}
عروض

رواية "الخط الأحمر": العالم كما هو

رضوان زيادة

22 سبتمبر 2018
  

في أيار/مايو 2016 نشرت صحيفة النيويورك تايمز سيرة ذاتية لبن رودس وصفته فيها بأنه " الروائي الطموح الذي أصبح معلم السياسة الخارجية لأوباما" وعنونت عنواناً جانبياً "كيف أعاد بن رودس كتابة قواعد الديبلوماسية في العصر الرقمي".

يعتبر بن رودس من أقرب الأشخاص للرئيس أوباما بل إن البعض يصفه بأنه كاتم أسراره، ولذلك فإن مذكراته سيكون لها الصدى الذي تستحقه فيما يتعلق بكشف ما دار داخل البيت الأبيض وخاصة لجهة اتخاذ القرارات المصيرية كلحظة اغتيال أسامة بن لادن، أو القرارات التي صاحبت الأزمة المالية العالمية 2008، أما بالنسبة للسياسة الخارجية فإن سنوات أوباما ترافقت مع الربيع العربي، وبالتالي فالكتاب يمثل ثروة للاطلاع على ما جرى داخل البيت الأبيض لاتخاذ القرارات المواكبة للثورات العربية من ثورة تونس إلى مصر فالتدخل العسكري في ليبيا والأزمة السورية التي قال عنها أوباما هي سبب الشيب الذي غزا رأسه.

فبصفته نائبا لمستشار الأمن القومي للاتصالات الإستراتيجية، كتب رودس خطابات الرئيس أوباما، لقد كان عقله المفكر إذا صح هذا التعبير، وخطط لرحلاته إلى الخارج وأدار إستراتيجية الاتصالات في البيت الأبيض، وهي مهام لا يمكن أن تُعطى بشكل فردي إلا لشخص محل ثقة كبيرة لدى الرئيس والأهم أنه يقوم بالمهمة تماماً كما يرغب الرئيس أن يقوم بها. إنه، وفقاً لإجماع العشرات من المطلعين السابقين والحاليين في البيت الأبيض هو الصوت الأكثر تأثيراً الذي شكل السياسة الخارجية الأميركية جنباً إلى جنب الرئيس أوباما. وهو ما كان محل انتقاد بالنسبة للكثيرين لأنه يغطي على دور وزير الخارجية وخاصة كيري الذي كان يحتفظ لنفسه بدور مهم خاصة في الملفات الحساسة.

كان الرئيس أوباما يتحدث مع رودس "بانتظام، وعدة مرات في اليوم"، لقد كان رودس مسؤولاً عن الاستراتيجية الإعلامية لتسويق الاتفاق النووي مع إيران وهو لذلك يتحدث عنها في فصله الأول وليس الأخير كما يقتضي الترتيب التاريخي للأحداث في عهد أوباما.

كما كان رودس الرجل الأول في فتح المفاوضات السرية من أجل إعادة العلاقات مع كوبا وفتح السفارة الأميركية هناك بعد توقف دام أكثر من 50 عامًا، حتى بدون علم وزارة الخارجية التي أوكل إليها فيما بعد إخراج الموضوع ودبلوماسيا بعد ما كان القرار السياسي قد اتخذ في البيت الأبيض. وهو لذلك يخصص أكثر من فصل للعلاقة مع كوبا ويعتبر هذا التغيير الجوهري في السياسة الأميركية التي اعتمدت على حصار كوبا ومقاطعتها اقتصادياً قد فشلت نهائياً وأن التغيير الذي قام به أوباما من شأنه أن يفتح صفحة جديدة ويدعوه تفاؤله إلى القول أن هذا الانفتاح ربما يقوّم كوبا يوما ما نحو الديمقراطية.

لقد شارك رودس في كتابة كل خطابات أوباما الرئيسية حول السياسة الخارجية. إنه كما وصفته صحيفة النيويورك تايمز الصوت الذي تتحدث فيه أميركا إلى العالم.

