}
عروض

"جدار أزرق" لجمال القصاص: الواقع كافتراض.. القصيدة كفرضية

طارق إمام

10 مايو 2018

 

لا يعيش القارئ والكاتب الزمن نفسه. إنها المسافة الحتمية، حيث نص يقطع شوطاً ما في الزمن لكي يكتمل، قبل أن يصل إلى متلقٍ ما، ليرتهن فعلُ القراءة بزمن لاحق بالضرورة على زمن الإنتاج. الطريقة الوحيدة لكي تحيا العمليتان الزمن نفسه، تقضي بأن يقرأ القارئ نصاً ما أثناء تحققه، يتلقاه كـ"مسودة"، كعملية إبداعية في طور التحقق، بالضبط مثلما يفعل كاتبه. لكن، كم قارئاً يتسنى له أن يعيش هذه الولادة؟ "الجدار الأزرق"، حائط فيسبوك، وحده يتيح ذلك، إذا ما كُتب نصٌ ما، مباشرةً، وللمرة الأولى على "صفحته"، بحيث يتقلص الزمن بين الإنتاج والتلقي إلى حده الأدنى. إنها فكرة "التفاعل"، التي تجعل أخيراً من الشراكة المأمولة نظرياً، شيئاً في المتناول. فكرة تخلق زمناً سائلاً يضم زمنين مفارقين، لتخلق في الوقت نفسه بعداً مكانياً ثالثاً هو ما ندعوه بالواقع الافتراضي.

أُنتِجت قصائد المجموعة الشعرية "جدار أزرق" لجمال القصاص (منشورات بتانة، القاهرة) مباشرةً على حائط الواقع الافتراضي، وجرى فعل تلقيها، أثناء مرحلة الكتابة، جزئياً وآنياً، كأنه يلاحقها، فصارت عملية الإنتاج أقرب ما تكون لعملية التلقي في لحظة صيرورتها، قبل أن تصير "كتاباً" استعار عنوانه من الفضاء الذي أُنتِج في شرطه. هنا، صار بمقدور المتلقي أن يحيا الزمنين معاً: زمن الإنتاج "الأوَّلي"، (زمن الكتابة)، ثم زمن "البناء" النهائي، (زمن القراءة)، الذي لا يساوي أبداً بين نسختين على شرف نص واحد، إحداهما "المسودة" السرية، والأخرى "النص" المعلن.  

إنه كسر أوَّلي لإيهام هذه العلاقة الأبدية، فبامتلاك المتلقي قدراً من الحق في ملاحقة النص أثناء عملية إنتاجه، ثم مقارنة ذلك بما سيصير عليه، يغدو هذا المتلقي، في واقع الأمر، كاتباً موازياً وليس محض مُستقبِل. ثنائيةٌ أولى قوضها نص القصاص الجديد، والذي لن يلبث أن يطيح في طريقه بجميع الثنائيات الممكنة.

 

نص إذابة الثنائيات

ثمة سؤالٍ متصل: إلى أي مدى يُسهم وسيطٌ ما في إنتاج نصٍ بعينه؟ في مدّه بقدرٍ من بنيته وقوامه بل وربما جانباً من مقوله الشعري؟ من الوهلة الأولى، يلوح البذرُ السائل لمقاطع قصيرة، "بوستات شعرية"، يشبه الواحد منها نفثة ما تلبث أن تخمد لتبزغ أخرى. هل حددت الطريقة التي جرى بها إنتاج النص هذه البنية؟ وهل جاء فعل "إعادة الكتابة" ليضع المقاطع في متتاليات معنونة، اكتسب كل منها "مدخلاً" إطارياً يجعلها مولّدة من أفقه؟

 ثم، إلى أي مدى أسهم الواقع الافتراضي، وهو يتلقف قصائد كتبت على حائطه مباشرةً (كأنه الورقة الأولى) في خلق قصيدةٍ عالقةٍ بدورها بالواقع الافتراضي باعتباره "واقعها"؟ ففي مجموعة القصاص الجديدة يظهر جلياً أن لا وجود لواقع صلب يمكن رد النصوص إليه، قدر ما توجد "صورة" للواقع، نسخة "سيبرية" منه، كأن واقع هذه القصيدة هو نفسه وسيطها.

