}
عروض

"المواطن والرعية": استبداد لا مركزي

ياسر غريب

13 مارس 2018

مع نهاية الحرب الباردة تبلورت نزعة عرفت باسم "التشاؤمية الأفريقية"، تتمحور حول الشك العميق في قدرة القارة المنكوبة على التجدد من داخلها، ولعل النزوع إلى ذلك التشاؤم يعود إلى العجز عن إدراك طبيعة الخبرة الاستعمارية في أفريقيا، ومن ثم تجاهل نمط التغلغل الاستعماري في بنيتها الاجتماعية والسياسية.

وفي كتابه "المواطن والرعية: أفريقيا المعاصرة وتراث الكولونيالية المتأخرة" يقدم البروفيسور ممدوح ممداني رصداً جرئياً وعميقاً ومناقشاً لأهم العقبات التي اعترضت طريق التحديث والديمقراطية في أفريقيا بعد الاستقلال، وذلك عبر تحليله لطبيعة سلطة الدولة الاستعمارية، وما أفرزته من ثقافات أدت إلى نظام سياسي ذي بنية ثنائية.

والمؤلف أكاديمي أوغندي، ينتمي إلى عائلة هندية هاجرت إلى أفريقيا. كان ممداني مهموماً بقضية الاستقلال الوطني، وقد عانى بسبب أفكاره وأصوله العرقية في أيام "عيدي أمين"، فأُبعد من بلاده ولم يرجع إلى كمبالا إلا بعد الإطاحة بالديكتاتور. ويعمل ممداني حالياً أستاذاً للحكومات والأنثروبولوجيا بجامعة كولومبيا الأميركية. وله العديد من الكتب المترجمة إلى العربية مثل "المسلم الصالح والمسلم الطالح" و"الحركات الاجتماعية في إفريقيا" و"دارفور: منقذون وناجون". وأما كتابه هذا "المواطن والرعية" فقد فازت نسخته الإنكليزية بجائزة هيرسكوفيتز باعتباره واحداً من أحسن مائة كتاب في القرن العشرين.

يقع الكتاب في ثمانية فصول على قسمين، يقع القسم الأول "بنية الدولة" في خمسة فصول. هي: "التفكير من خلال المأزق الأفريقي"، وهو الفصل التمهيدي، ثم "الاستبداد اللامركزي"، "سياسات الاستبداد المركزي"، "نظرية الاستبداد المركزي"، "السلطة الأهلية والفلاحون الأحرار". أما القسم الثاني "تشريح المقاومة" فيقع في ثلاثة فصول هي "الوجه الآخر للقبلية- الحركات الفلاحية في إفريقيا المدارية" و"الريفي في الحضري- العمال المهاجرون في جنوب إفريقيا" و"ربط الحضري بالريفي".


الحالة المعقدة

في الفصل الافتتاحي يؤكد المؤلف أن فكرة الإصلاح الديمقراطي في أفريقيا تبدو أكثر تعقيداً من أن تعالجها النقاشات المحتدمة بين تيارين عريضين. أحدهما التيار الحداثي الذي يستمد أفكاره من انتفاضات أوروبا الشرقية في أواخر الثمانينيات. والاتجاه الجماعي الذي ينتقد بشدة نزعة المركزية الأوروبية، سواء في صيغتها الليبرالية أو اليسارية، مطالباً بالعودة إلى الأصول.

وإن كلا الجانبين، وفقاً للمؤلف، يبرز جوانب مختلفة من المأزق الأفريقي، ولذلك فهو يقترح تجاوز المأزق عبر رفض التيارين معاً، والوصول إلى تركيب مبدع بين معطيات الفريقين، يكون قادراً على تجاوزهما، واستيعاب ما يثيرانه من قضايا في آنٍ واحد. وهو الأمر الذي دفعه إلى تحليل ظاهرتين مرتبطتين معاً. الأولى: كيف يجري تنظيم السلطة؟ والثانية: كيف تتجه السلطة إلى تجزئة المقاومة في أفريقيا المعاصرة؟