لكن رودس لم يبدأ حياته كسياسي أو حتى مهتم بالسياسة، إنه روائي، كان طموحه أن يكتب الرواية، فهو يعتقد أنه ماهر في بناء حبكة روائية تدور حول الصراع الدائم بين الأبطال الأخيار والأشرار وصراعاتهم ودوافعهم، لقد افتقد إلى أي نوع من التجربة التقليدية في العالم الحقيقي من النوع الذي يسبق عادة المسؤولية الوطنية - مثل الخدمة العسكرية أو الدبلوماسية، أو حتى درجة الماجستير في العلاقات الدولية – ولذلك كان دوما محط انتقادات الحزب الجمهوري ومعارضي الرئيس أوباما بل وطلبه الكونغرس أكثر من مرة للمثول وتقديم شهادته لكن في كل مرة يستخدم أوباما صلاحياته من أجل حمايته ورد طلب الكونغرس في المثول أمامه كي لا يكون عرضة للنقد الجارح ومن خلفه الرئيس.

يتذكر رودس يومه الأول في البيت الأبيض كيف كان الفضاء صغيرًا بشكل ملحوظ، ويلاحظ أن نفس العدد القليل من الأشخاص الذين عمل معهم في مقر الحملة في شيكاغو كانوا يرتدون الآن بدلات بدلاً من الجينز. وأدرك أنه بالنسبة لجميع الأعمال التحضيرية، لم يكن هناك دليل لكيفية التواجد مع الشخص الذي أصبح من اليوم يدير البلاد من شرقها إلى غربها، لا سيما في وقت كان فيه الاقتصاد العالمي في مرحلة السقوط الحر وأكثر من مائتي ألف من الأميركيين يقاتلون في العراق وأفغانستان. لقد أدرك شيئين واحداً في آن واحد: ثقل القضايا التي واجهها الرئيس، والاهتمام العالمي الشديد حتى بأكثر الاتصالات روتينيةً.

كان العمل الذي تم تعيينه للقيام به، ألا وهو مساعدة رئيس الولايات المتحدة للتواصل مع الجمهور، يتغير بطرق متساوية في الأهمية، وذلك بفضل تأثير التقنيات الرقمية التي بدأ الناس في واشنطن للتو في التفاف عقولهم حولها. من الصعب على الكثيرين أن يستوعبوا الحجم الحقيقي للتغير في الأعمال الإخبارية - فقد خسر 40 بالمائة من المتخصصين في صناعة الصحف وظائفهم على مدى العقد الماضي - جزئياً لأن القراء يستطيعون استيعاب كل الأخبار التي يريدونها من منصات التواصل الاجتماعي مثل الفيسبوك، التي تقدر قيمتها بعشرات ومئات المليارات من الدولارات ولا تدفع شيئًا مقابل "المحتوى" الذي تقدمه لقرائها. يجب أن يكون لديك جلد في اللعبة - أن تكون في العمل الإخباري، أو تعتمد على طريقة حياة أو موت على منتجاتها - لفهم الطرق الجوهرية والكيفية التي تغيرت بها الكلمات التي تظهر في الخطوط المألوفة.

ما أرغب أن أتوقف عنده هنا هو التفاصيل التي ذكرها رودس داخل المطبخ التنفيذي للبيت الأبيض لاتخاذ القرار بضرب النظام السوري بعد استخدامه للسلاح الكيميائي في آب/أغسطس 2013 ومن ثم تراجعه عن هذا القرار والذي شكل سراً غامضاً بالنسبة للكثيرين.

لقد خصص رودس لذلك فصلاً خاصاً سماه "الخط الأحمر"، ويذكر أن ما من كلمة ارتبطت بالسياسة الخارجية لأوباما كما ارتبطت به هذه الكلمة، ففي أغسطس 2012، سئل أوباما عما يمكن أن يدفعه لاستخدام القوة العسكرية في سورية، أجاب "إن الخط الأحمر بالنسبة لنا هو رؤية مجموعة كاملة من الأسلحة الكيميائية تتحرك أو يتم استخدامها". يذكر رودس -وهو ما يشكل فضيحة بحد ذاته برأيي- أن الولايات المتحدة قد تلقت قبل شهر من أن النظام كان يستعد لاستخدام الأسلحة الكيميائية ضد المعارضة، أو قام بنقلها إلى منظمة حزب الله الإرهابية. أصدر البيت البيض تحذيرات خاصة إلى إيران وروسيا والحكومة السورية؛ وذكر أوباما علانية للأسد أن العالم كان يراقب، وأن الأسد سوف يخضع للمساءلة من قبل المجتمع الدولي إذا ما استخدم هذه الأسلحة.