نحن إذن أمام تجربة تمارس فعلين متقاطعين: إذابة الثنائيات من جهة، وكسر الإيهام الشعري من جهةٍ أخرى، بحيث يصبح النص "معروضاً" في لحظة إنتاجه، في أقصى تمثلات إسهام فعل القراءة في إنتاج النص. القصيدة في "جدار أزرق" تُكتب، طوال الوقت، هُنا والآن.  لكن الفعلين يلتقيان على شرف الجوهر الرؤيوي نفسه: إنتاج الواقع الشعري "الافتراضي" عبر لغةٍ مُراوِحة، بين الالتفات لنفسها والانفتاح على أفق التداول والإحالة، بحيث يغدو الواقع نفسه "نتاج" اللغة، بدلاً من اكتفاء اللغة بدور الوسيط لتدويل وجود قائمٍ سلفاً. هنا، يأخذ تقويض فكرة الواقع شكله الأكثر عملية: إذ لا موجود خارج اللغة، ولا سبيل للمحاكاة، التي تتلقى رصاصة رحمة قاسية بتحول الواقع من موجودٍ أصلي (غير قابل للاستنساخ) إلى محض نسخة مقلدة يملك كل فرد الحق ليس فقط في امتلاكها، لكن، في "إعادة تصنيعها".

***

يقوض "جدار أزرق"، أول ما يقوض، ثنائية الهامش والمتن. ثمة، في كل نص، منصة "إطارية" مميزة طباعياً على مستوى نوع الخط، ومائزة ككتلة على مستوى شكل الصف، المتصل، دون تقطيعٍ للأسطر. من المدخل الإطاري تترى المقاطع، مرقمة، بخطٍ مختلف، وبالتقطيع المألوف للسطر الشعري. ثنائيةٌ أولى، شكلانية ورؤيوية معاً، يجري تقويضها، بغية جسر أكثر من هوة بحجر واحد: فالمتن والهامش يتبادلان المواقع عوضاً عن نهوضهما كوجودين متعارضين، ولذلك ينسل المقطع الأول المولّد دائماً من مدخله دون فاصل. هناك أيضاً المفارقة بين لغة المداخل الإطارية (مشبعةً بالميثولوجي، وغائرة في التناص مع شفرة الثقافة وفي قلبها الموروث الجمالي، بلغةٍ ملتفتة لشرطها) وبين لغة المقاطع المولدة، ملتبسة باليومي الحسي، وذاهبة للتجريبي. يمكن للمقطع الأول أن يكون تمثيلاً لهذه العملية "العناقية" التي تنسحب على البنية الكلية في تشكيل النصوص الاثني عشر للكتاب: "لا أعرفُ نساء دِلفي ولا حاملات القرابين في وادي الملوك، لم تسقط واحدة منهن في حجري، الماءُ لم يكن طازجاً وهن يعزفن للشيطان حتى يصب النبيذ دفعةً واحدة، وينام خلف الأريكة، لم أشاهد السماء وهي تُخمِّر خبزها فوق بطنكِ، لم ينبت في ضلعي قمر، لأتصوركِ تواً خرجتِ من ضلع الزهرة، لأضمك إلى عائلتي البسيطة./ أنا ابنُك الممسوس بعقدة الفيضان/ أبي وأمي كانا مجرد وسيطين طيبين/ ليحمل النهر رائحتي/ حتى لا تتعطل في أنفه حاسة الشم".

 ثنائية يحوِّل تقويضُها المستويين الشعريين الرئيسيين من "مونولوجين" متوازيين لحوارية صوتين متجادلين في "ديالكتيك" شعري. إنه إنكار "الضدية القيمية" كنتاج للإيديولوجيا، لصالح "الكرنفالية الصوتية" القائمة على المراوحة باعتبارها إحدى تمثلات الشك، بل والهدم، وتأكيد على نسبية الرؤية للعالم، بعيداً عن المونودراما الشعرية كصوتٍ أحادي يتعاطى العالم.

