}
عروض

أنور خوجا: "دون جوان" تحول إلى دكتاتور

ارتبط تاريخ ألبانيا في القرن العشرين بشخصيتين ولدتا في السنوات الأخيرة للحكم العثماني، وسعت كل واحدة بطريقتها إلى التخلص من الإرث العثماني وبناء دولة جديدة ضمن منظومة مختلفة: الملك أحمد زوغو (1895-1960) الذي حكم ألبانيا خلال 1922-1939 كرئيس حكومة ورئيس جمهورية وملك ساعيا إلى أن تتخلص ألبانيا من الشرق وتلتحق بالغرب بقيمه وقوانينه ومظاهره، وزعيم الحزب الشيوعي أنور خوجا (1908-1985) الذي حكم ألبانيا خلال 1945-1985 ساعيا إلى أن تكون ألبانيا رأس حربة للمعسكر الشرقي خلال الحرب الباردة سواء ضد "الإمبريالية الأميركية" أو لاحقا ضد "الإمبريالية السوفيتية"، حسب ما يمليه البقاء في المنصب حتى آخر لحظة من حياته متخلصا من كل من يعرف ماضيه أو يشك بولائه.

وعلى الرغم من مضي أكثر من ثلاثين سنة على وفاة أنور خوجا وحوالي ثلاثين سنة على نهاية احتكار الحزب الشيوعي للسلطة والتحول للديموقراطية، الذي نسف الصورة المثالية لأنور خوجا في التاريخ الرسمي، إلا أن غموض شخصية أنور خوجا والأسلوب الذي اتّبعه للقفز إلى الصفوف الأمامية لقيادة الحزب الشيوعي الألباني والتخلّص من كل الشخصيات التي كانت تعرف ماضيه أو تتقدم عليه فكرا ومنهجا كانت وراء صدور العديد من المؤلفات حوله بعد وفاته وانحسار الصورة الأسطورية له التي كرّسها التاريخ الرسمي. ومع ذلك لا يزال أنور خوجا موضوعا جاذبا للبحث، ولا تزال الكتب تصدر عنه وآخرها كتاب الباحث الألباني- الكندي سايمير لوليا "وصفة بدون أمة" الذي صدر أولا في الإنكليزية ثم في الألبانية خلال 2017 (دار هليغا سكريت).

في مثل هذه الحالة يثار السؤال عن الجديد الذي يحمله الكتاب الأخير عن هذه الشخصية الإشكالية.

كتاب سايمير لوليا يؤكد على ما يراه المؤرخون القوميون في ألبانيا من أن الأيديولوجية الشيوعية في ألبانيا التي رعاها الكومنترن بعد استفراد ستالين في الاتحاد السوفييتي، كانت لخدمة الطبعة الجديدة من "الجامعة السلافية" التي رعتها روسيا القيصرية أولا لخدمة استراتيجيتها في السيطرة على البلقان ثم تحولت إلى أداة أيضا لروسيا الستالينية. وبعبارة أخرى، يرى لوليا أن الحرص على تأسيس الحزب الشيوعي الألباني في خريف 1941 إنما جاء لخدمة أجندة خارجية تتعلق بتطورات الحرب العالمية الثانية وليس لخدمة المصلحة القومية الألبانية. ففي نيسان/ أبريل 1941 انهارت يوغسلافيا وتشكلت "ألبانيا الكبرى" بتوحيد ألبانيا وكوسوفو ضمن توافق إيطالي- ألماني، وفتحت ألمانيا النازية الجبهة الشرقية ضد الاتحاد السوفييتي في حزيران/ يونيو 1941، ولذلك هدفت الاستراتيجية الجديدة للكومنترن إلى تفويض الحزب الشيوعي اليوغسلافي برعاية تأسيس حزب شيوعي ألباني يقود المقاومة المسلحة ضد القوات الإيطالية- الألمانية، ويساعد الحزب الشيوعي اليوغسلافي على استعادة يوغسلافيا وعودة ألبانيا إلى حدودها السابقة، وهو ما حدث بالفعل في صيف 1945.

أما الجديد في هذا الكتاب فهو السعي للكشف عن اللغز في وصول شخص متواضع فكريا كأنور خوجا إلى قيادة الحزب الشيوعي الجديد، ونجاحه في التخلص من المتقدّمين عليه فكريا وسياسيا وتنظيميا لينفرد في حكم ألبانيا التي أصبحت النموذج الحي لـ "الغولاخ".

في هذا السياق يلقي الكتاب الضوء على الشخصية الألبانية الريادية في الحركة الشيوعية  كوتشو تاشكو (1891- 1984)، الذي ولد في الفيوم بمصر في عائلة ألبانية معروفة والتحق بالحركة الشيوعية في موسكو  في عشرينات القرن العشرين، وأرسل من قبل الكومنترن إلى ألبانيا في 1937 لتجنيد شبان جدد كان منهم أنور خوجا الذي كان يعتبر تاشكو "المعلم" له. وفي خريف 1941 أبرز "المعلم" تاشكو  تلميذه أنور خوجا ليكون في عداد القيادة المؤقتة للحزب الشيوعي الألباني الوليد، ولكن تاشكو فيما بعد كان من أوائل ضحايا أنور خوجا بعد أن وصل الحزب الشيوعي إلى الحكم في 1945.

