخامس عشر، أو ربما نهايات الرابع عشر، أي منذ احتل سليم الأول عاصمتهم، واضطر السلطان إسماعيل الصفوي "الأذربيجاني المتفرسن" إلى الفرار من عاصمته، وتركها للعثمانيين، أو لخصمه السلطان سليم الأول، ثم إحراقها قبل

التخلي عنها في ما بعد، حتى لا يسمح للعثماني بالإقامة في المدينة المحروقة، ثم يجعل التاريخ يكتب، وقد أقام سليم عدة شهور في عاصمة الصفوي حتى يطمئن إلى تسليم إسماعيل الصفوي، وقد عمد هذا الصفوي التركي إسماعيل انتقاماً لهدم عاصمة إمبراطوريته التي كانت تطمح إلى منافسة روما العظيمة أيام عظمتها كما أعتقد، والقسطنطينية جوهرة البوسفور قبل قرون قليلة، ولكن هذه العاصمة البيزنطية شاخت كما سيشيخ كل شيء، فلقد انتزعها من التنافس مع الإمبراطوريات شيخوخة الحكام من الأكاسرة.
وكان العرب قد هاجموها بعد أن هزموا الجيوش الفارسية فانتزعوها منهم بقوة الدين الجديد، والبداوة الجائعة إلى كل شيء، والصامدة للفتح، إلى أن حولوها إلى شيء آخر يختلف كثيراً عن الاسم الذي اختاره الكاتب للرواية التي بين أيدينا "عين الشرق"، فلقد أعطي الاسم إلى مدينة أخرى هي "دمشق".
في هذه الرواية، التي بنيت بشكل مغاير ومختلف، أعطى لصاحبها لغة وشكلاً ميزه بشكل واضح عن الرواية السورية والعربية، يعطي الجبين فهارس حقيقية لسورية، لدمشق، والسلمية، وديرالزور، وحلب، يوميات وقصص فسيفسائية، تتراصف لتشبه صنعة كاتب من القرن الخامس عشر تارة، وتتشرذم متبعثرة بسوريالية نص روائي ما بعد حداثية، تارة تشبه صنعتها صنعة "البديري الحلاق" في تسجيل الحدث كروي يومي سلس، وتارة تتماسك لتصبح نصاً تاريخياً بديلًا، يتدفق في ثنايا تاريخ حفظناه كما عرفناه، في قصة كوهين مثلاً: يظهر الجاسوس الإسرائيلي الذي أعدم في العام 1965، كضحية للزمان والمكان، يظهر كفرق توقيت بين قوتين تتصارعان، صائد جوائز يأتي إلى عرين أعدائه لاقتناص الضابط النازي الذي لجأ إلى دمشق، ليكون مدرباً للفاشية، وأساليب التعذيب والتحقيق، يعلم به الموساد، ويرسل إيليا كوهين ليصطاده، هل بعلم المخابرات السورية، هل بعلم البريطانيين؟ لا أحد يدري، هي رواية الجبين البديلة للتاريخ، ولكنه يسقط، ويحاكم كجاسوس، وهو يصرخ في محاكمة دمشق المسجلة تلفزيونياً "أنا مندوب، أنا مندوب، ولست بجاسوس"، ولكن الشرق يطحنه كما طحن غيره.
وفي هذا الكتاب/ الرواية، يقول إبراهيم، وهو القادم من ديرالزور، وهي جفن الشرق، الأكحل، ربما من المكحلة والإغواء، وربما من التهميش والعنف، يتحدث عنها، وكان قبلها قادماً من الحسكة إلى ديرالزور في ص172، أي ما يقارب منتصف الرواية "كنت أعيش بين أبطال حاضرين بقوة، إن تركتهم، وانشغلت عنهم بأمور أخرى... لاحقوك، وعلى الرغم من أني لم أكن أعني لهم الكثير"، كما كنت أظن "إلا أنهم جعلوني أشاهدهم، كما جعلني غيرهم شاهداً.... وبين هؤلاء الحاضرين، كنت أعيش، وبين غائب، لكنه حاضر".
ويدخل الجبين مدينة دمشق دون استئذان، فلطالما فتحت صدرها للوافدين، ثم يعلق على واقع الرسامين، مجسدين بلؤي كيالي... فيقول في مفتتح الرواية "لو يستطيع الكاتب أن يفعل ما فعله لؤي كيالي فيقوم بجمع لوحاته، وإحراقها ليبدأ من جديد لفعلت هذا، ليس لأن ما كتبت لم يكن ذا قيمة، بل لأن الواقع الحي في بلادي منذ العام 2011 أكثر قيمة من كل قيمة، ولكن

كل شيء كان يرتبط بما حوله بقوة، ومهما حاولت انتزاعه من سياقه، ومهما فكرت أن السياق لم يكن سياقاً أصيلاً... فما أومن به أنا أن مجرى النهر هو مجرى النهر ذاته". وطبعاً لن يقدم الجبين على فضح مشروعه في محاولة، أو أمنية غامضة ربما عنه أيضاً... لإعادة بناء سورية متخلصاً من كل ماض لها قبل الاستقلال.
