}
عروض

"أنت في القاهرة" لإبراهيم داود: طفولةُ المدينة وتجاعيدُها

طارق إمام

22 يوليه 2018

المدينة هي بلا مواربة فضاء المجموعة الشعرية "أنت في القاهرة" لإبراهيم داود (دار ميريت). والمدينة، مثلما يُفصح العنوان، هي القاهرة: قاهرة النازح لا قاهرة المقيم، فالعنوان منتزعٌ من يافطات التخوم المبذولة التي تأمر الغريب: "ابتسم، أنت في القاهرة"، تلك اليافطات التي تبدو في جوهرها تهديداً لا طمأنة.

هنا تحضر قاهرة الباحث عن موطئ قدم، قاهرة الغرف المشتركة التي يتقاسم مستأجروها الأحلام مع الحوائط، قاهرة الثورة، وقاهرة الشيخوخة إذ تزحف الشوارع على وجه الكائن لتصبح ممرات تجاعيده. لكن المفردة المُستبعدة من اللافتة، مستبعدةٌ بدورها من مدينة هذه المجموعة الشعرية، حيث لا مكان لابتسامة في وجهٍ يتعرف في قناع المدينة الشاسع، بالكاد، على دمعه.

ربما، في مرةٍ وحيدة، تتسلل ابتسامةٌ مسروقة، في القصيدة التي انتزعت المجموعة عنوانها من أحد سطورها، القصيدة التي تقارب ثورة يناير بعنوان تقريري: "من التحرير"، والتي تتوسط الكتاب، بالضبط مثلما يتوسط الميدان الكبير عاصمة المصريين.

لكن القاهرة رغم ذلك ليست "المدينة التي بلا قلب" التي دأب الغرباء على مناصبتها العداء في النص الشعري السالف، هي ليست في نص داود موضوعاً للشجار، بل للرثاء.

 

نصٌ مفتوحٌ على شارعه

تتكئ قصيدة النثر عند إبراهيم داود، ومنذ مجموعته الأولى "مطر خفيف في الخارج" (1992) على فعل استبعادٍ واضح للفائض اللغوي كما تقاوم إغراء التداعي عبر الارتكان للمفارقة التي تخلقها نصوصٌ أميل للقصر، مع نزوعٍ سردي واضح، وحيث تلويحة الحكاية ملتصقة طوال الوقت بنافذة القصيدة.

 من هنا يقترب "أنت في القاهرة" بدرجاتٍ متراوحة من تجربة داود الموازية في الكتابة النثرية "غير التخييلية"، والتي عبّر عنها أكثرُ من كتاب تقاطَعت، في السنوات الأخيرة خاصة، مع التجربة الشعرية لداود، مثل كتابي "خارج الكتابة" و"الجو العام". قصيدة النثر عند داود تمتح من التجربة المعاشة المباشرة، في سياقها التاريخي، لذلك لا يصعب رد النص الفني عند داود لمجمل سياقاته الزمنية والمكانية، كنصٍ مفتوحٍ على لحظة إنتاجه، ولا أعتقد أن القراءة المغلقة هي القراءة المثلى له.

 نادراً ما تجنح قصيدة داود للتغريب، وتُفضّل أن تُخفي صنعتها ذاهبةً قدر الإمكان للغة تداولية لا تخلو أحياناً من مسحةٍ رومانسية أو نزوع غنائي، من قبيل: "يخيل إلي وأنا أتفقد الناس أنني لا أشبه الزمن الذي أتفقد الناس فيه/ أتخيل أنني قادمٌ من زمنٍ/ كان الناسُ فيه/ يغسلون وجوههم بالأُلفة/ وأن ملامحي/ التي تشير إليّ/ لا تشبه الشخص الذي يخصني".

لا يخلو النص الشعري عند داود، وفي "أنت في القاهرة" بشكل خاص، من نبرةٍ أسيانة، وروح رثائية تحاول قدر الإمكان أن تحفظ درجة خفوتها كي لا تقع في فخ الزعيق أو المباشرة أو الاستسلام للاجترار والتداعي. وكما أسلفت، يقاوم داود ذلك بنزوعٍ واضحٍ للقصائد القصيرة، وبالتقاطٍ واعٍ للمفارقة.

من الدال، على سبيل المثال، أن القاهرة كمدينة شعرية في هذه المجموعة، تتوسط بدورها لحظتين حاسمتين: نهاية العقد الأول من الألفية، حيث سنوات ما قبل التحوّل العاصف لثورة يناير، (من 2007 وحتى مطلع 2011) ثم سنوات ما بعد الثورة بكافة ارتباكاتها وتعقيداتها (من 2011 وحتى 2014) وهو نفسه زمن كتابة القصائد التي كُتبت في هذه السنوات السبع. القاهرة هنا مدينة عالقة بين شيخوخة "مُلاكها" التقليديين في لحظات أفولهم، وشباب مُلاّكها الجدد، الذين لم يلبثوا أن أعادوا إنتاج سابقيهم، وبين اللحظتين، ثمة لحظة عالقة مع المدينة، هي اللحظة الثورية التي برقت بين ظلامين.

