}
عروض

"خيبة يوسف": في البحث عن الهويّة

نازك بدير

20 فبراير 2018
حفرت الحرب عميقًا في ذاكرة اللبنانيين التي وإن سكتت مدافعها وطائراتها، إلّا أنّ بصماتها لا تزال حاضرة بقوّة في وعيهم وفي لا وعيهم، هي تشكّل مساحة كبيرة من ذاكرتهم. واقعهم المشوّه الذي يعيشونه اليوم هو صنيعة الأمس، واقع ممزّق بما يتناسب ومصالح الزّعماء. الضّحايا كانوا، وسيبقون، المواطنين المتذللين على أبواب أصحاب النّفوذ. المأساة التي يرويها فوزي ذبيان في روايته" خيبة يوسف"(دار الآداب_2018) لا تمثّل النّهاية الأليمة ليوسف فحسب، إنّما هو نموذج للشّاب اللبناني الذي اغتيل مستقبله على مرأى من ممثّل الشّعب، الذي حضر إلى المستشفى ليسمع التهنئة" رحلْنا شهيد". هل عاش يوسف حياته كما اشتهى؟ هل أتيح له أن يكون الشاب اليافع الذي يحلم كما كلّ الشّباب؟

يتولّى الرّاوي(فوزي) استرجاع يوميّاته، وتفاصيل حياته مع صديقه المقرّب يوسف، القادم مع عائلته من حاصبيا ليقطنوا منزلا متهالكًا في خلدة التي شكّلت مع شاطئها( وفندقي الميرادور واللونغ بيتش) والشويفات الدائرة الأبرز لأحداث الرواية.

"خيبة يوسف" حكاية شابّين يافعين تجمعهما خيوط ودّ وأخوّة، وفي المقابل، لكلّ منهما جوانب غامضة لا يعرفها الآخر؛ لم يكشف فوزي شيئًا عن حياته العائليّة، بينما قدّم لنا، في أكثر من مشهد، عائلة يوسف.

أمّا يوسف نفسه، فأصبح، مع مرور الوقت، شخصًا تكتنفه الضبابية ولا سيّما منذ أن تعرّف إلى عالم السلاح. هو نموذج الشاب الذي ظنّ أنّ الخلاص في القوّة، في السلطة، في المال، فإذا به يتحوّل من طالب إلى تاجر مخدرات. في حين يتابع فوزي، الملقّب بأفلاطون، دراستة الفلسفة في الجامعة اللبنانية.

تكاد الرواية تقارب، في كثير من فصولها، ما تجرّعه اللبنانيّون من فقر، وإهمال، وبؤس. يسيطر المسلّحون على مسرح القصّ. يروي فوزي أخبار يوسف، ومن التفّ حوله(أشخاص مشبوهون )

أمّا بالنّسبة إلى المرأة في الرواية، فثمة نموذجان لها: تمثّل النموذج الأوّل بوالدة يوسف، المرأة المستضعفة، المنكسرة أمام عنفوان ابنها، وتسلّط زوجها. واخُتزِل النموذج الثّاني للمرأة في حيّز الجسد. فلقد ظهرت على شكل أداة غايتها إشباع غريزة الرجل. ولعلّ متابعة السرد والحوار على ألسنة معظم الشخصيّات تكشف النّظرة الدّونية إليها. يوسف الذي كاد يجنّ من الفتاة التي تركته لم يكن ليعبّر عن مشاعر اتّجاهها، وكأنّ تجارة المخدّرات والسلاح اقتلعتا قلبه، وحوّلتاه كائنًا مختلفًا في السّلوك والأقعال والأقوال، فما أغضبه أنّ شخصًا آخر ينافسه عليها.

أفسح الكاتب للشخصيّات حريّة القول، فجاء الكلام عفويًّا من دون أدنى تكلّف، وهو يقترب من لغة الحياة اليوميّة. وكأنّ اللغة تقول إنّ خيبة يوسف لم تكن خيبته هو، إنّما هي خيبة عدد كبير ممن عاشوا صراعات كانوا في غنى عنها، ودخلوا في أتون الحروب المذهبيّة والطائفيّة. يوسف هو كلّ شابّ خسر حياته ومستقبله وأحلامه، وقضى برصاصات، هناك...

استطاع الكاتب أن ينتقل بين شخصيّاته التي أتاح لها الكلام( فوزي، يوسف، أبو إيلي) تمثل كلّ منها دائرة من حيث أطباعها وسلوكها. وكأنّ يوسف هو القوة الجاذبة لها جميعًا، وفي الآن نفسه هو مزيج من التناقضات.

هذه الشخصيّات هي وليدة مجتمع عايش الاغتيالات والقتل والتفجير، نقمت على نفسها، وعلى المحيط الذي نشأت فيه، فإذا بها عاجزة عن التّصالح مع نفسها من جهة، وعن التّأقلم مع الواقع الذي شبّت فيه من جهة ثانية. في تمرُّد يوسف نوع من المغامرة المحفوفة بالطّيش، سلك الطّريق الأقصر، أو الذي ظنّه الأسرع، فكان مصيره الموت.

نخلص إلى القول، إنّ صورة الشّخصيّة الأساسيّة لم يتمّ كشفها بشكل تقليدي تراكمي، إنّما أتت مرتبطة بالتّفتيت، وكلّ حدث في النّصّ، وظهور أيّ شخصيّة، كان بمثابة جزئيّات أسهمت في بناء صورة شبه كاملة عن شخصيّة يوسف الخائب التي من المفترض أن يكون يوسف قد كتبها، لكن يبدو، كما يقول، إنّه كتب قصّته هو، لا بل" قصّة الخلْق، أو قصّة الولادة والموت، أو قصّة الحرب التي لا تنتهي"(ص.107) ولن تنتهي في ما تبقّى من حطام العالم العربي.

                                                                        

                                                            

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.