}
عروض

رحلة البحث عن الموسيقار الفلسطيني محمّد غازي روائيّاً

عمر شبانة

21 فبراير 2018

 

"الكتابةُ ليست إلّا حلمًا موجَّهًا" (بورخيس)

بهذه العبارة، يختتم الكاتب محمد جميل خضر روايته "يافا.. بونيس آيريس.. يافا"، فهي، رغم تركيزها على شخصية الموسيقار محمّد غازي (المولود في قرية بيت دجن، قضاء يافا، في العام 1922)، تعبّر عن حلم موجَّه أراده "رسالة" تقول الكثير في هذا الوقت الذي يشهد الكثير من المستجدّات في "الساحات" العربية والعالمية.

ومستفيدًا من تجربته في السرد (القصصي)، وفي الإعلام الثقافيّ، الصحافة والتلفزيون، ومن قراءاته وكتاباته وتقاريره الصحافية والتلفزيونية، يدخل الكاتب محمّد جميل خضر مغامرة السرد الروائي هذه المرّة، وعبر مدخل واسع وعريض يتعلّق بهجرة الفلسطينيين إلى دول أميركا الجنوبية (البرازيل، تشيلي، الأورغواي، البيرو، الأكوادور، والأرجنتين بصورة أساسية)، هذه الهجرة التي بدأت في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، العام 1882، ولأسباب ستتّضح أثناء قراءتنا لهذه الرواية..

الرواية الموزّعة على فصول متفاوتة الحجم، وبحكم تجربة مؤلّفها، تجمع بين السرد الواقعيّ، وبين ما يقارب التقرير الصحفيّ الإخباريّ والبانوراميّ، لكنّها تحفل بلغة تحاكي الشعر والأداء الرومانسيّ الذي يمكن أن يحفل به عمل تلفزيونيّ ذو مستوى عالٍ. كما يحشد المؤلّف لعمله مجموعة من الوثائق والمصادر، المكتوبة والشفاهية، يذكرها داخل النص بأساليب سردية عدة.

رواية محمّد جميل خضر "يافا.. بونيس آيريس.. يافا"، الصادرة حديثًا في (دار جليس الزمان، عمّان 2018، جاءت في 510 صفحات قطع وسط)، هي رحلة وأحلام بدري صبري محمّد غازي، إلى الأرجنتين، للالتحاق بوالده الذي سبقه إلى هناك مع أصدقاء فلسطينيين آخرين، وسنعرف منهم، في الرواية، أقرب المقربين إلى بدري، بدءًا بوالده (صبري)، ثم صديقه بطرس يعقوب، حفيد بطرس الراعي، ابن الناصرة الذي هاجر إلى بيت لحم عام 1948، قبل أن يغدو أحد أوائل الهابطين في أرض الملاذ اللاتينية هرباً من حروب العثمانيين وشبح "السفر برلك". وستكون رحلة بدري محور قراءتنا في رواية خضر هذه.

 

العُود وقضيّة العَودة

منذ الآن، يجدر الحديث عن بدري "بطل" هذا العمل، بوصفه حفيد الموسيقار الفلسطينيّ الشهير، بل الأشهر، محمّد غازي، أو محمّد عبد العزيز أبو شاويش كما هو اسمه الحقيقيّ، وأقول الأشهر لأنه، كما تقدّمه رواية خضر دائمًا، من ألمع من عمل مع الرحابنة وفيروز في مرحلة التأسيس لما يُعرف بظاهرة "فيروز والرحابنة". وسيكون محمّد غازي هذا، مع صديقه صبري الشريف ابن يافا، هو صاحب مجموعة من الأغاني/ الموشّحات التي اشتُهرت فيروز بها، وكان يُعتقد، خطأً، أنها للفنان محمّد خيري، وتُورد رواية خضر عناوين عدد من هذه الموشّحات، مثل: "يا شادي الألحان"، "اسْقِ العطاش"، "يا وحيد الغيد"، "حجبوها عن الديار"، و "يا غصن نقا"، وغيرها مئات الموشّحات والأدوار والأغاني.

