}
عروض

اللقاء الأول بين العرب والألبان والنورمان بصقلية ...وامتداده الثقافي

من يتطلع إلى خريطة القارة الأوروبية من جزيرة صقلية مرورا بالبحر الأدرياتيكي ووصولا إلى دول النورديك أو دول الشمال (النرويج والدنمارك والسويد وأيسلندا وفنلندا) يتساءل بحق ما الذي يمكن أن يجمع بين العرب والألبان والنورمان في صقلية في القرن الحادي عشر، وكيف كان لهذا اللقاء أن يثمر ثقافيا؟

الجواب على هذا الجانب غير المعروف يجيب عنه الكتاب الجديد "اسكندر بك في البلدان النورديكية" الصادر في تيرانا عام 2018 (تيرانا، مركز الدراسات الألبانية والبروتستانتية) لعالمين معروفين: الألباني جواد لوشي والأميركي جون كوانرد المتخصص في دراسات الفايكنغ، والذي صدر بمناسبة الذكرى الـ 550 لوفاة البطل الألباني جورج كاستريوت – اسكندر بك (1408-1468) المعروف على النطاق الأوروبي الذي يمثل الجانب الثقافي في هذه العلاقة.

كان أجداد النورمان أو النورديك من البحّارة الذين اشتهروا باسم الفايكنغ (الذي يعني البحّارة في اللغة المحلية) الذين عبروا المحيط الأطلسي إلى أميركا ووصلوا إلى البحر المتوسط، ليبرز بذلك "عصر الفايكنغ" خلال القرون 8-10 للميلاد قبل أن يبدأ بالانحسار لصالح القوى الصاعدة. من تلك القوى كان العرب المسلمون الذين فتحوا الأندلس أولا ثم حوّلوا "بحر الروم" إلى بحرهم بعد أن سيطروا على صقلية في القرن التاسع (827-878)، حيث برزت الإمارة الكلبية (948-1052). ومع انحسار الفايكنغ أخذ النورمان الذين اشتهروا كمقاتلين في الهبوط جنوبا إلى شبه الجزيرة الإيطالية حيث استخدمهم البابا في القتال ضد بيزنطة منذ 1027 ثم شاركوا في القتال بين الإمارات المتنازعة في إيطاليا وأسسوا أول إمارة لهم في مقاطعة أفيرسا عام 1038.

جذب هذا التطور المزيد من النورمان إلى شبه الجزيرة الإيطالية لينضموا هذه المرة إلى الجيش البيزنطي كمرتزقة. كانت بيزنطة آنذاك منشغلة في نزاعات مع بلغاريا والبابوية وحروب مع المسلمين في المتوسط وفي جنوب إيطاليا، ولذلك كانت في حاجة إلى المزيد من الجنود أو المرتزقة. في هذا الكتاب لدينا دراسة قيمة لجون كوانرد عن مصدر مهم لتاريخ بيزنطة ألفه القاضي وعضو مجلس الشيوخ ميخائيل اتالياتس حوالي 1070، حيث ورد فيه لأول مرة ذكر لمشاركة الجنود أو المرتزقة الألبان والنورمان في الحملة الكبيرة التي قادها القائد العسكري المعروف جورج مانياكيس خلال 1038- 1040 لإخراج العرب من صقلية. ومع أن هذه الحملة حققت بعض النجاحات ولكن حصار سرقوسة فشل وقُتل لاحقا القائد مانياكيس ليقوم النورمان بقيادة روجر الأول بفتحها في 1085 وإنهاء حكم العرب في صقلية، كما أنهم قاموا في الوقت نفسه بعبور الأدرياتيكي إلى الشاطئ الشرقي والسيطرة على ألبانيا. وهكذا اجتمع النورمان والألبان والعرب، الذين استمروا في صقلية تحت حكم النورمان، في دولة واحدة.

على هذه الأرضية التاريخية لا يبدو من المستغرب أن تبرز صلات ثقافية بين هذه الشعوب. فالعالم الجغرافي المعروف الإدريسي أبدع ما أبدعه في صقلية تحت حكم النورمان، كما أن مقاومة الألبان للحكم العثماني الجديد جعلت من شخصية القائد الألباني جورج كاستروت، الذي اشتهر باسم اسكندر بك بعد اعتناقه للإسلام قبل أن يعود إلى المسيحية، رمزا ملهما في الأدب الجديد بدول النورمان. ففي الوقت الذي كان فيه العثمانيون يتقدمون نحو وسط أوروبا ويقضون على المجر في 1526 كانت السويد والنرويج والدنمارك تتحد تحت حكم الملكة مارغريت، وتستلهم مقاومة اسكندر بك الذي تحول إلى أسطورة.