مواطنون ورعايا

شغل نموذج الفصل العنصري في جنوب أفريقا حيزاً كبيراً من معالجات الكتاب، وكان التمييز بين "المواطن" و"الرعية" أحد موضوعاته الجوهرية، حين قام ممداني بوضع حالة جنوب أفريقيا في الإطار التحليلي الأفريقى العام للاستعمار وما بعده، وهو اهتمام مميز بعد أن كانت جميع الدراسات تنأى بحالة جنوب أفريقيا باعتبارها استثناء. والمواطن المقصود هو الابن الأبيض لمجتمع الفصل العنصري الذي استوطن مُدن الأبارتهايد، أما الرعايا فهم بقية الأفارقة الذين تم تهميشهم وتوظيفهم لتحقيق مصالح النخبة البيضاء.

لقد سعى المستوطنون إلى السيطرة على مقدرات جنوب أفريقيا وفق النمط الذي خلقه الاستعمار أصلاً، حين ابتكر نموذج النظام الثنائي المكون للمجتمع المدني التحديثى مع الأيديولوجيا العرقية والقبلية، حيث ستكون المدينة ومجتمعها المدني الديمقراطي والليبرالي ملكاً للمواطنين، بينما سيبقى الريف موطناً للرعايا، وهناك ستكون عملية إقصائهم، الأمر الذي أنتج قانوناً عرقياً وقبلياً موازياً لدى الأفريقي الأصلي زاد من نمط عزلته.


أرض الطفولة

يذكر ممداني أنّ المستعمرين البيض بذلوا جهوداً مضنية لتبرير فلسفتهم العنصرية التي استعبدوا من خلالها أوروبا. كان من بينها التأسيس لنظرية تدعي بأن العنصر الأفريقي يمتاز بنمط إنساني عجيب جداً، ومن ثم فإنه يحتاج لطريقة خاصة في التعامل معه، معتمدين على أسطورة السذاجة الأفريقية التي وجد فيها العقل الأوروبي ما يهدّئ من روع ضميره المتحضر الذي تربى على مبادئ الحرية والعدل والمساواة، وأخذ يتغنى بها منذ الثورة الفرنسية!

وصف هيغل (1770-1831) القارة السمراء في كتابه "فلسفة التاريخ" بأنها "أرض الطفولة". وتوغل هذا المفهوم في النفس الاستعمارية وفي لغتها لدرجة حتى إنّ المستوطنين في المستعمرات البريطانية والفرنسية كانوا ينادون أيّ ذكر أفريقي بلفظ "صبي"، بغض النظر عن عمره!

وكان جان سموتس (1870-1950) الذي شغل رئيس وزراء جنوب أفريقيا، وأحد أوائل الدعاة إلى فكرة الفصل العنصري يقول: "ظل الأفريقي إلى درجة كبيرة طفلاً، محافظاً على النمط الطفولي بتكوينه النفسي ونظرته للأشياء". أما "البيرت شوترز" (1875-1965)، وهو طبيب وفيلسوف ألماني عاش في الغابون زمناً طويلاً وحصل على جائزة نوبل في السلام سنة 1950؛ فقال: "إن الزنجي طفل، ومع الأطفال لا يمكننا أن نفعل أي شيء دونما سلطة".

ويعلق المؤلف على مصير الأفريقي المعلق في يد الرجل الأبيض بأن العقل الاستعماري لم يكن يعتقد أن الأفارقةَ أطفالٌ عاديون، إذ إن هؤلاء الأطفال مقدرٌ لهم أن يظلوا أطفالاً إلى الأبد، ووفقاً لتعبير المؤرخ البريطاني "كريستوفر فايفي" (1929-2008) فإنهم أطفال "بيتر بان" الذين لا يكبرون أبداً لأنهم بالضبط سلالة طفولية!

بنية السلطة

لفهم خصوصية السيطرة الاستعمارية؛ يتعين علينا وضع تلك السيطرة في سياق خبرة الاستعمار الأوروبي الأكثر اتساعاً، والتي تكشف، في الفصل الثاني، كيف انتقلت من الحماسة لرسالة التحضر إلى الانشغال المدروس بالسيطرة على السلطة، ومن السعي لتجديد شباب المجتمع وبعثه إلى المحافظة عليه، ومن لعب دور حملة مشاعل الحرية الفردية إلى التحول لدور الرعاة الحماة لسلامة الوجود العرفي للقبائل السائدة ووحدته. وهذا التحول يمكن رصده في المستعمرات الأوروبية القديمة، وعلى الأخص مستعمرات الهند والهند الصينية، لكن دروسه شهدت تطبيقها التام في أفريقيا آخر ممتلكات أوروبا الاستعمارية.