هذا الموسيقار "العملاق"، سيكون أحد أبطال الرواية، على نحو ما، ومن خلال قصّة العود الذي صنعه له خصّيصًا الفنّان وصانع الأعواد العراقي محمّد فاضل، وأهداه له أثناء رحلة قام بها إلى بغداد، ونقش عليه الحرف الأوّل من اسمه (م)، مترافقًا مع حرف (الثاء)، وهو الأول من اسم فنّانة فلسطينيّة كانت معروفة بعلاقتها معه وتدعى ثريّا. ففي "الحكاية"، أن محمّد غازي هاجر من فلسطين عام 1948 تاركًا العود مع ثريّا هذه، ثم اختفى العود باختفائها، ويصبح العود هو مركز الرواية، والبحث عنه هو السبب وراء ترحال بدري (هل هو شخصية واقعية؟!) من الأرجنتين إلى أميركا، مرورًا ببيروت وعمّان وحيفا، حيث تحضر هذه الأمكنة على نحو واسع في الرواية، فضلًا عن حضور "المكان" الأميركيّ الجنوبيّ بالطبع". وهو حين يعثر على العود مع تاجر "أثريّات/ أنتيكا" هولندي، ويشتريه بثمن باهظ، يعود إلى الأرجنتين، لكنّ الرواية تنتهي به في طائرة تهبط في مطار "اللدّ"، كما يصرّ الراوي/ المؤلّف، لا مطار تل أبيب.

العود المفقود الذي من أجله يجوب بدري عددًا من الدول، ويشكّل هنا أحد "أبطال" الرواية، لا يمكن أن يكون مجرّد عود، ففي غير موقع من الرواية يتمّ تحميله صفاتٍ ترتقي به إلى مصاف "الفردوس المفقود"، خصوصًا في وصية صبري التي حملها عن والده ونقلها قبل وفاته إلى ابنه بدري، الوصية التي تظل حاضرة طوال رحلة بدري، لتجعل من "عودة" العود إلى ورثة صاحبه الأول "قضية" القضايا، بكل ما تحمله "قضية العودة" من تمثيلات رمزية للفلسطيني. وهكذا فإن قضية العود/ العودة -ولنلاحظ الترابط بين المفردتين- تغدو مركز السرد، فيما الحكايات والقضايا الأخرى تأتي على هامشها، أو تُولد من رَحِمها.

 

محطّات الرحلة

هذه هي، باختصار، قراءتي لرحلة بدري لـ"استعادة" العود، وهو في طريق رحلته هذه سيروي للقارئ، بلسان الراوي غالبًا، وبتدخّلات من المؤلّف الذي يجسّد دور الراوي العليم أيضًا، مسار رحلة الفلسطينيّ كما جاءت في العنوان أي "يافا.. بونيس آيريس.. يافا"، منذ أول فلسطيني حطّ في تلك البلاد، وصولًا إلى تجربة بدري فيها، وكيف شكّل ثروته من شركات وفنادق كبرى، وصولًا إلى قراره تنفيذَ وصيّة والده، وانتهاء بـ"العودة" إلى يافا، ولو بجواز سفر أرجنتيني.

وفي طريقه هذا، يتصدّى الكاتب لقضايا لا حصر لها، حتى يكاد القارئ يقول "وماذا سيكتب المؤلف بعد هذا العمل الذي (يبدو) أنه وضع فيه محصول ثقافته وتجربته كلّه"؟! ما يعنيني من هذا الطريق الطويل والصعب، الذي قطعه بدري، ما تضمّنه من محطّات في سبيل الوصول إلى "عود الجَدّ"، وتحديدًا محطات مثل بيروت وعمّان ورام الله والقدس، وصولًا إلى يافا. ففي هذه المحطّات، سيطرح المؤلّف الكثير من قضايا العرب وهمومهم، بدءًا من العلاقة مع الدولة العثمانية، حتّى الثورات العربية الراهنة، و"المصير" المأساويّ الذي بلَغته حتى اليوم. 

في محطّة بيروت، سوف يُعنى بدري بـ"آثار" جدّه، وإذ لا يجد شيئًا منها، يوجّه نقدًا لاذعًا إلى لبنان الذي "خان" هذا العلَم وإسهاماته مع الرحابنة، مستندًا إلى الكثير من الكتابات، وتحديدًا كتابات الباحث والصحافي المعروف صقر أبو فخر المتخصص بالشأن الفلسطيني عمومًا، وفي لبنان خصوصًا. ثمّ يدخل في بعض شؤون الفلسطينيّين في لبنان منذ الستّينيات، مرورًا بالحرب الأهلية، والحصار الإسرائيلي/ الصهيوني لبيروت، وغير ذلك.