من تقويض هذه الثنائية، يجري تقويض ثنائيةٍ أخرى، في ملمحٍ ينسحب على المجموعة كلها، هي ثنائية "النفي" و"الإثبات". بين "لا أعرف" (كمنطلق دال للخطاب الشعري كله) و"أنا ابنك" (كتأكيدٍ للنسب، بوصفه يقين الوجود الأتم) تتحرك الذات. الاثنان هنا وجهان للمأزق الوجودي نفسه، ليس ثمة معرفة مطلقة ولا جهل كامل، بل سؤال عالق بين يقينين.

بين "المتن/ الهامش"، و"النفي/الإثبات" هناك ثنائية العلاقة التي تقبض الذات الشاعرة على طرفيها.

يتحرك الخطاب الشعري في مثلثٍ علاقاتي رئيسي تمسك الذاتُ الشاعرة بضلعيه المتصلين: الذات الشاعرة في التباسها بآخر أنثوي، والذات نفسها في التباسها بطفلٍ هو قناع ماضيها ومرآته معاً. أولهما يحل كمخاطب، والثاني كغائب، في تحريكٍ دائبٍ للضمائر بين الذاتين. كلا العلاقتين تتوفر على أسباب تكريسها للثنائية، وجاهزية إحالتها لأفقٍ دلالي قار. أليست الأنثى في الجاهز الشعري هي الاكتمال، المطلق، الطاقة الميتافيزيقية المفارِقة؟ وأليس الطفل هو البراءة والإدراك الغفل للوجود خارج تعقيدات "الثقافة"؟ لكن الذات الشاعرة تذيب كلا الثنائيتين بخلق إحالات جديدة، فالأنثى تحضر هنا في ذروة نسبيتها، متخلصة من حمولاتها الجاهزة وهي تطفو شعرياً في أقصى درجات تخففها، تمثلها الرغبة في مغادرة الحياة عوضاً عن مضاعفة الحضور: "تودين الانسحاب من هذه الحياة/ لا تطيقين هدنة الحطام/ لا بأس../ لديكِ نماذج مبهرة من خسارة الجرح/ هناك طاحونة فرجينيا وولف/ هناك محرقة سيلفيا بلاث/ هناك قفزة نيلغون مار مارا/ هناك عجللة فروغ فرخزاد/ ربما تناسب جذعك الممصوص كمبراة/ لا بأس.. تخيّري ما شئتِ".  

بالقوة نفسها، تجسر قصيدة "القصاص" الهوة (التقليدية في القصيدة الغنائية) بين حاضر الذات وماضيها، بقدر ما تذيب الفاصل الوهمي بين الطبيعي والثقافي، حيث لا تنقسم الذات لطفلٍ/ غريزة وناضج/ ثقافة، بل تختبرهما ملتبسين في اللحظة الشعرية نفسها، كأن الزمن "الافتراضي" وحده قادر على جسر الهوة بين وجودين لا يجمعهما سوى الاسم: "

إن إذابة الثنائيات تصل بفعلها حد جعل الذات الشاعرة ومقابلها المؤنث ذاتاً واحدة، تكتبها عينٌ ديوجينية، وحيث لن يلبث ضمير المخاطب أن يتحرك بين الذات الأنثوية والذات الشاعرة نفسها، مموِّهاً بينهما. تتحول الذات الأنثوية وفق تقويض الثنائية من وجود خارجي، يجعل العلاقة (أنا/أنت) إلى موجودٍ داخل الذات، إلى "أنا" ثانية: "كلُّ هذه السنوات وأنت نائمةٌ في جسدي/ لم يعد لائقاً أن تظلي هكذا/ في قبوٍ يعج بالغبار../ تعبثين بصوتي، فيضطربَ ويتقطع".

 

 بانعكاس هذا المثلث على أبعاد الزمن الثلاثي، يمسك الطفل، بداهةً، بطرف الماضي، فيما تذهب الأنثى للمستقبل، حتى لو كان ينتظرها في مقبرة.  في الاختيار الشعري، يعلق المضارع بين زمنين، سالف ولاحق (ثنائيةٌ جديدة). المضارع يمد خيطه للأمام حيث "الاستباق"، رغم أنه يملك الإمكانية نفسها ليرتد في فعل استرجاع. غير أن المضارع في "جدار أزرق"، ذاهبٌ بلا هوادة للأمام والخلف معاً، ليلتبس الاستباق بالاسترجاع، في خطيةٍ تضعه على حافة السردي. من هنا، يجري تقويض ثنائيةٍ جديدة هي السردي/ الشعري.