ولكن الجديد في هذا الكتاب لتفسير لغز أنور خوجا هو إبرازه للخلفية المخفية أو للشخصية المزدوجة التي كانت تجمع بين خدمة النظام الملكي وخدمة الجهة الجديدة التي ارتبط بها – الكومنترن. فالمؤلف ينطلق من حقيقة أُخفيت حتى الآن ألا وهي شهادة إكمال الليسيه الفرنسية في مدينة كورتشا لأنور خوجا. فمن المؤكد أن أنور خوجا كان في شبابه وسيما عرف عنه اهتمامه بتصفيف شعره أكثر من تثقيف نفسه، ولذلك يعتقد أنه نجح بعلامات متدنية في 1930. ولكن المفاجأة تكمن في أنه حصل على منحة دراسية لدراسة العلوم الطبيعية في جامعة مونبيليه الفرنسية. وهنا يجد المؤلف التفسير في ارتباط مبكر لأنور خوجا بالمكتب السري (لاحقا السياسي) لوزارة الداخلية الذي أعفاه من الخدمة العسكرية، وأمّن له هذه المنحة حتى ينخرط في صفوف المعارضة الألبانية المقيمة في الخارج. ويرتبط بهذا التفسير لامبالاة أنور خوجا بالدراسة وانشغاله بحياة الليل حتى أنه لم يقدم أي امتحان خلال ثلاث سنوات مما جعل وزارة التعليم تقطع عنه المنحة في نهاية 1933. ولكن المفاجأة كانت في تعيين أنور خوجا سكرتيرا للقنصلية الألبانية في بروكسل، وهو أمر لا يمكن أن يتم بدون موافقة المكتب السري/ السياسي حسب المؤلف.

خلال سنوات 1930-1936 انخرط أنور خوجا في صفوف المعارضين الألبانيين والشيوعيين الفرنسيين من خلال عميلة جميلة للكومنترن اسمها لويز. ويبدو أن المكتب السري/ السياسي اكتشف الدور المزدوج لأنور خوجا فطلب منه العودة إلى ألبانيا. وحين عاد إلى مسقط رأسه (كورتشا) تعيّن معلما في الليسيه الفرنسية دون أن يكمل سنة واحدة من التعليم الجامعي، وهو ما يثبت حسب المؤلف دور المكتب السري- السياسي الذي أراد منه الآن أن ينخرط في صفوف الحركة الشيوعية المتنامية في كورتشا. ومع قدوم "المعلم" كوتشو تاشكو إلى ألبانيا في 1937 من قبل الكومنترن لأجل تجنيد شبان للحركة الشيوعية استقطب أنور خوجا إلى الحلقة الشيوعية الجديدة في كورتشا، التي أصبحت من المكونات الثلاثة (بالإضافة إلى حلقة تيرانا وحلقة شكودرا) لتأسيس الحزب الشيوعي الجديد في 1941.

وحول هذا الحزب يكشف المؤلف دور الحزب الشيوعي اليوغسلافي في "العملية القيصرية" التي أدت إلى ولادة هذا الحزب. فقد شارك كوتشو تاشكو في اجتماع سري في كوسوفو مع مسؤولين للحزب الشيوعي اليوغسلافي الذين أبلغوه بضرورة المسارعة إلى تشكيل الحزب الشيوعي الألباني، وهو ما تم خلال تشرين الثاني /نوفمبر 1941 حيث شارك فيه تاشكو ممثلا عن شيوعيي مدينة كورتشا الذين ضمّ إليهم أنور خوجا. وفي هذا الاجتماع تم انتخاب قيادة مؤقتة للحزب ضمّت أنور خوجا الذي رشّحه "المعلم" تاشكو. خلال الفترة الأولى كان تأثير الممثلين اليوغسلاف، الذين جرى تأسيس الحزب بحضورهم، قويا وهو ما جعل أنور خوجا يركب الموجة الأولى للصعود إلى قيادة الحزب في 1943 بتأييد من اليوغسلاف باعتباره الشخص الذي يمكن الاعتماد عليه في المستقبل. وبالفعل فقد أثبت أنور خوجا خلال 1943-1945 التزامه بتعليمات الرفاق اليوغسلاف التي انتهت إلى التخلي عن كوسوفو ليوغسلافيا الجديدة التي قامت في 1945 تحت حكم الحزب الشيوعي. وفي هذا السياق كان أنور خوجا من أكثر المتحمسين والمدافعين عن توطيد العلاقات الجديدة بين ألبانيا ويوغسلافيا وصولا إلى الاتحاد الجمركي في 1946 وحتى إلى انضمام ألبانيا إلى يوغسلافيا الفدرالية. ومن الطبيعي أنه كان هناك من يعارض هذا الاتجاه في قيادة الحزب الشيوعي الألباني، ولذلك وجد أنور خوجا في ذلك فرصة في التخلص من الشخصيات اللامعة في الحزب (مثل سيف الله ماليشوفا وغيره) بحجة معارضة الاتحاد مع يوغسلافيا.

