}
عروض

أفول أسطورة الـ BBC عن كتاب "انكسار الصورة"

ماجد كيالي

16 يوليه 2018

يكثر في الأدبيات الدارجة الحديث عن السلطة الرابعة، أي سلطة الإعلام، والتي تشرح لنا، أو تفضي بنا، إلى جانبين، أولهما، ما يتعلق بسلطة الإعلام على الرأي العام، أي تشكيله والتحكم به، بما في ذلك الهويات والحاجات والخيارات والرموز والمعاني. والثانية، وتتعلق بسلطة الإعلام إزاء السلطات الثلاث الأخرى (التنفيذية والتشريعية والقضائية)، باعتباره إعلاما ينتهج المراقبة والكشف والشفافية ورعاية مصالح الشعب، أو إعلاما موظفا لصالح السلطة، أو مساوما لها.

من الواضح أننا إزاء سلطة ذات أوجه متعددة، أو على الأقل ذات حدين، متعاكسين؛ ما في العلاقة بين المعرفة والسلطة، أو سلطة الخطاب بحسب ميشيل فوكو، هذا أولاً. ثانياً، في ما يتعلق بأوضاعنا فحن نتحدث عن واقع لا يوجد فيه، من الأصل، فصل بين السلطات، إذ لدينا سلطة واحدة أكلت، أو تغولت، على كل السلطات، وضمن ذلك حتى على المجتمع. ثالثاً، في ما يتعلق بسلطة الإعلام فإن الأمر يأخذنا مباشرة إلى الحديث عن العوامل التي تمكن من التحكم بهذه السلطة، أي حيازة الثروة المادية، والنفوذ السياسي، وضمن ذلك حيازة أدوات العنف والقدرة على استخدامه، لأن من يمتلك تلك الأدوات، لا سيما في بلداننا يمتلك سلطة الإعلام.

في ذلك فإن هربرت شيلر، في كتابه ذائع الصيت: "المتلاعبون في العقول"، وكان نشره في عام 1973 (صدر عن عالم المعرفة في 1999)، اعتبر أن أصحاب المال والقوة، ومؤخرا أباطرة الإعلام، "هم الذين يملكون قدرة أكبر على الوصول إلى عموم الناس وتشكيل أخلاقياتهم وأنماط سلوكهم، وتحديد اتجاهات تصويتهم في صناديق الاقتراع، في الظروف العادية. وقد أثار الكتاب في حينه عديدا من الأسئلة حول سلطة الإعلام وإعلام السلطة، وعن المعرفة والاستهلاك، القيمة والسلعة، الإثارة والتسلية، التحفيز والتنميط، الأسئلة أو التبلد. وبرأي شيللر فإن صناعة التلاعب بالعقول تتم عن طريق خمس أساطير يجري ترويجها بعناية وذكاء، ضمنها: أسطورة الفردية والاختيار الشخصي، وأسطورة الحياد، وأسطورة التعددية الإعلامية (إلى جانب أسطورة الطبيعة الإنسانية الثابتة، وأسطورة غياب الصراع الاجتماعي).

تأسيسا على ذلك فإن تحليل الخطاب الإعلامي العربي في بلدان لا يوجد فيها فصل بين السلطات، ولا حرية رأي، ولا حقوق إنسان، أو حقوق مواطنة، ومناقشة ظاهرة الشبكات الإعلامية، بما فيها الصحف والمجلات والأقنية الفضائية، مسألة لا يمكن فصلها عن واقع السلطات القائمة، كما إن نقدها لا يمكن فصله عن نقد تلك السلطات.

بيد أن نقدنا للإعلام الغربي، الآتي من أنظمة ديمقراطية، على نحو ما حاولت الكاتبة والإعلامية سعاد قطناني، في كتابها: "BBC انكسار الصورة" (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2018)، يكتسب أهمية كبيرة، سيما أنها تتحدث، أولاً، عن واحدة من أهم الشبكات الإعلامية في الغرب (BBC) التي كان لها دور كبير ومؤثر في تشكيل الرأي العام العربي، وثانيا، لأن حديثها نبع من معايشة ومن تجربة استمرت لعامين في المقر الرئيس لتلك المؤسسة (لندن)، علما أنها ليست مجرد إعلامية مؤدية إذ إنها كاتبة صحفية مثقفة ومتمرسة. وثالثا، لأن تلك المؤسسة لا تتبع ملكية خاصة وإنما هي ملك عام، يمولها دافع الضرائب البريطاني، في بلد ديمقراطي.

وفي الواقع فإن نقد الخطاب الإعلامي الصادر عن مؤسسات إعلامية غربية، وتحديد علاقته بالسياسات الغربية في العالم العربي، على نحو ما فعل إدوارد سعيد في كتبه، وضمنها الثقافة والإمبريالية، مثلا، مسألة على غاية في الأهمية، لأنها تدلنا على استمرارية فعل الغرب عندنا، أو استمرارية سياساته الاتباعية إزاءنا، دون أن يستنتج من ذلك أن حديثنا يصدر عن رؤية تعتبر الغرب جوهرا ثابتا، أو تعتبره حالة سلبية في مختلف الأحوال، إذ إن هذا الحديث يدور عن سياسات معينة، ونمطية، كما في المسألة الفلسطينية، والمسألة السورية، على وجه التحديد.