كانت اللاتينية لا تزال "اللغة المقدسة" ولكن مع تمرد مارتن لوثر على البابوية وترجمة الإنجيل إلى السويدية في 1541 وغيرها من اللغات النورديكية (السويدية والدنماركية والنرويجية والأيسلندية) بدأت الكتابات الأدبية الأولى في هذه اللغات التي استلهمت مقاومة الألبان للحكم العثماني.

وهكذا فقد صدر في الدنمارك عام 1709 كتاب بعنوان "وصف أشهر ثلاثة ملوك أتراك ..وجورج كاستريوت أو اسكندر بك زعيم إقليم إبير وألبانيا"، حيث أن الكتاب يتحدث عن سلاطين الأتراك الثلاثة الذين عاصرهم اسكندر بك خلال نشأته (نشأ في البلاط العثماني كرهينة لضمان ولاء والده للحكم العثماني) ومقاومته التي تحولت إلى أسطورة في أوروبا.

وفي 1788 صدرت في السويد ترجمة لكتاب عن اسكندر بك طبع بالفرنسية، بينما لدينا في بدايات الأدب السويدي مسرحية من ثلاثة فصول بعنوان "اسكندر بك" للكاتب ثور غوستاف رودبك (1806-1876) Th.G.Rudbeck. ومن ناحية أخرى يكشف الكتاب عن عدة مخطوطات في الأيسلندية تتضمن 13 قصة طويلة saga عن اسكندر بك تعود الى النصف الأول للقرن التاسع عشر. والمهم هنا أن الكتاب يكشف عن مصدر استلهام هذه القصص: كتاب المؤرخ والكاتب النرويجي لودفيغ هولبرغ L.Holberg (1684-1754)، الذي يعتبر مؤسس المسرح الدنماركي.
وكان هولبرغ قد تجول في أرجاء أوروبا قبل أن يعود إلى الدنمارك ويصدر في 1739 كتابه "التاريخ المقارن وأعمال الأبطال المعروفين للشعوب المشهورة" في مجلدين تناول فهما عشرة شخصيات. ففي المجلد الأول خصّص ثلاثين صفحة عن اسكندر بك، ومن الواضح هنا أنه اعتمد على "تاريخ اسكندر بك" الذي صدر في اللاتينية للكاتب الألباني مارين برلاتي (1450-1512) في روما عام 1508 وترجم إلى عدة لغات أوروبية وصولا إلى الأيسلندية حوالي سنة 1800.

ومن ناحية أخرى فقد عرفت فنلندا بدورها اسكندر بك عن طريق السياسي والقائد العسكري فالدرمار افرت غوستاف بيكر V.E.G.Becker 1840-1907. وكان بيكر قد ذهب إلى البلقان للمشاركة في الحركات المسلحة ضد الحكم العثماني ونشط لأجل تأسيس رابطة بلقانية ضد الدولة العثمانية. وعند عودته إلى بلاده ألف كتابه "ألبانيا والألبان" الذي صدر في باريس 1880 والذي عبّر فيه عن إعجابه باسكندر بك.

كتاب "اسكندر بك في البلدان النورديكية" الذي يتناول العلاقات التاريخية والثقافية بين الألبان والنورمان يثير السؤال عن الحاجة إلى كتاب مماثل عن العلاقات التاريخية والثقافية بين العرب والنورمان. صحيح أن النورمان أنهوا الحكم العربي لصقلية ولكنهم، بالمقارنة مع ما حصل بالأندلس، كانوا مقدّرين للعرب وحضارتهم وحرصوا على بقائهم ورعاية العلماء كالإدريسي وغيره، حتى أن الإدريسي قد سمّى كتابه المعروف "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق" بـ"كتاب روجر" أو "الكتاب الروجري" نسبة إلى ملك صقلية روجر الثاني (حكم 1130-1148) لأن روجر الثاني هو الذي طلب منه تأليف هذا الكتاب.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.