}
عروض

كيف قرأ غويتيسولو مستقبل الثقافة العربية من مقابر القاهرة؟

طارق إمام

6 مايو 2018
في إحدى زياراته للقاهرة، فوجئ الكاتب الإسباني "خوان غويتيسولو" (1931_ 2017) بتهمة عبثية موجهةٍ له. كان غويتيسولو قد اختار أن يقيم في المقابر، وبدأ، بدهياً، في التقاط صور للمكان، ليفاجأ بأنه متهم "بتشويه صورة مصر السياحية"!  في لحظة، وجد أحد أشهر أعداء الديكتاتوريات نفسه عُرضة لمساءلة قد تصل به إلى تهمة التجسس من ديكتاتور حبس صورة عاصمته في كارت دعائي. وكان عليه أن يحترم سلطةً ترى أن مقابر عاصمتها سرٌ مقصور على "مواطنيها"، موضوع لفرجة الغرباء دون التصوير. يستدعي غويتيسولو هذه الذكرى بين رفات المدينة الكبيرة، فيما يستحضر نهوض المصريين للقيام بثورة الخامس والعشرين من يناير، ضمن كتابٍ لم تخل صفحة منه من ربط الثقافة العربية بطغاتها، هو "في جنوب المتوسط"، الذي أصدرته مؤخراً دار أزمنة بعمّان، بترجمة الروائي والمترجم المصري أحمد عبد اللطيف.

غويتيسولو، الذي تحل خلال أيام ذكرى غيابه الأولى (4 يونيو/ حزيران 2017)، أنجز كتابه المتأخر هذا كمن يكتب وصيته: وصية مبكرة لم تقرأها الثورات العربية. وربما لا يعرف أغلب قراء هذا الكتاب أن غويتيسولو كتبه خصيصاً للقارئ العربي، باتفاق مع المترجم، كمقالات تتمحور حول سؤال جوهري، هو علاقة الثقافة العربية بأشكال السلطة وأنماط الاستبداد، بالتالي فقد كان غويتيسولو يخاطب القارئ العربي مباشرةً، من داخل لغته التي لا يجيد الكتابة بها وإن عاش بين ألسنتها عدداً ليس بالقليل من سنوات حياته، حد أنه أوصى أن يُدفن في المغرب فيما كانت السلطات الإسبانية تنتظر جثمانه ليُوارى تراب مسقط رأسه "برشلونة".

خيط القمع المُشترك في الهويات المتراوحة

"يستطيع الكاتب الذي عاش في ظل ديكتاتورية وعانى من عواقبها المخصية عند تشغيل آلتها، أن ينتبه على الفور لعلامات أي ديكتاتورية تخضع لها دول أخرى، سواء كانت طبيعتها قومية أو إيديولوجية أو عسكرية صرفا. من هذه العلامات إقصاء الموضوع السياسي من الحوارات، والصمت اللبق عند ذكر الرئيس أو المقربين منه، والنظرات المفهومة جيداً، وانتقادات الحكومة المُسكِّنة، وتسريب النكات بنصف صوت". هكذا يلتقط "غويتيسولو" مشهداً يعرفه جيداً كل عربي ليضعه بكل طرافته السوداء بين ظفرين. رغم ذلك فإن ذلك المشهد منتزع من حكم فرانكو، الذي هرب غويتيسولو من نيره، غير أنه يبقى صالحاً للتعميم على كل ديكتاتور، ومدخلاً ملائماً دائماً عندما يتعلق الأمر بالوضع العربي على تراوح أزمنته.

يدخل "غويتيسولو" مباشرةً في جوهر الموضوع، الذي من أجله أنجز كتابه المتأخر، يحاور عميقاً الثقافة العربية (وهو مشروع ليس بجديد عليه)، غير أنه ربما نصه الأكثر التصاقاً بالواقع العربي بعد ثورات ربيعه التي لن تلبث أن تُقمع على يد الآلة نفسها التي نهضت لتفكيكها. يتحرك كتاب غويتيسولو في دخان الثورات الذي لم يكن هدأ بعد، محاولاً إعادة قراءة خطاب السلطة، السلطة في كافة وجوهها، من سلطة الحكم لسلطة الأب، غير غافل عن سؤال التكنواوجيا، إحدى مفجرات الثورات العربية ومحركات الأدب العربي الجديد في الوقت ذاته.