في البداية بدا أن التحذيرات ناجحة كما ذكر رودس. مرت أسابيع وأشهر دون أي إشارة إلى هجمات كيميائية في سورية. ولكن بعد ذلك، وبحلول نهاية عام 2012، تلقينا التقارير الأولى لاستخدام الأسلحة الكيميائية على نطاق صغير. كانت أجهزة الاستخبارات الأميركية مترددة في إصدار أحكام مفاجئة خاصة بعد تجربة التصريحات غير الدقيقة حول أسلحة الدمار الشامل في العراق قبل الغزو الأميركي عام 2003. لذلك استغرق الأمر عدة أشهر قبل أن يحدد مجتمع الاستخبارات بشكل رسمي أن نظام الأسد استخدم الأسلحة الكيميائية في الواقع في أبريل/ نيسان 2013. ثم أصبح السؤال هو ما الذي ستفعله الولايات المتحدة حيال ذلك.

كان الرد الأولي غير مرض لبن رودس كما يذكر، فقد قرر أوباما الإعلان عن قرار لتقديم دعم عسكري للمعارضة السورية. كان لرودس شكوك كبيرة في مدى نجاعة هذا القرار سيما أن الحرب في سورية قد تجاوزت تأثير الأسلحة التقليدية وتخطت ذلك بكثير مع بداية النظام السوري للاستخدام المكثف لسلاح الجو، يؤكد رودس هنا أنه كان يرغب في القيام بشيء ما بشأن الكارثة في سورية، تماماً كما كان يدعو للتدخل في ليبيا.

ورغم موقفه قرر رودس الدفاع عن قرار الرئيس أوباما علناً سيما من الناحية القانونية، ومع ذلك كنت يتصارع مع شكوكه بأن أوباما كان على حق في تردده في التدخل عسكريا في سورية "ربما لا يمكننا فعل الكثير لتوجيه الأحداث داخل الشرق الأوسط؛ ربما يؤدي التدخل العسكري الأميركي في سورية إلى جعل الأمور أسوأ" كما كان أوباما يردد علنا بشكل يومي تقريبا عند سؤاله عن سورية.

في 21 أغسطس 2013، أتت الأخبار بأن هجوما كارثيا بالأسلحة الكيميائية قد حدث في سورية. في غضون أيام، كان لدى مجتمع الاستخبارات "تقييم عالي الثقة" بأن هجوما بغاز السارين قد قتل أكثر من ألف شخص في إحدى ضواحي دمشق، وأن نظام الأسد كان مسؤولاً. كانت هناك روايات مروعة عن كيفية قتل العشرات من الناس بسحب الغاز قريبا من مشارف دمشق.

وبعد يومين، انضممت إلى اجتماع لمجلس الأمن القومي، كما يذكر رودس، حيث نصح المسؤولون أوباما، واحدا تلو الآخر، بأن يأمر بضربة عسكرية. وشمل ذلك رئيس هيئة الأركان المشتركة، مارتي ديمبسي، الذي كان حتى ما قبل الضربة قد جادل بأن سورية كانت منحدرًا زلقًا، حيث إن فرص الولايات المتحدة بالنجاح ضئيلة جداً. لكنه الآن قال "إن هناك حاجة إلى القيام بشيء ما حتى لو لم نكن نعرف ما الذي سيحدث بعد أن نتخذ إجراءً". 