ثم هناك ثنائية الكتابي/ الشفهي، حيث يراوح نص القصاص بينهما ليجعل كل منهما مرآة الآخر عوضاً عن التقسيم التقليدي بينهما كضدين.

 

القصيدةُ واقعاً شعرياً

يتلقى النص الشعري واقعاً خارجياً (يفتقر للبنية) بغية تحويله لخطابٍ "دال" ضمن واقعٍ بديل هو الواقع الشعري. إنها تبقى علاقة ميتافيزيقية، لا سبيل لتضييق هوتها، إلا بتحوِّل القصيدة نفسها لموضوع شعري. بمعنى أدق: أن تصبح القصيدة موضوعاً للقصيدة، حيث "الواقع الجمالي" نفسه مادة لـ"واقعٍ جمالي" لاحق، أشد تعقيداً. إنها "المسودة" كموضوع للقصيدة اللاحقة، فـ"جدار أزرق" ينهض دائماً في المسافة بين نصين: نص الإمكانية ونص التحقق. يفعل ذلك، مجدداً، ليذيب هذه الثنائية بين النص كموجود بالقوة ونفس النص كموجود بالفعل.

 إنها القصيدة بالذات وقد صارت واقعاً مشتركاً هذه المرة بين الشاعر والمتلقي، الذي شهد المسودة تماماً ككاتبها. لا واقع شعري إذن سوى بوصفه "نصاً"، ولا وجود لدلالة قائمة سلفاً في "الواقع"، بل لتفكيكٍ دائبٍ لسلطة المعنى الجاهزة. هنا، يغدو أيضاً من المقبول أن تصبح اللغة هي "الأم" بالنسبة للذات الشاعرة: "أيتها اللغة/ يا أمي". لينزاح "النَسب" من الواقع للغة.

من هنا، يغدو بديهياً أن يتحقق النص في صيغةٍ مضارعة. صيغة هي الزمن الفعلي لنصٍ "يُكتب الآن": "لم تعد تعجبني قصائد النهايات/ ولا ورطة البداية/ ضاقت المسافة بينهما/ لا أعرف أيهما يمنح الآخر حرية الطيران/ أو الغرق./ لكنني في هذه الدقائق الخمس،/ في هذا اليوم الذي لا أعرف إلى أين سيمضي/ سأحتملُ وجودي كفكرةٍ نيئة/ ربما تختمرُ بمحض صدفةٍ/ في شكل شبحٍ ضال/ يوقظني رغماً عني".

هل نحن أمام ما يمكن أن ندعوه "ميتا قصيدة"، تخاطب فيها الذات نفسها بـ"يا شاعر"؟، هل تخلَّى فعل الكتابة (مدعوماً بطبيعة الوسيط) عن ظهوره تاماً، لصالح فعل "التفكير في الكتابة" وقد صارت عرضاً؟ ثمة هنا ذلك الإنكار لتحقق القصيدة كدائرة مغلقة، مقابل منحها "مشاعيتها"، ثمة إنكار الخلود الذي يفترضه التدوين، من أجل إرجاء التدوين كسبيل وحيد لكي يحصل النص على حريته: "اكتب قصيدتك وارمها في البحر/ سوف تسعدُ بها الأسماكُ والطحالبُ والحيتان/ سيحفظها الماء في صندوقه المملح/ سيعلمها الغوص في الأعماق/ ربما يداعبها قنديلٌ فسفوري لا يدعي أن فكرة النور/ مجرد مضاد رغوي نزفته العتمة../ هي قصيدتك/ حرةٌ طالما أنت حر".

القصيدة/ الكتابة تقويمٌ "رسمي" للوجود مقابل الطبيعة/ الشفاهة التي تتوفر على تقويمٍ مختلف. إنه صراعٌ تحت جلد هذا النص: "تقول الأوراق إنني وُلِدتُ في هذا اليوم.. لكن الشجرة تدّعي أنني ما زلت نسغاً يتلكأ بين الغصون والجذور".