وجاء الفصل الثالث ليتتبع التاريخ السياسي للحكم غير المباشر، من أول تكوينه في أفريقيا الاستوائية حتى اكتماله في جنوب أفريقيا. وكيف قام البريطانيون، باعتبارهم رواد تأسيس الدولة الاستعمارية، بالتنظير لتلك الدولة بوصفها كياناً ثقافياً أكثر من كونها كياناً إقليمياً.


استبداد لا مركزي

ناقش الفصل الرابع كيف تشكلت ثنائية السلطة عبر التمكين للثنائية القانونية، إذ وضع القانون الوارد من الخارج إلى جوار القانون العرفي الذي هو عبارة عن مجموعات كثيرة من القوانين القبلية، إذ دعمت السلطات الاستعمارية فكرة أن لكل قبيلة أو جماعة قانونها المميز، وهو في الغالب قانون غير مدوّن، يقوم بتنفيذه السلطة الأهلية التي تتشكل على عين المستعمر وبأمره. ولما كان مصدر القانون هو نفسه السلطة التي تطبقه؛ لم يكن من الممكن أن يكون هناك حكم للقانون، وهو ما يُطلق عليه المؤلف: الاستبداد اللا مركزي!

أما الفصل الخامس فيتناول العلاقة الأساسية داخل الاستبداد اللا مركزي، المتمثلة في العلاقة بين الفلاحين الأحرار والسلطة الأهلية. حيث شكّلت السلطة الأهلية المكونة من تراتبية الرؤساء الذراع اللا مركزي للدولة الاستعمارية. فكان نظام السلطة الأهلية نظام إكراه غير اقتصادي، يمكن من خلاله على نحو ما تجنيد الفلاح الحر المالك لحق الاستخدام العرفي للأرض وإجباره على العمل والزراعة. وربما يتطور الأمر إلى استعباد الرعايا وفرض الإتاوات وما يُستجد من تكليفات الحكومة العنصرية.

وعلى سبيل المثال: "في فترة السيطرة الألمانية كان الرؤساء في تنجانيقا يجمعون الإتاواة عبر أشكال مختلفة، من العمل والماشية إلى اللحم والجعة، إضافة إلى ما كان مطلوباً من الفلاح أن يؤديه إلى الحكومة... وكان رئيس السلطة الأهلية يحصل على سبعة أضعاف ما تحصل عليه الحكومة الاستعمارية في الوقت ذاته"!!

وقصد المؤلف في القسم الأول من الكتاب (من الفصل الثالث للخامس) تسليط الضوء على الثلاثية المؤسسية التي كان النظام الاستعماري الحاكم يعمل من خلالها؛ وهي: اندماج السلطة، وفكرة القانون العرفي الموجه إدارياً، وسلسلة السياسات الإكراهية غير الاقتصادية، حيث انتهى كل فصل بمناقشة محاولات الإصلاح بعد الاستقلال وتقييم مساراتها.

أما القسم الثاني من الكتاب فقد استكشف، في فصلين، متغيرات حركات المعارضة المنبثقة من رحم الدولة الثنائية، معتمداً على نموذجين إرشاديين هما أوغندا وجنوب أفريقيا. أما الفصل الختامي فكان محاولة للتأمل في الأساليب التي حاولت من خلالها المعارضة ودول ما بعد الاستقلال التعايش والتعامل مع التوترات التي اتجه هيكل السلطة إلى إعادة إنتاجها في الجسد الاجتماعي. لافتاً إلى أن مرحلة الاستقلال توافقت مع التراث الاستعماري ولم تنج من فلسفته؛ إذ لم تستطع الولوج إلى المسار الديمقراطي، حين ورثت الدول الأفريقية المستقلة فكرة الاستبداد، لكنه كان استبداداً غير عنصري ولا مركزي.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.