ولكن هذا التوجه للاتحاد مع يوغسلافيا الذي قطع شوطا كبيرا خلال 1946-1948 توقف فجأة بعد الخلاف الذي انفجر فجأة في صيف 1948 بين ستالين وتيتو، واتُهم فيه تيتو بالخروج عن الماركسية- اللينينية و"التحريفية". وهنا جاءت "اللحظة التاريخية" لأنور خوجا لكي يعلن انقلابه على اليوغسلاف ويؤيد ستالين ضد "التحريفية اليوغسلافية"، حيث أنه بادر إلى اعتقال وإعدام بعض قادة الحزب (وعلى رأسهم كوتشي زوزه) باعتبارهم من المؤيدين لـ"التحريفية اليوغسلافية".

مع هذا الانعطاف تمكّن أنور خوجا من التخلص من الشخصيات القيادية في الحزب، بما في ذلك "المعلم" كوتشو تاشكو، ليبرز نفسه من خلال التاريخ الرسمي الجديد للحزب باعتباره قائد الحزب والملهم لتأسيسه، والذي "أنقذ" ألبانيا من الانجرار للانضمام إلى "يوغسلافيا التحريفية" الخ.

إلا أن هذا المسلسل لم ينته لأن ستالين الذي كان الملهم الحقيقي لسياسة خوجا في تصفية منافسيه وتكريس عبادة الشخصية له باعتباره زعيم الحزب الشيوعي الجديد لم يعش طويلا حيث أنه توفي في 1953. ومع تولي خروتشوف لقيادة الحزب الشيوعي وقيامه بنقد الستالينية وعبادة الشخصية في 1956 لم يعجب ذلك أنور خوجا بعد أن لاحظ بعض الأصوات الإصلاحية حوله فانقلب على الخط السوفييتي الجديد، وتخلص من دفعة جديدة من الشخصيات باسم تصفية الحزب من "الخط التحريفي" للخروتشوفية، لينضم إلى النجم الصاعد في الحركة الشيوعية العالمية – الصين الشيوعية. ومع هذا "الحماس" لـ "الأخوة الألبانية- الصينية" (بعد الحماس الأول لـ "الأخوة الألبانية- اليوغسلافية" والحماس الثاني لـ "الأخوة الألبانية- السوفييتية") انتقلت موضة "الثورة الثقافية" إلى ألبانيا، لتصل إلى ذروتها في 1967 بإغلاق كل الجوامع والكنائس وإعلان ألبانيا "أول دولة إلحادية في التاريخ". ولكن "الثورة الثقافية" كانت في جوهرها فرصة أخرى للتخلص من شخصيات أخرى في قيادة الحزب، ولذلك لم يبق في القيادة من الشخصيات التاريخية للحزب سوى محمد شيخو الذي رضي بأن يكون الشخص الثاني الوفي لدور التابع للزعيم.

ولكن هذا بقي يشكل هاجسا في السنوات الأخيرة من حياة أنور خوجا بعد أن بدأ المرض (السكري) ينهش جسمه، فدبّر مقلبا لمحمد شيخو في 1980 ليموت "منتحرا" حسب الرواية الرسمية التي كشفت آنذاك أن شيخو كان عميلا مزوجا للإمبريالية الأميركية والإمبريالية السوفييتية! وبذلك ارتاح أنور خوجا وأمر ببناء هرم ضخم بالرخام الإيطالي المستورد في قلب تيرانا ليخلّده (كما هو الأمر مع فراعنة مصر)، ولكن الربيع الأوروبي في 1989 وصل إلى ألبانيا أخيرا وجرف كل تماثيل أنور خوجا وأخرج جثمانه من الهرم، لينهي بذلك أسطورة "الزعيم" الذي حول ألبانيا إلى نموذج حي لـ "الغولاغ" خلال 1945-1985.

كتاب سايمير لوليا لن يكون الأخير عن أنور خوجا، على الرغم من الجديد الذي يحمله لأن لغز هذه الشخصية وعُقدها من ماضيها تغري الجيل الجديد من الباحثين في الغوص في الوثائق والمصادر الألبانية وغيرها (أرشيف الحزب الشيوعي اليوغسلافي وأرشيف الكومنترن) للوصول إلى ما هو جديد حول هذا الشخص الذي تحوّل من دون جوان إلى ديكتاتور، بفضل الاديولوجية التي أتاحت له التخلص من كل المتقدمين عليه فكريا وسياسيا والمعارضين الموجودين أو المحتملين ليملأ ألبانيا بتماثيله والشعارات التي تمجده.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.