ويتقدم بالرواية، أو تتقدم الرواية به، فيتابع محاولاً صياغة شكل للمدينة، فيقول وهو يعني ديرالزور: "خمارة أبو شمس التي دلني عليها عماد هي سقيفة فوق أحد المحلات في الشارع العام في دير الزور، وكان أبو شمس يفتحها في الثامنة صباحاً، حيث يمكنه أن يقدم فيها للزبائن مشروبات روحية لا رائحة لها، كي يتمكنوا من الذهاب إلى أعمالهم بعد زيارتها.... ففيها كنت أسمع قصصاً عن المساجين، لا بسبب تهمهم السياسية، بل للتجارة بالحشيش، أو لتهريب أو بيع الآثار... كانت مكاناً فقيراً، وغير مرتب، لذلك لم أعد إليها بعد عدة زيارات مستكشفة، فلم يكن يثيرني فيها شيء سوى أنها كانت كاسرة للرتابة وللنظام، وكنت أتعمد كسرهما...".
كان الكاتب ينتقي الغريب والمخيف والمثير للعواطف في المدينة - الشبح، العريقة المهمشة، الفاتنة المهملة، ديرالزور، والتي كانت للغرباء مدينة ملثمة بالسواد كبناتها لا تكشف سرها إلا برغبتها الكاملة، وللمعشوق المختار، وهيهات لزائر أيام، أو ساعات، أن  يكون المعشوق الذي تكشف له الفتاة – المرأة عن سرها وجمالها... فيحدثنا عن المنتحرة دون أن يذكر السبب، وكيف له أن يذكر السبب، وهو يحدث عن المدينة الملثمة المتخفية وراء أسرارها التي لا يعرفها إلا الله والعارفون بالغيب، فيقول: ذات صباح جاء الخبر السيء.... فتاة أخرى من ديرالزور قامت بإحراق نفسها... ويقول عن معرفته لها "لقد كنت أتحدث معها طيلة الوقت في بيت أهلها ريثما يأتي شقيقها"....
ثم يكمل: ذهبنا إلى المقبرة لدفن أروى "اسم المنتحرة"... واجتمع الناس حول الجثمان الذي كانوا يستعدون لدسه في التراب... كان الصمت يخيم على الجميع، لكن كاسر "أخوها" استطاع جعل الجميع ينفجرون بالبكاء، حين قال لـ"جدث" أروى كلمته الأخيرة قبل أن يدير ظهره ويبتعد.. قال: مع السلامة يا أروى!!!! وانفجر سامعوه بالبكاء!!
في الليلة الأولى لدفن اروى، سمعت من كاسر عزفاً غير عادي على الغيتار.. كان ينهمر، وكان يندفع مثل موجات النهر... مثل رياح الغمام الهائلة التي تهب على المدينة.... لم يبك، ولم يحزن.... كان يعزف فقط لأستورياس، وأندريه سيغوفيا، من جديد، بعشرات الأشكال والإيقاعات، يعزف على الأوتار المشدودة التي قال إنه تمكن من تحويلها الى أوتار يصدر عنها هارموني "الحجاز كار"، وهو ما لم يكن ممكناً بآلة غربية...
من الواضح أن طموح الجبين كان الرغبة في تقديم صورة شاملة لسورية، صورة تحيط برؤية كل الإشكالات المستحيلة لمجتمع يحتقن بالنزاعات البشرية ما بين بدو مغرقين بالبداوة، وبين حضر معاصرين تائهين في البرزخ، ما بين المؤمنين بتسيد الشيطان على العالم، والمسمين باليزيديين، وبين عابدي الرحمن الرحيم، على هذا المذهب أو ذاك، بل ما بين المذاهب المسيحية التاريخية والمعاصرة، والراغبين في القضاء على الاختلاف في توحيد الرؤية، ما بين لهجات شديدة الاختلاف، لهجات بدوية تنتمي أدائياً إلى البلد المجاور المحرم على السوريين التفكير مجرد تفكير بالاتحاد معه "العراق"، وما بين لهجات حضرية تثير السخرية لدى السامعين من البدو الذين يعرفون أن لهم من يناظرهم في اللهجة، موزعين ما بين الجزيرة العربية، وبين سكان أقاصي العالم العربي، "موريتانيا"، حديثي الهجرة من الجزيرة العربية، وهم قبائل ضاقت بضيق المكان والرزق، فقررت الهجرة عن الجزيرة العربية إلى أقصى مكان يمكن الوصول إليه براً، وكان ما سمي عربياً بـ"شنقيط "، وغربياً "موريتانيا".