يتصدر الكتاب حوارٌ أجراه المترجم مع غويتيسولو في أحد فنادق القاهرة، صباح الحادي عشر من أبريل 2011 (أي بعد شهرين بالضبط من تنحي مبارك عن الحكم، عقب ثورة الخامس والعشرين من يناير). القسم الأول من الحوار تركز على الثورات العربية (الوليدة في ذلك الوقت)، حيث كان غويتيسولو حاسماً حين أكد أنه كان يتوقع اندلاعها، لكنه أيضاً يحيل لمفارقة أولية في "سوء الفهم" الأبدي بين الغرب والشرق: "في أوروبا يعتقدون أنه من الصعب أن يثور العرب بسبب القيم المترسخة في الثقافة العربية حول الخروج على الحاكم، يقولون إن القرآن لا يشجع على الثورات. وسواء كانوا محقين أم لا، فحياة الشعوب لها قوانينها الخاصة".

في كتابه، يحاول غويتيسولو أن يرسم صورة متسعة لسؤال الثقافة العربي، يتوقف أحياناً عند نصوصٍ بعينها تعكس مفاهيم عميقة في سؤال الثقافة والموروث، واصلاً بين "الزيني بركات" رواية المشرق العربي الشهيرة لجمال الغيطاني، لـ"الخبز الحافي" نص المغرب العربي الأشهر لمحمد شكري. غير أن النصوص المستدعاة ليست سوى جزء من خارطة يفردها غويتيسولو، رابطاً مجمل الأوضاع السياسية والاقتصادية بمرجعياتها "الإيديولوجية"، ليقرأ الثقافة في زنزانتها التاريخية. غير أن غويتيسولو لا يكتفي بنظرةٍ اجتزائية العربية، قدر ما يفتح سؤال الاستبداد على تاريخ العالم: من محاكم التفتيش لحكم فرانكو لقمع الأنظمة الشمولية، ليقدم نصاً ينتمي للنقد الثقافي في اتساعه.

أيضاً، لا يقدم غويتيسولو رؤيته كمستشرق أو "مراقب"، قدر ما يحاول، بينما يجيب على سؤال احتل فصلاً كاملاً "لماذا العالم العربي؟"، أن يضع نفسه كموضوع للسؤال:"لا شك أن فضاء العالم العربي الرحب يقدم لكاتب من نوعيتي تعليماً مستمراً. عالم، بمجرد أن نتآلف معه، سيتجنب المستعرب المبتدئ التورط في التعميمات التبسيطية الغزيرة جداً بين متخصصين مفترضين في الشأن الأوروبي والأميركي الشمالي. ما سيكتشفه في بلد، لا يصلح لبلد آخر. فاللغة والدين يجمعان الدول العربية لكن الأولى والثاني يتكيفان على عادات كل بلد وتقاليده المحلية. وشيئاً فشيئاً، يتحقق الباحث الفضولي من أنه أمام قماشة مكوّنة من مزق ذات ألوان مختلفة".

الإبداع والرقابة

ثلاثة نماذج يسوقها غويتيسولو ليقف على طبيعة العلاقة بين الإبداع والرقابة. من إسبانيا مطلع الخمسينيات أثناء حكم فرانكو، للاتحاد السوفييتي أواسط الستينيات، وصولاً لتسعينيات العالم العربي، يلتقط الخيط المشترك بين الهويات المتراوحة في القمع. يسوق غويتيسولو "تفاؤلاً حذراً"، في وقت كانت فيه الأحلام بالتغيير بعد الثورات العربية مغرقة في ورديتها. غويتيسولو سيتوقف أيضاً عند سؤال "التعليم"، وإليه يُرجع قدرة المثقف العربي على التواطؤ مع ما يجب أن ينهض ليناوئه، متسائلاً في ذهول حقيقي عن خيانات بعض المبدعين العرب لسؤال الحرية: "كيف يستطيع أي كاتب أو مثقف أو فنان فلسطيني، سوري، ليبي، عراقي، أن يتجاهل المذابح والصدامات التي تُرتكب في بلده؟

