}
عروض

عن صوت أم كلثوم وصورتها.. مذكرات الآنسة

هشام أصلان

5 مارس 2018

في 25 يناير 1960، اصطفت الجماهير في الشوارع المحيطة بإحدى المحاكم المصرية. كان القاضي عبد الغفار حسني حدد ذلك اليوم واستدعى خصمين من نوع خاص، وفي داخله عزم على غلق القضية الممتدة منذ 9 سنوات، معتبرًا أن تلك خصومة أصابت الفن في مصر بخسارة فادحة.

وصلت أم كلثوم إلى غرفة المحاكمة بصعوبة بالغة. كان بالداخل خصمها في القضية الشيخ زكريا أحمد. تحدث القاضي ثلاث ساعات كاملة حول فداحة الخسارة الفنية التي تسبب فيها هذا الخلاف بين اثنين من أهم صناع الموسيقى والغناء في العالم العربي. تأثر الشيخ زكريا، وقال كلامًا حول عبثية استمراره في خصومة مع مطربة يضعها "في قمة التقدير، والفنانة الأعز لدى عشاق الأغنية العربية". في المقابل قالت كوكب الشرق ما يشير إلى تمنيها أن تكون هذه السنوات التسع "سحابة صيف". وحسم القاضي المسألة بالحكم: "يلحن الشيخ زكريا ثلاثة ألحان لأم كلثوم مقابل أن تدفع له 700 جنيه عن كل لحن". في اليوم التالي سيتصدر خبر الصُلح صفحات الجرائد المصرية. وتنفيذًا لحكم القضاء، لحن الشيخ زكريا أغنية "هو صحيح الهوى غلاب". ومات قبل تنفيذ باقي الحكم بتلحين أغنيتين أخريين.

الحكاية وحكايات أخرى يسردها، بتفاصيل أكثر، الكاتب الصحافي المصري محمد شعير في مقدمة طويلة شيّقة لكتاب "مذكرات الآنسة أم كلثوم". أعده وصدر حديثًا عن سلسلة "كتاب اليوم بمؤسسة الأخبار" بمناسبة ذكراها الـ43، بينما خصصّ الفصل الثالث من الكتاب لوثائق هذه القضية التي هي معركة "بين أهم عقلين موسيقيين في مصر: المطربة والملحن، الصوت والنغم، التلميذة والأستاذ"، فيما ضمّ الفصل الأول المذكرات، والفصل الثاني عددًا من المقالات المتناولة للشأن العام بقلم كوكب الشرق.

"مذكرات الآنسة أم كلثوم" ليس فقط عنوان الكتاب، ولكن عنوان الحلقات التي نشرتها مجلة آخر ساعة بين نوفمبر 1937 ويناير 1938، والتي احتواها الفصل الأول من الكتاب. وهو عنوان ملائم لهذه الحالة المغايرة بشكل كبير لما اعتدناه من أدب السيرة الذاتية أو المذكرات. ذلك أن بطلتها لم تنشرها وهي في أواخر العمر وسقف التحقق الفني، ولكن في شبابها، وربما ليست مبالغة لو قلنا في بدايات التحقق. كانت لا تزال على حافة الشهرة الكبيرة. من هنا تغيّر عنوان الحلقات عند الحلقة الثانية ليصير "ذكريات لا مذكرات".

أنت أمام وجه لسيرة بدايات الآنسة، لم يتعرض، وفق مقدمة المذكرات الموقعة بالحرف الأول من اسم محررها الأصلي، سوى لما "يشرف مطربتنا الشابة، ويرفع شأنها في العيون"!

تقول حكاية شهيرة، إن مسؤولي الإذاعة المصرية بعد يوليو 1952، منعوا أغاني أم كلثوم بحجة أنها كانت من المطربين الموالين للملك فاروق، وأن عبد الناصر عندما سمع بهذا الأمر أبدى استياءه من القرار وألغاه موبخًا مسؤولي الإذاعة بأن هؤلاء المعترضين عليهم هدم الأهرامات لأنها كانت "موجودة أيام الملك". ثم صارت العلاقة شديدة الود والخصوصية بين ناصر وأم كلثوم. والتاريخ المصري تملأه أوراق تتحدث عما قدمته بصوتها ونجوميتها لدولة يوليو ومجهودها الحربي.

وإن كان التاريخ يغفر للمواهب الكبيرة هفواتها السياسية، فأم كلثوم ربما من الجالسين على عرش غفران التاريخ عمومًا. هذه سيدة تفعل ما تريد، غير أنك لن تستطيع منع شيء الاستغراب والضحك وأنت ترى تجليًا للمبالغة في مجاملة أي حاكم والتناقض في الرؤية السياسية، ما يأتي ضمن ألطف فصول الكتاب، وأكثرها تسلية، وهو فصل مقالات سومة في الشأن العام. لا مزايدة على احتفاء "الست" بليلة غنائها أمام ملك مصر، ولا تشكيك في صدقها حول تقديسها عبد الناصر، شأن نخبة وعموم المصريين في ذلك الوقت، إلا أنها تلك اللغة غير الخجولة من ناحية، والضمير المرتاح في وصل رثاء عبد الناصر والاحتفاء بالسادات، في الوقت ذاته، من ناحية أخرى!

ـ جريدة أخبار اليوم، نوفمبر 1944:

"وهناك ليلة في عمري لا أنساها، تختلف عن كل ليالي حياتي، ليلة أن غنيت في النادي الأهلي، وكانت ليلة العيد وأقبل الملك فاروق.. أحسست عندئذ أن في قلبي عيدا سعيدا، وأن في قلبي موسيقى تعزف بأعذب الألحان! وأحسست في الوقت نفسه برهبة وخوف. وحرت ماذا أغني في حضرة الملك؟".

ـ مجلة الهلال، اكتوبر 1971:

"لم أكن أدري ما يخبئ القدر وأنا في موسكو إلا حين أيقظني ابن أختي وهو يجاهد نفسه، ليتلمس الوسيلة التي يقول لي بها إن عبد الناصر قد ذهب إلى لقاء الله، وأن مصر قد فجعت في أعز ما تملكه. ورحت أصرخ: مصر، وطني، بلدي، المعركة، ما المصير؟ وعدت من موسكو دن أن أغني. وعدت أسائل نفسي: هل أستسلم ليأس ثان كيأس النكسة؟ أو بنفس الإيمان الراسخ في أعماقي. الإيمان الذي تعلمته من عبد الناصر، أطرح اليأس وراء ظهري، وأمضي في طريقي أغني للنصر حتى يوم النصر؟ ومرت الأيام، وتمثل لطف الله في قضائه، في شخص ذلك المجاهد الشريف، الرئيس أنور السادات، الذي كان ضمادًا كبيرًا للجرح الكبير، وامتدادًا رائعًا لروح ناصر التي لن تموت"!

وأنت، على ما سبق، لطالما قرأت وسمعت عن سيدة تحمل، ضمن ما تحمله من مواهب، توليفة نادرة من اللماحية والذكاء وخفة الظل، غير أنها على ما يبدو حملت معها شيئاً من وعي النشأة البسيط في التعبير عن النفس. تقول:

"غنيت وأنا طفلة صغيرة، لا أعرف من أمور الدنيا إلا ما يعرفه الأطفال! غنيت وأنا لا أشعر بما أقول، ولا أحس بحلاوة النغم في فمي. ولا أعرف بهزة الطرب في قلبي، وكنت إذا صفق الناس عجبت، وساءلت نفسي لماذا يصفقون؟!".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.