اللحظة الثورية لذلك تخيم على الكتاب حتى وإن قورب الفعل الثوري نفسه في نصٍ واحد، فاللحظة الثورية تتعدّى الفعل الثوري، تستبقه وتسترجعه، تحبل به وتنشؤه، لذا فالمقدمات والتبعات معاً منثورة في أكثر من قصيدة، وآليات إجهاض اللحظة الثورية وتهميشها لا تغيب عن الأفق الشعري، حد أنه في قصيدةٍ متقدمة (لأن الله يحب الطيبين)، تحضر إدانة كاملة لتحالف القتلة مع السلطة البطريركية على "الناس": "القتلة لا يفهمون في الموسيقى/ ولا يثقون بخطواتهم/ وهم يمضغون أحزان الناس/ ويشهّرون بالنسيم/ الذي حرّك أعلام الحرية../ لا يفهمون في الزراعة/ ولا يعرفون أن الزُرّاع/ الذين نذروا أحفادهم للصفاء/ لن يسمحوا لرجال الدين/ الذين تحالفوا مع القتلة/ بالصلاة في الصفوف الأولى".

لكن وضعية المدينة "الجمعية" لا تحجب مدينة الفرد، والتي تُمثِّل البطل في المجموعة، فثمة ذلك التوتر بين الفرد والجماعة، حيث التراوح بين العناق والمجافاة، وبين الاتحاد والانفصام. لا ينطلق داود في هذه المجموعة من موقف راديكالي تجاه علاقة الفرد بالجماعة، فهي علاقة متراوحة، تتبنى صوت الجماعة في مناطق عدة وتلوذ بفرديتها في مناطق أخرى. الشاعر عند إبراهيم داود عالق بدوره، فلا هو بصوت القبيلة اليقيني الرائي ولا هو بخصيمه النسبي المتوحد. يُنتج هذا التراوح قلق الذات الشاعرة الواضح، بينما تعيش فعل مراجعةٍ دائب لتعثر على موطئ قدم وقد بقيت عاريةً في مواجهة الوجود: "أنظرُ إلى القمر/ في المرات القليلةِ/ التي يكون هناك في مدينتي الكبيرة قمر/ وأدعو الله/ أن يكون هناك من ينظر إليه/ من القليلين/ الذين أفتقدهم/ ولا أعرف أين ذهبوا؟".

الذاكرة على أنقاض المشهد

تبدأ الذات الشاعرة نصها بتحديدٍ مكاني، عبر متتالية نصوصٍ معنونة بـ"منازل". إنه نصٌ يتجاوز دوره كمفتتح، فهو من ناحية يحدد سمات الذات الشاعرة كتمثيل للنازح اللائذ بالغرف المشتركة، وهي وضعية طبقية أيضاً، فنحن أمام ذات "تستأجر" لا "تملك"، و"تُشارك" غيرها مكانها لأنها لا تملك أن تتوحد في جدران تخصها وحدها، فضلاً أن هذه الذات تقطن دائماً أماكن مفتوحة على الخارج، وكأن الذات تقطن الشوارع من حيث أرادت أن تلوذ بالبيوت: "تسعُ سنواتٍ/ في غرفتين بعيدتين/ تمرُّ بينهما/ سياراتٌ مُسرعة".

 من ناحيةٍ أخرى، تُحدد المتتالية الأولى زاوية الرؤية في هذه المجموعة الشعرية ومكمن "وجهة النظر": ذاتٌ تطل على المدينة من شبّاك واطئ يكشف بالكاد سيقان العابرين دون أن يسمح بظهور الهامات. الأحذية لا الرؤوس، والشوارع لا السموات: هذا هو موقف الذات الشاعرة الوجودي والطبقي معاً، فهنا انحياز لا لبس فيه للعابرين والهامشيين والبسطاء، والذين تختصرهم الذات الشاعرة في الدال المتكرر "الطيبون" تقابله إدانة صريحة للقادة والسادة وكل من يمسك بطرف سلطة: "يتصرف الملاك الجدد_عادةً_ كالقادة/ القادة الذين لم يدخلوا معركةً في حياتهم/ يختبرون قدرتك على الإصغاء/ ويطالبونك بالحفاظ على صوتك/ وحين يذهبون إلى البحر/ تظهر مودتهم تجاهك". بل إن الذات الشاعرة لن تخجل من توجيه إدانةٍ صريحة لمن تراهم أعداءها، غير عابئة بإقلاق النص الهامس، عندما تُعلن دون مواربة: "اللصوصُ والحرّاس والدعاة/ يعرفون كلَّ شيء".

"المعرفة الكلية"، كقرينٍ للقمع، تحضر دوماً مقابل الشك وعدم اليقين الذي يسم "الحرية"، لذلك لن تخطئ عين قارئ هذه المجموعة ذلك العدد غير القليل من علامات الاستفهام والتعجب، وكأن القصيدة لا تغدو قصيدة إن لم تتحول لسؤال.