سأل أوباما عن محققي الأمم المتحدة الذين كانوا في موقع الهجوم للحصول على عينات. هل يمكن عمل شيء لإخراجهم؟ اقترحت لهجة الاجتماع بأكمله إضرابًا وشيكًا. المستشار الذي حذر بشدة من العمل العسكري كان مدير مكتب البيض الأبيض دينيس ماكدونو، الذي طرح أسئلة حول الأساس القانوني له وماذا سيحدث بعد ذلك. ماذا لو قصفنا سورية واستجاب الأسد باستخدام المزيد من أسلحته الكيميائية؟ هل سنضع القوات البرية في ثوان؟

وفي وقت لاحق من بعد ظهر ذلك اليوم، حضر رودس إلى اجتماع في مكتب ماكدونو ناقش فيه ما إذا كان على أوباما أن يخاطب الأمة في وقت الذروة بمجرد بدء القصف. ماكدونو، الصوت الوحيد الذي كان ضد العمل العسكري، قدمت له ورقة صغيرة خلال الاجتماع بأن الرئيس أوباما يريد رؤيته. غادر ماكدونو ولم يعد. بعد ساعة، كما يذكر رودس، عدت إلى نفس الغرفة وعندها أُخبرت بأنه علي الحضور إلى المكتب البيضاوي.

دخل رودس ليجد أوباما بمفرده فقال له: "لدي فكرة كبيرة". "حسناً، أجبته"، أنت رجل الأفكار الكبرى. طرح أوباما فكرته: "لقد قررت الحصول على إذن من الكونغرس لضربات على سورية". وقال إنه في مرحلة ما، لا يستطع الرئيس بمفرده أن يبقي الولايات المتحدة في حالة الحرب الدائمة، ننتقل من نزاع شرق أوسطي إلى آخر. ذهبنا إلى الحرب في أفغانستان والعراق واليمن والصومال وليبيا. الآن هناك طلب بأن نذهب إلى سورية. القادم سيكون إيران. وقال: "من السهل جداً على رئيس الذهاب إلى الحرب". أضاف أوباما أنه إذا هاجمنا سورية دون تصريح من الكونغرس، فإن الجمهوريين سيأتون بعده، وسيكون من المستحيل الحفاظ على أي ارتباط عسكري في سورية. إذا حصلنا على تفويض من الكونغرس لشن هجوم على سورية، فلدينا مصداقية أكبر - من الناحية القانونية والسياسية والدولية. إذا لم نتمكن من ذلك، فيجب ألا نتدخل".

كان من الواضح أن أوباما قد اتخذ قراره النهائي، وعندما ناقش الموضوع داخل غرفة مجلس الأمن القومي أعرب الكل عن اتفاقهم مع اتجاهه. الاستثناء الوحيد كان سوزان رايس، التي أصبحت فيما بعد مستشارةً للأمن القومي. قالت: "نحن بحاجة إلى تحميل الأسد المسؤولية". وقالت: "إن الكونغرس لن يعطيك هذه السلطة أبداً".

يضيف رودس "عندما جاء دوري، قلت لأوباما إنني اتفق معه". وكان التحذير الوحيد هو إصرار رايس ومحامي أوباما على أننا نحتفظ بالحق في اتخاذ إجراء حتى إذا لم يوافق الكونغرس على الضربات - وهي نقطة منطقية، من حيث الحفاظ على المرونة، ولكنها تقوض السياسة الأخلاقية والقانونية. اتصل أوباما باثنين من الزعماء الأجانب، أحدهما رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي قال "لقد كان قراركم صحيحاً برغبتكم في توجيه ضربات عسكرية والتاريخ سيكون أكثر لطفاً من الرأي العام".

في تلك الفترة ذهب أوباما إلى روسيا للمشاركة في اجتماعات قمة العشرين، وكان أكثر قناعة بأنه يجب أن لا يتم توجيه ضربة للنظام السوري، فقدم بوتين عرضا هو أشبه بحفظ ماء وجه أوباما عبر الضغط على النظام السوري من أجل تسليم أسلحته الكيميائية مقابل وقف للضربة العسكرية التي أعلن عنها أوباما.

عمل وزير الخارجية كيري سريعا لتحويل عرض بوتين إلى اتفاق يمكن تنفيذه في سورية بالرغم من أن النظام السوري لم يقر أبدا حتى بوجود أسلحة كيميائية. بعد أربعة أيام من عودة الوفد إلى واشنطن، أعلنت الحكومة السورية أنها ستتخلى عن مخزونها من السلاح الكيميائي وأعلن بعدها أوباما أنه سينتهز هذه الفرصة الدبلوماسية ولم يتوجه إلى الكونغرس أبداً.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.