}
قراءات

بسّام حجّار ورواية "أزاهير الخراب" لموديانو: أيّ دوافع لترجمتها؟

عمر شبانة

14 أبريل 2018

لماذا ترجم بسّام حجّار رواية "أزاهير الخراب"، للفرنسي باتريك موديانو (حائز نوبل في الأدب، 2014)، التي تتسم بقدر من التعقيد، فضلًا عن غياب حدث رئيس فيها، سوى حادثة انتحار زوجين شابّين، لأسباب غامضة، بعد سهرة أسرفا خلالها في تناول الشراب مع غرباء، وذلك في أبريل 1933؟ (ترك حجّار هذه الترجمة، قبل وفاته، كنصّ مخطوط بخط يده. وصدرت في دار هاشيت أنطوان/ نوفل، نوفمبر 2017).

كان هذا هو السؤال الأول الذي راودني، أثناء قراءة هذه الرواية وبعد الانتهاء منها. سبب التساؤل، بل أسبابه، تتعلّق بمعرفتي، الشخصية والثقافية، بشخصية بسام حجّار الشاعر والمترجم والصحافيّ المتميّز (هي معرفة قصيرة حين كان يرئس القسم الثقافيّ لصحيفة السفير أواخر التسعينيّات)، وقبل ذلك الإنسان المختلف في المشاعر والسلوكيّات أيضًا. لذا، فإنني هنا، في هذا المقال، لن أعرض الرواية، بقدر ما سأحاول أن أعرض علاقة بسّام بالرواية، ودافعه، وربّما أقول بعض دوافعه إلى ترجمتها!

ابتداءً، علينا التعرف إلى مكوّنات تجربة بسّام حجّار (1955- 2009)، المتعددة الأبعاد، ثقافيًّا ونفسيًّا، وحتّى مهنيًّا كما تبدو في تنقّله بين الصحف البيروتية المعروفة، وأقسامها الثقافية، فمن عمق هذه التجربة يأتي نتاج حجّار، ويأتي منسجمًا مع قناعات نظريّة، تدعمها الممارسة. وسواء كان في تجربته الشعرية، أم في ترجماته المتنوعة، فهو كان يمثل "نمطًا" ذا خصوصيّة تظهر في نتاجه. ولعلّ الوقوف على تجربته في ترجمة رواية "أزاهير الخراب"، يقودنا إلى أبرز ما يدفعه إلى ترجمة هذا العمل أو ذاك.

الترجمة و"مديح الخيانة"

إن مفهوم الترجمة عند بسام حجّار، هو ما نجده ماثلًا في عشرات الكتب التي ترجمها. مفهوم يقوم ابتداءً على "الخيانة"، وهو ما يجسّده، ملخّصًا، عنوان كتاب له هو "في مديح الخيانة"، لكنها الخيانة الجميلة التي تعني له، بين ما تعني، الذهاب إلى أبعد حدّ ممكن في "توصيل نصّ الآخر"، بما يسمح بالمزيد من التواصل بين "آخر" و"آخر"، أي بين الشعوب والثقافات والإبداعات في العالم. فهو ليس مجرّد ناقل للنصّ، أدبيًّا كان أم فكريًّا- سياسيًّا واجتماعيًّا، بل لا بد من بروز بَصمته، لُغته تحديدًا، في ما يُترجم.

ثانيًا، وكما عرفنا تجربته الشعرية، منذ كتابه الأول "مشاغل رجل هادئ" (1980)، هذه التجربة التي تميل إلى البسيط والعاديّ، وهي خالية من الشعارات والقضايا "الكبرى"، فإنّ اختياراته للترجمة (بورخيس، سالينجر، مارتن هايدغر، ياسوناري كاواباتا، جان أشينوز، إيتالو كالفينو، جان بودريار، الطاهر بن جلون، وغيرها من الأسماء، وآخرها موديانو)، هي اختيارات وترجمات مطبوعة بالطابع ذاته، أي أنه لا يذهب إلى العناوين والقضايا "الكبرى"، وإن كانت هذه الترجمات لا تخلو من إشارات إلى قضايا كبيرة، لكن هذه القضايا ليست مركزًا في ما يختار ترجمته، وهذا ما يبدو في ترجمته "أزاهير الخراب" لموديانو، حيث البؤرة هي حادثة الانتحار، أو ما يسمّيه في داخل الرواية "حفلة العربدة المأسوية"، لكن هذا لا يمنع التطرق، وبعمق، للاحتلال الألماني لباريس، وثورة الفرنسيين على هذا الاحتلال حتى التحرير.

وفي خصوص "قيمة" ما يترجم حجّار، ونسبة إلى الأسماء التي يترجم لها، يلفت الانتباه والاهتمام معًا، أن خياراته ليست مقيّدة بالأسماء الكبيرة أو التجارب الشهيرة، بل إنّ ما يهمّه هو اكتشاف "عوالم" جديدة ذات أبعاد متميزة ومختلفة إنسانيًّا. وكما يقول أحد من كتبوا عنه وعن ترجماته واختياراته فإنّ ترجمته لـ"رواية بوليسية لجورج سيمنون تحتل الأهمية نفسها التي احتلتها ترجمة بسام حجار لمارتن هيدغر مثلاً، وترجمة رواية سليم تركية عن أم كلثوم لا تقل أهمية عن ترجمته لرواية نورمان مايلر عن مارلين مونرو، ورواية مطبخ لبنانا يوشيموتو، وهو كتاب صغير بكل معنى الكلمة، وعن رواية باودويلنو لكاتب فيلسوف من وزن أومبرتو إيكو..".