من هذه الزاوية، تتحرك الذات الشاعرة، مُراوِحةً بين الضمير الأول وضمير المخاطب، كأن النص الشعري يتحرك بين "الأنا" و"الأنت"، ليُقارب أنا موزعةً على ذاتين. إنها تفعل ذلك على مستوى النص الواحد: "كان من السهل/ أن تمتطي أسوارَ مدينتي/ وتترك قدميك للماء/ ويداك ممسكتان بالغناء/ في الهواء../ الغناء الذي كان يغمر الناس/ في المواسم/ توقف الغناء في مدينتي".

 بالفعل هناك ذاتان في "أنت في القاهرة" هما في الحقيقة ذات واحدة. ذاتان تكشفان مفارقات متتالية، مكانية بين "هنا" و"هناك"، وزمانية بين الماضي والحاضر. تتحرك المجموعة كلها بهذا السؤال، لذلك فالذاكرة فيها تعانق المشهدية البصرية، ويتقاطع بلا هوادة فعل الاستعادة مع فعل التجريب.

دائماً هناك مكانان، يحيل كل منهما لزمن مفارق، أو مكان واحد يُختبر في زمنين، وفي النهاية يتعانق سؤالا المكان والزمن في تأكيدٍ يائس على استحالة تعيين الوجهة، وعلى عدم ملائمة الأزمنة الماثلة لاستيعاب هذه الوجهة: "الأشياءُ الجميلةُ موجودة/ كلها/ في مكانٍ ما/ يحتاجُ الذهابُ إليه/ إلى عمرٍ جديد".

ينهض العالم الشعري كذلك على مقابلةٍ واضحة بين "الطبيعي" و"الثقافي". تُلتقط المفارقة دوماً من العنصر "الطبيعي" في النشاط الإنساني، العنصر الذي تغيب فيه أدبيات الثقافة الاصطناعية، كالنوم: "البيتُ الذي كنتُ أكبر فيه/ وأعرفه جيداً:/ خمسُ غرفٍ/ وسلم غدر بي ثلاث مرات/ ورائحة طعام/ وأحزان تسند الجدران/ وأصوات بعيدة/ النومُ صعبٌ بعد ثلاثين عاماً/ النومُ سلطانٌ/ هناك".

المقابلة تجد مكانها الأقوى في "القمر"، مصدر الضوء الذي يتوسط سماء أغلب القصائد، ناهضاً أمام "الفلورسنت" الذي كلما تضاعف حضوره، تقلصت المدينة الداخلية، المدينة كمكان يقطن الكائن، لتزحف المدينة الخارجية، المدينة التي لا تعدو كونها صورة، تطل الذوات عليها لتطالعها لا لتعيشها. تحضر هذه المفارقة في عديد النصوص، مختبرةً هذا الخصام بين ضوء "الطبيعة" وضوء "البشر". وربما لا تخلو الرؤية الكُلية التي تتبناها الذاتُ الشاعرة لمدينتها من رومانسية، فالمدينة، بطبيعتها وتكوينها، هي وعاء الثقافة الاصطناعية الأكبر، بل إنها تُغذِّي بقاءها من تحويل الطبيعي، بلا هوادة، إلى ثقافي، لتصبح جميع الموجودات "علامات ثقافية": "لم تعد الريفي/ الذي دخل المدينة بأقماره/ ولم تعد المدينةُ مضيئةً/ كما كانت".

فعل الكتابة نفسه، يبدو قيداً على الذات الشاعرة، فالتدوين أيضاً ابن الثقافة، بين الشفاهة ابنة الفطرة، لذلك فالكتابة كفعل منوط به تحقيق الخلود، لا تلائم الذات الشاعرة المحتفية بالعابر، بل على العكس، إنه فعل هدفه الوحيد، هنا، هو التطهر، مؤقت، منذور للتيه والضياع ويجب أن يبقى كذلك: "قصيدة تائهة.. تطاردني منذ عامين/ كتبتها على عجل في الطريق/ كنتُ أعبر فيها إلى الجانب الآخر من العمر/ أذكر أنها أنقذتني من الغرق/ وجعلتني أتوقف عن النظر إلى السقف/ كتبتُها في الصيف/ وكان الحزنُ بداخلها غيوماً واطئةً في قطار رخيص/ إيقاعُها كان ساذجاً/ أحسها الآن كأنني وصلت/ أفتقدها/ ولا أريد العثور عليها".  

الجميع عابرون هنا، حتى المرأة، كتمثيل للحب أو الإقامة أو الحلم، محض وجود عابر، يظهر ويختفي في اللحظة نفسها، المرأة في "أنت في القاهرة" هي، فقط، الصدفة، لا أمل في استبقائها أو تملّكها: "المرأة التي أفرح عندما تمُر/ وأنا مغمض العينين/ هي المرأة التي تركت لي رسالة: كلمني/ وهي التي لا ترد!" هي أيضاً المرأة التي تحضر دائماً "في منتصف الطريق"، بمعزل عن أول الخيط وعن الوجهة معاً.

مرثية طويلة، خافتة الصوت، تنهض بها القصيدة في "أنت في القاهرة"، لتقارب مدينةً لم يعد لها من وجود إلا في الكلمات، كأنها مُشيّدة من جميع المفردات التي باتت فجأة مهجورة، وقد لفظها معجم العالم.

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.