}
عروض

"القرآن الكريم": حاجز وجسر للتواصل في البلقان

محمد م. الأرناؤوط

13 سبتمبر 2018

مع الفتح العثماني للبلقان الذي بدأ في منتصف القرن الرابع عشر وامتد أكثر من قرن من الزمن، بدأ الإسلام في الانتشار بالتدريج من الشرق (بلغاريا) إلى الغرب (ألبانيا) وانتهى الأمر في نهاية القرن السابع عشر بأن أصبح الإسلام دين أغلبية عند شعبين (في ألبانيا والبوسنة) ودين أقلية عند الشعوب الأخرى (اليونان وبلغاريا وصربيا وكرواتيا الخ). ومع هذا الانتشار للإسلام في البلقان تشكل تراث ثقافي للمسلمين نتيجة لإنشاء المدارس التي كانت تعلّم اللغة العربية وقراءة القرآن والعلوم الشرعية والتحاق الكثير من أبناء المنطقة بالمراكز الكبرى في الدولة العثمانية (إسطنبول ودمشق والقاهرة الخ) للدراسة، حيث كانوا يعودون مع المخطوطات المختلفة، مما شكّل مع الزمن طبقة من العلماء ulema الذين أخذوا ينتجون المعرفة الدينية والثقافية باللغات الشرقية (العربية والتركية والفارسية).

ومع نهاية الحكم العثماني في 1912-1913 وظهور الدول القومية التي تقاسمت البلقان أخذت تتأسس أقسام للاستشراق منذ 1926 (جامعة بلغراد) اهتمت بهذا التراث الشرقي وأبرزت مجموعة من المستشرقين الذين اهتموا بهذا التراث الشرقي كما اشتغلوا على دراسة وترجمة لأدب العربي في اللغات المختلفة.

ومن هؤلاء لدينا فتحي مهدي، الذي ولد عام 1944 في مكدونيا ودرس الاستشراق في جامعة بلغراد وساهم في تأسيس آخر فرع للاستشراق في يوغسلافيا (جامعة بريشتينا 1973)، وبرز بكتبه الكثيرة التي جمعت ما بين دراسة التراث الشرقي للمنطقة خلال الحكم العثماني ودراسة وترجمة الأدب العربي إلى الألبانية.

في كتابه الأخير "ترجمات القرآن إلى لغات البلقان ومساهمات أخرى" الصادر في بريشتينا 2017 يتناول د.مهدي موضوعا في غاية الأهمية ألا وهو دور القرآن كحاجز أولا ثم كجسر للتواصل بين المسلمين وغير المسلمين في البلقان، أو بين المسلمين ومواطنيهم في الدول الجديدة التي قامت في المنطقة بعد نهاية الحكم العثماني.

فنظرا لأن الفقه التقليدي المتأخر لم يرحب بترجمة القرآن إلى اللغات الأخرى، مع أن الإمام أبو حنيفة سمح للأعاجم بقراءة القرآن في لغتهم إذا كانوا لا يعرفون العربية، بل إن الفقهاء في البلقان "كانوا يعتبرون أن القرآن لا يمكن أن يترجم إلى أية لغة أخرى لأن ترجمة القرآن في حدّ ذاتها ذنب عظيم" (ص 25). وقد أدى مثل هذا الموقف إلى أن يبقى القرآن يُقرأ في العربية من قبل العلماء ويقتصر تعلّمه لدى العامة على السور القصار لأجل الصلاة، وبذلك بقي القرآن حاجزا  بين المسلمين وغير المسلمين داخل كل شعب. فغير المسلمين كانوا يعرفون ويقدّرون مكانة القرآن عند مواطنيهم المسلمين، كمصدر للثقافة وليس للعقيدة فقط، ولكنهم كانوا عاجزين عن التعرف عليه بسبب حاجز اللغة.

 وفي مثل هذا الوضع جاءت المحاولات الأولى لترجمة القرآن من قبل غير المسلمين ثم انكسر الحاجز وأقبل المسلمون على ترجمة القرآن، بل أصبح هناك تنافس على ترجمة القرآن من قبل الجيل الجديد من المثقفين المسلمين.