هكذا، فعلى مدار 434 صفحة من القطع المتوسط، ضمنها ملاحق من 50 صفحة، وهو كتاب كبير إذا، حاولت قطناني، أن تقدم لنا تجربتها المريرة في BBC، بإسهاب شديد، وبأناة بالغة، فقدمت لنا تفاصيل كثيرة في سبيل ذلك، كما حاولت عبر ذلك العرض المضني أن تثبت لنا وجهة نظرها، التي تحولت من حالمة للعمل في تلك المؤسسة بحكم الصورة التي رسمتها في مخيلتها عنها، كمؤسسة إعلامية محايدة، وموضوعية، ومهنية، إلى رافضة لأسلوب عملها، ومتمردة عليها وناقدة لها، بعد أن تكشف لها خواء الحياد، وغياب الموضوعية، والافتقاد للمهنية، إن في الخطاب السياسي والإعلامي لتلك القناة، أو في طريقة عرضها للقضايا، وكيفية توظيفها لها، أو بشأن كيفية التعامل مع العاملين فيها، وتأثير العلاقات الشخصية او الانحيازات السياسية في كل ذلك.

واضح من تصفح هذا الكتاب، والحديث يدور عن يوميات من خمسة فصول، أن الكاتبة تعمدت منذ وصولها إلى لندن، لبدء العمل في محطة بي بي سي، تسجيل تجربتها، على طريقة مذكرات يومية، بحيث أنها لم تترك شاردة أو واردة إلا سجلتها، وهذا ما ساعدها على صياغة هذا الكتاب، وتضمينه كل الحوادث التي حصلت معها، إن في كيفية التعامل معها، أو في التدخل في التقارير التي أعدتها، أو في محاولات الضغط عليها لثنيها عن صياغات معينة، إلى لحظة مرافعتها النقدية تجاه خطابات القناة وطرق التعامل مع الموظفين، وصولاً إلى لحظة تقديمها استقالتها من القناة.

في كل ذلك أخذتنا الكاتبة في كتابها، بسلاسة بالغة، إلى غرف التحرير، وإلى غرف الأخبار، واجتماعات هيئات التحرير، التي يظن بعضنا أن الذين يحتلونها أشخاص في كامل أناقتهم الشكلية والأخلاقية، لنرى أن الأمر ليس على هذه الدرجة وأنه هنا أيضا ثمة انحيازات وصراعات وأهواء ومكائد، وآمال وإحباطات، وحتى ثمة فئران لا تلوي على شيء!

في هذه التفاصيل تبدو بي بي سي وكأنها لا تشتغل بروح واحدة، إذ أن بي بي سي الإنكليزية، مثلاً، أرقى وأصدق وأنظف من بي بي سي العربية، التي تتحكم بها مزاجيات ومواقف مدير أخبار القسم العربي أو رئيس التحرير، بحيث تبدو الموضوعية والمهنية مجرد ادعاء، حينا، اأ كقناع لتوظيفات سياسية معينة حينا آخر.

هذا الكتاب تمت صياغته كأنه نص أدبي، أو كأنه بمثابة شهادة شخصية، على تجربة معينة، أكثر منه ككتاب سياسي أو إعلامي، وهذه ملاحظة نقدية، ربما، والفكرة أنه كان بإمكان الكاتبة أن تختصر الكثير من التفاصيل المتشابهة والمتكررة، إن المتعلقة بطريقة التعامل، أو المتعلقة بكيفية صوغ الخطابات والتعامل مع التقارير الإخبارية، كما كان يحبذ لو أنها قدمت مقاربات مع وسائل إعلامية أخرى.

طبعا ثمة بعد شخصي للكتاب إذ تضمن مشاعر الكاتبة، في بعدها عن أسرتها التي تقطن في دبي، وفي معاناتها في تلك الغربة، وهذه الظروف، أي أننا عشنا مع قطناني تجربة إنسانية بكل معنى الكلمة.

وعلى العموم، فإن هذا الكتاب المتميز بالصدق، يهم الباحثين والمهتمين في مجال الإعلام، وقد جاء مفعما بروح المسؤولية والانحياز لقضايا الحرية والعدالة في العالم العربي، وهو ما يمكن تلمسه من أهم قضيتين (السورية والفلسطينية، واللتان جعلتا الكاتبة تراجع الصورة المتخيلة عندها عن بي بي سي، وجعلت صورة تلك القناة تنكسر، بعد أن كانت في مكانة أثيرة عند هذه السيدة الفلسطينية ـ السورية العنيدة والمجتهدة، التي ولدت لعائلة لاجئة إلى سورية (بعد النكبة 1948)، ثم حصلت على الجنسية الكندية، ثم تركت عائلتها في دبي، لتأتي إلى لندن، في سبيل تحقيق طموحها أو حلمها، ولتأدية ما ترى أنه رسالة لها في هذه الحياة. لذا نحن بانتظار كتاب آخر لسعاد قطناني عن شهادتها في تجارب أخرى، ولنأمل أنها تجارب أفضل.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.