}
عروض

صور أيقونية: أول قارب آلي شق مياه البحر الميت

هاني حوراني

11 أكتوبر 2019
حين وصلتني نسخة من الطبعة الأولى من كتاب "القدس العثمانية في المذكرات الجوهرية"، عام 2003(1)، استغرقت مثل غيري في قراءته بشغف استثنائي، خاصة أن واصف جوهرية الذي كتب المذكرات عن حياته في تلك المرحلة (1904 – 1947) لم يقيد نفسه بالضوابط المعتادة، فهي أقرب إلى "اليوميات" منها إلى المذكرات التي يتركها الأعلام والمشاهير من خلفهم.
على أن أكثر ما شدني في صور الكتاب، وهو حافل بها، صورة قارب بخاري حديث يعبر شوارع القدس على عربات جَرّ في طريقه إلى البحر الميت. وقد وقف على سطح القارب على روشن بك(2)، ونهاد بك، وغيرهم من الضباط الأتراك. أما تاريخ الصورة فهو عام 1915، على ذمة المذكرات الجوهرية، لكنه عام 1917 حسب التعليق على الصورة الأصلية، المحفوظة في مكتبة الكونغرس الأميركي. ويقال إن مصورها، حسب المذكرات، هو خليل رعد، رائد التصوير الفلسطيني المحلي.

أعضاء مجلس المبعوثان العثماني في ميناء البحر الميت 1916

وفي أماكن أخرى من الفصل الأخير من المذكرات، نشرت صور فوتوغرافية أخرى لقوارب تمخر البحر الميت، أو لـ"ميناء" البحر الميت، حيث ترسو سفن تجارية لتحميل البضائع والركاب.
ربما كانت تلك الصور الفوتوغرافية هي الأولى التي تنشر في المطبوعات العربية، حيث تظهر البحر الميت "حياً يرزق"، يعج بالحياة والحركة، بعكس ما بات عليه في السنوات التي تلت قيام الكيان العبري، ووقوع النكبة، واقتلاع غالبية الشعب الفلسطيني من أرضه عام 1948. ففي العهد العثماني، وكذلك خلال عهد الانتداب البريطاني على فلسطين والأردن، كان البحر الميت الذي يقع ما بين البلدين، ويصب فيه نهر الأردن، تقطعه القوارب والسفن الشراعية،
وتنتقل ما بين شواطئه، مثله مثل البحار الداخلية الأخرى في العالم. وباستثناء كثافة الأملاح في مياهه، وعدم قدرة الأحياء المائية على العيش فيه، فإنه يكاد لا يختلف عن بقية البحيرات الكبرى، أو البحار الداخلية.
ازدهرت الحركة بين شواطئ البحر الميت إبان الحرب العالمية الأولى بشكل خاص، وذلك لأسباب تتعلق بالحاجة إلى نقل الحبوب، التي كانت تنتج بكثرة في الأراضي الأردنية، إلى فلسطين، خاصة لتأمين القوات العثمانية المرابطة في فلسطين وسيناء، أو لأسباب دفاعية مع تعاظم المواجهة ما بين القوات العثمانية والألمانية في المنطقة من جهة، وما بين بريطانيا والقوات الحليفة، والتي كانت قد نجحت في عبور سيناء واحتلال غزة في أواخر عام 1917.
ينشر واصف جوهرية مقاطع شيقة عن تجارة القمح ما بين ضفتي البحر الميت، خلال فترة الحرب الأولى، والتي نشط فيها حسين أفندي الحسيني، بعد عزله عن رئاسة بلدية القدس عام 1915. ويروي كيف كان الأخير يحل في فصل الشتاء في الطابق العلوي من فندق "المنظر الجميل" في أريحا، حيث يكون قريباً في عائلته أثناء مراقبة أعمال نقل الحبوب من جهة البحر الميت والكرك إلى فلسطين.
كانت أعمال نقل الغلال ما بين الأردن وفلسطين تتم ما بين غور المزرعة والشاطىء الغربي للبحر الميت، المعروف "بالجديدة"، وكانت عملية النقل تتم بمراكب شراعية تعتمد على قوة الرياح، وهو ما كان يتسبب ببطء عمليات النقل، خاصة عندما تكون المراكب الشراعية مملوءة بأكياس القمح والرياح راكدة.
على أن حسين أفندي الحسيني استطاع، كما يروي جوهرية، استحضار "لانش"، أي مركب بمحرك آلي، بواسطة روشن بك، من الجيش العثماني، لاستعماله في البحر الميت. فهل كان هذا "اللنش" هو نفسه الذي يظهر في الصورة الفوتوغرافية الشهيرة، حيث اعتلى روشن بك سطحه، أثناء عبوره لشوارع القدس في طريقه إلى البحر الميت؟!
يقول جوهرية في مذكراته "أن اللنش كان مساعدة عظمى لإدارة نقل الأغلال"... إذ كان يجر ورائه المركب الشراعي الكبير، مملوءاً بالقمح في مدة قصيرة جداً، "فأصبح هذا "اللنش" والموتور القوي يتحكم بالوقت، وتخلصنا من الاتكال على الطقس وتقلباته".
وعلى ما يبدو، فإن المركب البخاري لم يكن نافعاً فقط في نقل القمح ما بين ضفتي البحر الميت، بل استُخدم لأول مرة كوسيلة سياحية مبتكرة لاستكشاف مصب نهر الأردن في البحر الميت، والتعرف على المناطق المحيطة بشواطئه. ويقول جوهرية الذي كان من مرافقي حسين أفندي إن الأخير أحب أن يستغل وجود "اللنش"، فقام بجولة "شيقة مع عائلته والمرحوم سعدالدين الخليلي، خال عقيلته، وزوجته، وغيرهم، فقضينا مدة خمسة عشر يوماً ننتقل من محل إلى آخر، ومن وادي إلى جبل، وكان معنا كل أسباب الراحة للسفر، من خيم وسرائر وأثاث سفري، بصورة منتظمة، وكأننا سياح تماماً".
ومع احتدام المواجهة على طرفي السويس ما بين العثمانيين والألمان والجيش البريطاني، ازدادت الحاجة إلى تطوير ميناء البحر الميت، الذي كان معداً لنقل الحبوب إلى "ميناء عسكري"، لزيادة استيراد الغلال "التي هي الأساس في الحرب، من شرقي الأردن"، كما يقول جوهرية. وهكذا أوعز روشن بك إلى حسين أفندي الحسيني بالإشراف على توسعة الميناء.
قام الأخير باستدعاء رجالات "البحرية في يافا"، أي بحارة الميناء في يافا، وكانوا مشتتين، فارين من الخدمة العسكرية في الجيش العثماني، وأعطى لهم الأمان من معاقبة الأتراك، إذا ما قاموا بالمساعدة على توسيع ميناء البحر الميت، وتهيئته لاستقبال السفن، وأعطى الحق لكل عمال البحر بإحضار عائلته للسكن معه على شاطئ البحر الميت. ويذكر جوهرية أسماء خمسة عشر عائلة من عائلات البحر في يافا التي انتقلت إلى شاطئ البحر الميت، وعاشت في (عرائش) أقامها لهم حسين أفندي، وبنى عدة غرف من اللبن (الطوب الطيني)، والزينكو والخشب، كما أقام لساناً خشبياً إلى عرض البحر، فأصبح لديه "ميناء محترم".