بوسع القصيدة أن تتملص أيضاً مؤذنة لموت مؤلفها، لتغدو وجوداً "يكتب نفسه" إن جاز التعبير: "قصيدتي تتقمص أشياءَ غريبة، "أحياناً تستعرضُ عضلاتها كفتوات الحرافيش"، "أفكر أن أُدخلها مصحة عقلية، لكنني أخشى تلازم العلة بالمعلول". إن ذلك يمد الخيط لتحقُّق الرغبة المستحيلة: أن يستقل النص عن مُنتجه، كونه لم يعد أسيراً لسلطة واحدة يرتهن وجوده بحياتها: "قصيدتي ذهبت للبحر/ كان لطيفاً جداً/ لم يرتبك/ فتح خزائن لهفته/ همس في أذنيها:/ هذا مجدافك الصغير/ كوني له أخاً وأختاً/ وسريراً كلما لزم الأمر".

إن نصاً سابقاً للشاعر هو "نساء الشرفات" يحضر بدوره كموضوع لإعادة الاستقراء: "نساء الشرفات" يعضضن أظافرهن ويصرخن: ألقمناك ثدي الندى، وثقن خجلك في مقبرة الليل".

لكن "القصيدة" ليست تمثيل الكتابة الوحيد في "جدار أزرق"، فبالتقاطع معها تنهض "الوصية".  تلعب الوصية دوراً مزدوجاً: لقد كتبتها يدُ الحياة لتُقرأ في الموت. إنه، هذه المرة، الموت "الحرفي" للمؤلف. هو هنا موتٌ مؤجل، حيث ترجئ اليد نصها الأخير: "لم أكتب وصيتي بعد/ ما زلتُ أتعثر في حرفٍ/ لا يعرف كيف يوصلني/ إلى باب المقهى". سيتقاطع النصان بلا مواربة: "لا أريدُ أن يسبقني أحدٌ إلى مقبرتي/ الغرباء وعابرو السبيل/...../ لكن دعوني وحدي قليلاً/ أقرأ قصائدي هنا".

 ثنائية جديدة يجابهها التقويض، فالشعر ضد الموت، مثلما الكتابة نقيض القراءة، لذا تتحول الذات إلى "ذات قارئة" لنصٍ تَحوَّل، في تأكيدٍ على الذهاب للشفاهي، إلى "مادة إلقاء" ملفوظة.

ينفتح التدوين على تراوح صيغه وظيفياً وجمالياً، على "التلفظ"، يمثله الكلام أو الحكي: "بعيداً عن قصاقيص الضوء التي/ لا تغمض عينيها في النوم/ سأحكي لكِ عن قدمٍ شاخت في ظلها/...../ سأحكي لكِ عن العشب/ عن عتمة البياض/ عن أسطوانة تئن في الركن".

ذاتٌ شاعرة "تسرد" فيما هي تحقق نصها الشعري. أليست ثنائية جديدة تجري إذابتها على شرف نصٍ "هجين"؟ العالم نفسه، إذا ما حاولنا تقصي جذرٍ رؤيوي هنا، ليس أكثر من ذلك "الكولاج": "فوق أي أشلاء/ ستفكك لعبة الأضداد/ تعيدها لرحم البداهة/ لفطرة المعنى". كأن "المعنى"، ذلك "المتماسك" لن يتحقق إلا بتأويل "المِزق" وبإزالة السلطة القيمية التي تحكم الأضداد لتجعل منها إحالات "أخلاقية" سقط الفن في فخها مستجيباً لجاهزيتها.

حتى المقبرة، كبيت أخير، تغدو مكاناً مؤقتاً، "مؤجراً"، في إذابة نهائية لثنائيةٍ ينهض فيها "بيت البقاء" قبالة "بيت الزوال": "مقبرتي للإيجار/ لا شروطَ لديّ/ مالكٌ متساهلٌ جداً/ لا يهمني شهادات الميلاد ولا بطاقات الهوية". الموت يقوِّض الثنائية النهائية: فلا حاجة للأوراق كي يوارَى جسدٌ ترابه، مثلما لا تلزم نفس الأوراق كي يلتئم بمهده.  ليس الموتُ نفسه نهاية هنا، فالقصيدة، القصيدة وحدها، تظل قادرة على أن تنتهي بالميلاد، وحيث يتسنى للشاعر، والشاعر فقط، أن يُوارى مهده.

 

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.