من هنا يعرج غويتيسولو على "العثمانية الجديدة"، التي يراها "حلاً وحيداً" أمام ثورات وليدة لا تعرف البوصلة. إنها، وفق تصوره، الطريق الأمثل: "يمكن في الفترة الانتقالية لتونس ومصر أن تستلهم النموذج التركي العثماني الجديد لمنع انجرافات التطرف الديني الذي ترمز له القاعدة. كما أن الحرب الأهلية الليبية والقمع الدموي من جانب الأسد ضد ثورة شعبه، كل ذلك يفرض تحديات كبيرة: تجنب العودة إلى القبلية المفتتة والحرب بين الطوائف التي تخدم الديكتاتور السوري كعذر له ليتلحف أكثر بالسلطة بشكلٍ مخزٍ".

سجن التاريخ أم زنزانة الحاضر؟

يتوقف غويتيسولو أكثر من مرة أمام مشروع "جمال الغيطاني"الأدبي، باعتباره متعالقاً بشدة مع سؤال الاستبداد. ويرى غويتيسولو أن الغيطاني "استلهم من السلطات الاستبدادية الخانقة، والمتكررة طوال التاريخ، والمشيدة دوماً على خوف الإنسان وذله، صوراً متناقضة لكنها مكتملة لشخصية الزيني بركات التي عنون بها روايته، وكذلك شخصية زكريا بن راضي، وكلاهما من حاشية السلطان الغوري".  "الزيني بركات"، التي يصفها غويتيسولو بـ"الرواية النبوءة"، قادرة على الانفتاح على نص القمع الأشمل. بطريقته في القراءة الثقافية، الأشمل من التقيد بالنص الأدبي، يربط غويتيسولو حلم الزيني بركات "ببشريةٍ ماهرة في التجسس": "الوشاية السائدة بالجيران، بالمعارف، بالأصدقاء وحتى بالأقرباء القريبين، اكتسبت قيمة أخلاقية في فترة محاكم التفتيش كما في روسيا ستالين".

من الزيني بركات يوسّع غويتيسولو رؤيته للغيطاني في فصل آخر هو "مغامرة جمال الغيطاني الأدبية"، متوقفاً عند تقدير الغيطاني لجمال عبد الناصر رغم أنه ذاق مرارة سجونه: "بصفاء من تعمق في عمل ابن عربي، يطرح السؤال الذي يطرحه كل كائن بشري، سؤالاً يحيط بالحياة الشخصية كما بالحياة الاجتماعية والسياسية، هنا نجد تقديره المكرر لجمال عبد الناصر الذي أعجب به وعانى في الوقت نفسه في سجونه". 

بالمقابل، كانت زنزانة كاتب مثل "محمد شكري" طنجة نفسها، المدينة التي بحصولها على الاستقلال فقدت هويتها من حيث يُفترض العكس. من علاقة شكري ببول بولز، والتي جسدها شكري في روايته "سجين طنجة" يمسك غويتيسولو بطرف سؤال الهوية على شرف مدينة جردت من نزقها بتحررها. إنها أيضاً مفارقة لقاء الشرق والغرب على شرف الأوهام الموروثة والواقع المفارق: "كل من يصل إلى طنجة يريد أن يكون شهريار ويحوّل المدينة إلى شهرزاده". إنها عبارة مفتاحية لشكري نفسه في نصه عن علاقة بولز به وبطنجة معاً، خيط يلتقطه غويتيسولو ليصل لاستخلاصه عن سجن المدينة العربية وقد تحولت لصورة من إرادة "القومية".

قدًم غويتيسولو رؤيته متقافزاً بين محطات الكتاب الست عشرة، بوجدان الرحالة، الوجدان الذي شكَل مسيرته ووسم تصوره للعالم، وربما فعل ذلك أيضاً بوجدان المَنفي، حيث لا توجد الأوطان إلا لنغادرها.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.