مهندسو الجيش البريطاني يشرفون على إصلاح قارب عثماني اّلي 1918
وكأن قصة إحياء البحر الميت تحتاج إلى مزيد من التشويق، إذ يقول واصف جوهرية أن هؤلاء "البحرية" جاءوا بفلايك (أي قوارب) كبيرة جداً من يافا، كان ينقلها موسى ابن محمود النجار، محمولة على الكارات (جمع كارة، أو عربة) تجرها البغال، وزيدت ببناء المراكب الشراعية ذات الحجم الكبير، كما أحضرت الحكومة من الأستانة ثلاثة "لانشات" قوية.
يفسر السرد المفصل لبناء الميناء على شاطئ البحر الميت أن واصف جوهرية كان المسؤول عن صرف الأموال المخصصة لإنشاء الميناء، ويختم هذا المقطع بوصف حفل افتتاح ميناء البحر الميت، الذي حضره العديد من ضباط البحرية التركية، وروشن بك "مفتش المنزل" في القدس، وعدد آخر من الضباط. بدأ الحفل بكلمة من حسين أفندي الحسيني، الذي قدم رئيس
البحرية الحاج مصطفى دهشان، الذي قام بقيادة عمل بحارة يافا في إنشاء الميناء، وتلاه روشن بك الذي امتدح عمل حسين أفندي، وشكره على مساعداته القيمة للدولة العثمانية.
بعيداً عن رواية واصف جوهرية، وبالعودة إلى مجموعة صور أريك واديت ماتسون G. Eric Metson and Edith Matsen، المحفوظة في مكتبة الكونغرس الأميركي، نجد مجموعة من الصور التي تظهر السفن الشراعية، وهي تقوم بتحميل أكياس القمح من الشاطئ الشرقي للبحر الميت في طريقها إلى فلسطين عبر البحر الميت، تحمل تاريخ 1917.
على أن صوراً أخرى التقطت عام 1918، بعد احتلال بريطانيا والحلفاء لفلسطين، تظهر أولها قارباً آلياً عثمانياً راسياً على رمال أحد شواطئ البحر الميت، وقد جلس فوقه مهندسون عسكريون بريطانيون، كما اصطف في محاذاته أسرى عسكريون ألمان وعرب تم تسخيرهم في إصلاح القارب.
وفي صورة ثانية، نجد القارب ذاته، وفي أسفله عسكريون بريطانيون قاموا بطلاء القارب، بعد الاستيلاء عليه، وكتابة اسم أديلا (Adela)، وهو اسم زوجة الجنرال اللنبي على مقدمته. فهل هو نفسه القارب الآلي الذي عبر القدس نحو البحر الميت، ووقف على سطحه روشن بك حينذاك، زاهياً... متباهياً بدوره في إحياء البحر الميت، ودخول الأخير عصر القوارب البخارية؟!

 

الهوامش:
(1) القدس العثمانية في المذكرات الجوهرية، تحرير وتقديم سليم تماري، وعصام نصار، الطبعة الأولى، مؤسسة الدراسات المقدسية، 2003.
(2) علي روشن بك كان ضابطاً ألبانياً ترقى داخل أركان الجيش العثماني بسرعة نتيجة ذكائه وقدراته التنظيمية والإدارية، إلى أن وصل إلى منصب قائمقام عسكري، مسؤولاً عن الأمور اللوجستية في الجبهة الجنوبية، خلال فترة الحرب الأولى. وبحكم منصبه الإداري أصبح روشن بك أعلى سلطة عسكرية في فلسطين. وكان لقبه "مفتش المنزل"، ومهامه تعبئة الجنود في أنحاء فلسطين، وتدريبهم وإرسالهم للقتال في جبهة بئر السبع وسيناء، وإدارة لوجستيات الجيش في سورية الجنوبية. انظر: سليم تماري، "عام الجراد، مذكرات جندي مقدسي في الحرب العظمى". موقع الأوان alawan.org - 30 سبتمبر (أيلول) 2019.

*باحث ومصور فوتوغرافي.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.