وهكذا فإن مفهوم الترجمة وفلسفتها لدى بسام حجار، يمكن استخلاصهما من خلال ترجمته نصًّا للفرنسي بول ريكور عن الترجمة ذاتها، حيث يكتب ريكور إن "الترجمة هي التوسّط بين تعدّد الثقافات وواحدية الإنسانية. لذا سأتحدّث عن معجزة الترجمة وعن قيمة الترجمات الرمزية، فأقول إنّ الترجمة هي ردّ على ظاهرة التعدّد الإنساني الذي لا يدحض بكلّ أوجه تبعثره والتباسه، مجسّدةً بأسطورة بابل. نحن في عصر ما بعد بابل".

حجّار وموديانو

والعلاقة بالمكان

عودة إلى عوالم بسّام حجّار وما يجمعه بخياراته للترجمة عمومًا، وبترجمة "أزاهير الخراب" خصوصًا، وكما سلف القول أعلاه، فإن تشابُهات بين عوالم حجّار ورواية موديانو هذه، ومن ثم بين حجّار وموديانو نفسه، هي وراء ترجمته لهذه الرواية. فما هي هذه التشابهات؟

في ما يتعلّق بعالم حجّار، بل عوالمه، فهي تبدأ من درس الفلسفة الأول، وتتميز بقدر من القلق، والدقة في كلّ شيء، وعزلة الزاهد المتصوّف، وشغف الإنسان الباحث عن الحقيقة، والرغبة في الاكتشاف والمعرفة، وبأسلوب يقارب الأسلوب البوليسيّ الناعم. هذه الملامح قريبة من شخصية بطل رواية "أزاهير الخراب". فمنذ البداية، يضعنا موديانو أمام شخص يصطدم بحالة انتحار لزوجين، هذه الحالة التي تجعله مسكونًا بها وبمعرفة ما وراءها، والغوص في العالم المحيط بها، وصولًا إلى الحقيقة التي لن يصل إليها، وبدلًا من ذلك يتوصّل بحقائق وتفاصيل صغيرة، متخيلة وواقعية، لكنها ذات صلة بالمجتمع بفئاته وشرائحه.

خلال رحلة بحثه عن حقيقة ما يسمّيه في داخل الرواية "حفلة العربدة المأسوية"، يجوب "بطل" الرواية عوالم ومعالم باريسية لا تحصى، ويجول بين المقاهي والحانات والفنادق والقصور والنساء والمجانين، مقدّمًا صورًا للمدينة الباهرة ما بين ثلاثينيّات القرن العشرين وسبعينيّاته، صورًا تحيل على مناخات ثقافية واقتصادية واجتماعية وسياسية موغلة في العمق، فضلًا عن التحولات السلبية التي حاقت بالمدينة، فاختفت الكثير من معالمها الجميلة والإيجابية، وحلّت في مكانها معالم التشويه والبشاعة التي تنطوي عليها رأسمالية جائرة. لا تحترم الإنسان. فالبحث عن "الغرباء" الذين سهروا مع الزوجين في تلك الليلة، يتحوّل إلى بحث في تاريخ المدينة وذاكرتها وذاكرة الإنسان فيها.

أقول ذاكرة الإنسان، لأن هذه الذاكرة، بالنسبة إلى "بطل" الرواية، وربما بالنسبة إلى مؤلّفها موديانو، هي "رأسماله" الذي يحتفظ به ولا يريد التخلّي عنه، ويُصاب بالصدمة وهو يكتشف تحوّلات المكان ما بين الثلاثينيّات والسبعينيّات. فالذاكرة والجذور هما أبرز مكوّنات ما أسماه النقاد بـ"الموديانية"، حيث "البطل" فى أعماله عمومًا، يبحث دائمًا عن جذوره، هذه الجذور الموزّعة بين فرنسا وأوروبا وأفريقيا، الأمر الذي يتيح له إقامة علاقات غريبة بين أماكن كثيرة ينتمي إليها شخوصه.. لذلك يظل مشدودًا إلى "المكان الأول"، رافضًا المكان الجديد وتحوّلاته.

هذا الملمح البارز في الرواية، والذي يعطيها نكهتها "المكانيّة" عبر الزمن، ربّما يذكّرني، أنا القارئ لعوالم بسّام حجّار ولشخصيّته، يذكّرني بأبرز ملامح هذا الشاعر/ المترجم، ومدى ارتباطه بمكان معين، مكان يشكل له "خزّان" ذاكرة، وجذرًا من جذور تكوينه. مكان هو قريته في الجنوب اللبناني، قرية لا يلبث أن يغادرها حتى يعود إليها. هذا من جانب، ومن جانب آخر، يعلم أصدقاء بسّام حجّار ومن يعرفونه كم كانت علاقته بمدينة بيروت ملتبسة، بل تقوم على التنافر، وكم كان يشعر فيها بالغربة، خصوصًا مع التحوّلات التي أصابت الكثير من ملامحها بالتشويه. لقد كنت، وأنا أقرأ رواية موديانو هذه، بترجمة بسّام حجّار، وأتابع الأمكنة والشخوص، أتخيّل حجّار ورؤيته إلى بيروت. فهل هذا الملمح هو دافع آخر من دوافع حجّار لترجمة الرواية؟ هل رأى التشابه بين باريس وبيروت في تحوّلاتهما؟ وهل يجوز لنا، نحن قرّاء الرواية، عقد المقارنة بين باريس وبيروت، ومن ثمّ بين بسّام حجّار وموديانو، على هذا المستوى تحديدًا، مستوى العلاقة بالمكان ما بين زمنين؟

أميل إلى أن هذه المقارنة جائزة. وأن ما ذكرته ليس سوى بعض الدوافع وراء هذه الترجمة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.