وفي أثناء تحليقه من بيروت إلى عمّان، وفوق سماء دمشق يتمنّى أن ينزل في هذه العاصمة التاريخية للعرب، ويستعيد شيئًا من ماضيها وحاضرها. لكنّ المحطّة "العمّانية" ستشهد حضورًا واسعًا لبدري، من خلال علاقات واسعة مع عدد كبير من مثقّفي المدينة ومبدعيها الذين يذكرهم بأسمائهم الصريحة، لكنّ المدخل إليهم وإلى عمّان، يبدأ من الحضور السوريّ في المدينة، ممثّلًا في المسرحيّ السوريّ نوّار بلبل، ثمّ يأخذنا إلى جبل اللويبدة بمعالمه الثقافية، وإلى "قاع المدينة" بمقاهيه ومطاعمه وحاناته التي ترد بأسمائها الحقيقيّة أيضًا، ويرسم لنا المناخ الثقافيّ والسياسيّ السائد في المدينة من خلال لقاءات "النُخب" ونقاشاتها. وذلك كلّه يتمّ تقديمه على نحو شديد الواقعيّة، وكما لو كان يكتب "تقريرًا" لصحيفته أو محطته الفضائيّة، حتّى إنه ينقل خبرًا عن مهرجان مسرحيّ، وينقل آراءَ الحضور بإحدى المسرحيّات.

المحطّة الأهمّ في هذه الرحلة هي فلسطين، بدءًا من "جسر العودة" كما غنّت فيروز، وصولًا إلى العثور على رسالة/ وثيقة تشير إلى مكان وجود "العود". هناك، سيزور بدري رام الله وبيت لحم والقدس، ويلتقي الكثير من الشخصيّات، لكنّ موضع السرّ سيكون في يافا، في بيت اليهودية سيرينا التي عملت مع جدّه الموسيقار، وخلقت لديه إحساسًا بأنها تعرف مكان العود، فيخطّط مع السائق الذي يتنقّل معه، ويقوم بإبعاد العجوز التي تجاوزت المائة عام عن بيتها، ويقتحم البيت فيعثر على رسالة من "فريحة" عملت مع جدّه أيضًا تذكر فيها أنّ العودَ ما يزال في حوزتها، وفريحة هذه تعيش في أميركا (بروكلِن)، فيقرّر السفر للبحث عنها، حتى يصل إلى العود ويشتريه كما سلف الذكر.

هذا الإنجاز الذي تحقّق لبدري باسترداد "عود" الجد، ترافق مع إنجاز وقع في القدس، حيث قام بتأسيس "بيت العود الفلسطينيّ"، بحضور عشرات من الفنّانين والكتّاب والسياسيّين الذين يذكرهم بأسمائهم. وهذه سمة الرواية عمومًا، حيث يميل المؤلّف إلى استحضار معارفه، لإغناء المشهد ومنحه مزيدًا من الواقعية والصدقية، سواء على صعيد أسماء الأشخاص، أو على مستوى ذكر أسماء الكتب، أو حتى الأمكنة التي يستعرضها.

ففي ذكره للأمكنة الفلسطينيية، وخصوصًا حيفا، يتجوّل فيها كما لو كانت مدينته التي يعيش فيها، شوارعها ومقاهيها وفنادقها، في جولة تحمل بعدين أو أكثر، البعد السياحيّ السطحيّ للمدينة، والأهمّ هو البعد التاريخيّ والحضاريّ لها، حيث تبدو مدينة أسطوريّة مقدّسة، رغم الوصف التفصيليّ لجوانب من حياة الناس ونقاشاتهم.

وهذا ما يحدث تجاه كلّ مدينة يأتي عليها المؤلّف، حيث يبدي معرفة واسعة بالخرائط وأسماء المدن والشوارع والفنادق، كما لو كان دليلًا سياحيّا، ولكنّه دليل مرتبط بالمكان "ارتباطًا ثقافيّا" لو جاز لنا هذا التعبير، إذ يبدو هذا الارتباط، في حميميّة اللغة التي يكتب بها، وهي حميميّة تبلغ حدود التقديس و"الأسطرة".

 

 

                                

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.