مجتمع لم يستطع خلق النموذج كما في مصر التاريخية مثلاً، فأنت ما أن تسكن القاهرة حتى تسعى إلى الذوبان والاتحاد بالقاهرة والقاهريين، عبر الحديث، مستخدماً اللهجة القاهرية التي اغتنت بالأدب والصحافة والتمثيل، حتى صارت منافسة للفصحى بين سكان القاهرة ومقلديها عبر تقليد اللهجة القاهرية، بل في العالم العربي التلميذ المتقبل لكل ما هو مصري قبل الدخول في دوامة الانقلابات العسكرية، وربما كان "وهذا هو الخطير في الرواية" أنه يقول فاضحاً لنوايا الخفيين المتخفين وراء الرئيس السابق لسورية: تم ضرب الناس في مقتل حين كسرت

تلك الحلقة الشابة بين منفي ومعتقل وقتيل أثناء التحقيق معه، وكل ذلك في سبيل بقاء السوريين ضمن دائرة خلخلة الأجيال.... وهذه الخلخلة والقطيعة كانت تظهر خلفي حين ألتقي بالسوريين الأيتام من الشباب.
ــ "نحتاج شارحاً للماركسية والثورة. لم يعد لدينا أحد بعد سفر خالك صبحي الحديدي"، قال ناصر الذي عبر عن انهيار الشريحة المعارضة المثقفة في ديرالزور، التي طالت كثيراً من النخب بحملة اعتقالات العام 1987، والتي طالت كثيرين من النخب والثقافات. وتابع: كنا نذهب إليه ليحكم بيننا في مسائل فكرية، فهو الأكثر اطلاعاً على الثقافات، لذلك كان علي الصمت، ثم تابع: واليوم تجدنا جزراً متفرقة، شحيحة وشاحة معاً.... أرجو أن نجد من يفعل هذا، فلم يعد مفتاحاً سرياً غامضاً تركه الغائب، فحكم على الناس بإضاعة نجمة الصبح.
قلت: لنفعل هذا جميعاً!!
ــ بالنسبة لي فالطريق مختلف.
كان هذا كثيراً علي. بالكاد كنت أفك الحرف في المعارف، لكني أرث حضوراً فريداً، ثقة نادرة، وفيضاً من محبة الآخرين، مفتاحاً سرياً غامضاً تركه الغائب الحاضر، لذلك كان على الصمت أن يعينني معظم الوقت".
بهذه المقولات البسيطة، وضع المشكل الأكبر في ديرالزور على الطاولة، وربما ليس في ديرالزور فقط، بل في كل المدن والمحافظات السورية التي لا تجد حلاً بعد تخلص الحكومة من مثقفي البلد، ورميهم إما خارج البلد، أو في السجون، فخلا الجو للمرتزقة واللصوص ليعيثوا تخريباً في البلد.
في مقولته هذه وضع إبراهيم الجبين الملح على الجرح، كما اعتدنا القول، فكشف لنا عن سر الألم والضعف اللذين أصابا النخب في سورية حين انتزعوا منهم المثقفين والقادرين على التأثير في الجموع، فصار القطيع دون راع، ثم ارتد الرمح على راميه، فتقدم رجال الدين السنة إلى الأمام يعلنون الثورة لتكون الثورة ردة، وليبرز الإيرانيون، طالبو الثأر الذي تأخر أربعة عشر قرناً، ورأينا وعشنا الكارثة في سورية وفي العراق.

السلمية
قرية لم يحتفظ التاريخ بذكراها إلا لأنها كانت المخبأ الذي حاول العباسيون عبثاً معرفة السحر والجنون الذي مارسه الإسماعيليون، أو من سيسمون بعد خروجهم من السلمية هاربين إلى شمالي إفريقيا، بالفاطميين، نسبة إلى ابنة الرسول فاطمة.
السلمية التي خرج منها الفاطميون ليحكموا شمال أفريقيا، حكموا مصر بداية، وأسسوا فيها مدينة القاهرة، وهي مدينة حملت اسمها الغريب عن الأذن العربية، لأن الفاطميين كانوا يؤمنون بالتنجيم، ومعرفة الغيب، باستنطاق النجوم.
وكان القائد الفاطمي جوهر الصقلي قد وصل إلى القاهرة ليهيئ العاصمة الجديدة لأسياده الفاطميين، فانتظر جوهر حلول المريخ، أو "القاهر"، باسمه الفلكي في مكانه في السماء، فلما حل المريخ في مكانه السماء، أمر البنائين بالبدء في بناء "القاهرة"، نسبة إلى القاهر، ثم دارت الدوائر حتى على الإسماعلييين الفاطميين فانهاروا تحت ضربات صلاح الدين... وهجر الفاطميون مصر والقاهرة إلى اليمن، وبعض البلاد الإسلامية.