جاء كسر هذا الحاجز في صربيا أولا حين أقدم قائد الانتفاضة الصربية في الهرسك ضد الحكم العثماني ميتشو لوبيبراتيتش (1829-1889) على ترجمة القرآن من الروسية إلى الصربية وذلك بدافع قومي، لكي يجذب المسلمين في البوسنة (أو "المحمديين من القومية الصربية") إلى جانب الدولة القومية (صربيا). ومن هنا فقد حرص لوبيبراتيتش على أن تكون ترجمته أمينة ولا تمثل أية إساءة للمسلمين، بل اكتفى بالترجمة مع توضيح بعض الأمور في الهوامش كما أنه ترك في نهاية الترجمة "معجم بعض الأشياء والأسماء التي تذكر في القرآن ومكان ورودها" (ص 477-479).

جاءت هذه الترجمة للقرآن التي صدرت في بلغراد بعد وفاة المترجم في1895 لتمثل صدمة للعلماء المسلمين في البوسنة والهرسك. فقد قوبلت هذه الترجمة بنقد مرّ لأن "ترجمة القرآن إلى لغة الكافرين" كانت غير واردة بالمرة. ولكن مع الزمن، وانفتاح الأزهر في ثلاثينيات القرن الماضي على ترجمة معاني القرآن، ظهرت في البوسنة عام 1937 أول ترجمة للقرآن من قبل عالمين مسلمين، هما محمد بانجا وجمال الدين تشاؤوفيتش لتتوالى بعدها الترجمات حتى أصبح لدينا حوالي عشرة ترجمات للقرآن في البوسنة من قبل العلماء أولا، ثم من قبل الجيل الجديد من الأكاديميين (بسيم كركوت وأنس كاريتش وأسعد دوراكوفيتش وغيرهم).

تكرّر الأمر أيضا مع ترجمة القرآن إلى اللغة الألبانية. فقد بقي القرآن بين الغالبية المسلمة من الألبان في اللغة العربية حوالي خمسة قرون، أي حتى استقلال ألبانيا عن الدولة الألبانية في 1912 الذي جاء نتيجة الحركة القومية التي جمعت المسلمين والمسيحيين معا. وفي هذه الحالة أصبح بعض المثقفين القوميين من المسيحيين لا يرون من المناسب أن يبقى الكتاب المقدس لمواطنيهم المسلمين مغلقا عليهم، فبادر الكاتب المعروف إيلو ميتكو تشافزيزي إلى ترجمة القرآن من الانكليزية نشر أول جزء مترجم إلى اللغة الألبانية في 1921. وفي مقدمته يبدو بوضوح الهدف القومي، حيث يرد أنه كان يريد يهذا أن يرفع "هذا الساتر الغامض الذين يفصل بين الألبانيين المسلمين وأخوتهم المسيحيين".

وعلى نمط ما حدث في البوسنة جاءت هذه الترجمة الأولى للقرآن على يد مسيحي لكي تكسر هذا الحاجز الذي استمر خمسة قرون بين الألبان المسلمين والمسيحيين لتتوالى ترجمات القرآن من قبل المسلمين، أولاً من اللغات الأخرى ثم من اللغة العربية مباشرة حتى وصلت أيضا إلى عشر ترجمات. وفي هذا السياق يمثل المؤلف (فتحي مهدي) لحظة فارقة في تاريخ ترجمة القرآن إلى الألبانية إذ أصدر بعد حوالي عشر سنوات من العمل أول ترجمة كاملة للقرآن من العربية إلى الألبانية في 1985.

وكما يشير عنوان الكتاب لدينا بالإضافة إلى هذا الموضوع المهم مساهمات أخرى للمؤلف في دراسة التراث الشرقي (المخطوطات) وشهادة له عن دراسة وترجمة الأدب العربي إلى اللغة الألبانية التي بدأها عام 1971 بترجمة قصة "تحت عجلات القطار" لمحمود تيمور وأبرزها عام 1983 بنشر مختارات الشعر العربي من امرئ القيس وعنترة بن شداد إلى نزار قباني ومحمود درويش قام بترجمته هو وعدد من الزملاء، بينما نشر في 2004 كتابه "حول الأدب العربي" الذي تضمّن بعض دراساته عن الأدب العربي الذي كان يدرّسه في قسم الاستشراق في جامعة برشتينا.

كتاب "ترجمات القرآن إلى لغات البلقان ومساهمات أخرى" نتاج يعرّف بعمل رائد لمستشرق ألباني تجاوز أربعة عقود، نال عليها بامتياز عضوية مجمع اللغة العربية بدمشق.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.