وكانت السلمية قد خلت من السكان والعمارة بعد تخريب العباسيين لها، وقتل ومطاردة خصومهم السياسيين الذين كانوا كامنين فيها... وظلت المدينة مهجورة لما يقارب الألف سنة، حتى أذن السلطان العثماني للفلاحين بسكناها، فمضوا إليها آحاداً ومئات.. وعمرت المدينة بالري والخيرات المكتنزة فيها، وكانت بدايتها الثانية في القرن التاسع عشر.
السلمية التي فارقها الخصب لشدة الاستنزاف، وفارقتها المياه، فصارت فخاً لأهلها من الإسماعلييين والعلويين الذين لحقوا بأهلها باحثين عن أراض ومستقبل، فغادرها شبابها الذين أفقرهم التكاثر، ومحدودية الأرض، يبحثون عن مصدر رزق غير الزراعة التي فشلوا في تحديثها، وعادت السلمية إلى خمولها!
ويعود الجبين إلى الحديث عن دمشق، فيقول: الزمن في دمشق لا ينتمي إلى الزمن العالمي الذي يعرفه البشر.... وحدث أن فاز الفيلم المطروح للمسابقات عنها بجائزة أفضل إخراج، ولم يكن بطله العمود، ولا أنا، ولا علي.... بل كان بطله المكان، والمكان كان واحداً لم يتغير طيلة زمن الفيلم، ووصلت سلمية!!
وكان السؤال "ماذا رأيت في سلمية"، ويحدث منكسراً عن المدينة الحزينة.... ثم يعلق بقنوط: سكان "سلمية" غادروها إلى الشام "دمشق"، وحلب، والمعتقلات السياسية والمنافي، كمعظم المدن والمراكز الحضرية في سورية، فإما العمل في الشرطة كما في إدلب... أو العمل في دوائر الدولة لو كنت متعلماً فقيراً فأنت الأفضل، فقد حققت بتعلمك الهدفين معاً، أو السجن!!
احترق الحلاج مصطفى في لهيب مرسمه الذي كان يرسم فيه لوحته الأطول في العالم "114 متراً"... أراد أن يسجلها في موسوعة غينيس "نهر الحياة" اللوحة التي تدور حول

المشاهد، والتي صور موفق قات أجزاء منها في فيلم سماه "كائنات الحلاج الغرائبية"، التي احترق الحلاج عائداً إليها، فاحترق من أجلها...
تتقدم الرواية بعد ذلك في غرائبيتها لتقدم ثبتاً بالمتمردين على تعفن الحكم في سورية. فسافر المتمردون روحياً، هاجرين الوطن، ليبدأوا حياة يظنون أنها جديدة..
سافر الكثيرون، وهاجر الكثيرون، وبقيت أنا محبوساً مع إخاد، في ذلك السرداب في دمشق، ومن خرج أخيراً لم يكن أنا.... بقيت الساعة العتيقة ذات البندول النحاسي تتدلى، وتتحرك دون أن تشير إلى الزمن....
دخان سجائري ما زال هناك يسبح في الفراغ.... وبقي إخاد... هناك أيضاً....
"عين الشرق" لا ترى سوى الظلم، وتغلق جفنها على الجمال فيها لتحميه، صور شعرية وبنية تاريخية وثائقية، بذل فيها الكاتب جهداً كبيراً في تحويل البشر العاديين إلى أبطال حقيقيين، فهو كالمخرج السينمائي الذي يرفض أن يوظف ممثلين محترفين في فيلمه الطويل، فيعمد إلى انتقاء ممثليه من العامة، من المشاهير الحقيقيين، ليظهروا بأسمائهم الحقيقية، فيضيف إلى النص جمالاً وإشكالية، ما بين الوهم والواقع، ما بين التماهي وكسر الإيهام، هل هذا حصل فعلاً في الواقع؟ هل ما أقرأه حقيقي؟.. ولكن السؤال الأهم، هل ما نراه في الحياة هو حقيقي؟ أم أنه لشدة غرابته تحول إلى كذبة لا تصدق، والجبين التقط تلك المفارقة، تلك اللحظة الفارقة بين الحقيقة والكذب، بين الإنسان الذي يسير في شوارع دمشق كمواطن وهو لا يدري أنه يسير كبطل روائي، سيلتقطه روائي ما أتى متدفقاً مع مياه الخابور إلى الفرات، ومنها إلى بردى الدمشقي..
وتقرأ أخيراً: سورية مطروحة مرعوبة مُجوَّعة مهجورة... هذه هي سورية كما رآها إبراهيم الجبين، وكان لا بد من ثورة تعيد الحقوق إلى أصحابها... ولكن من هم أصحابها!!!! هذا هو السؤال!!

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.